Site hosted by Angelfire.com: Build your free website today!

Abdessalami On_Line

خـاطـرة
{ الـراحلة }

إن ما شجعني على الكتابة اليـوم هـي رغبتي الجـامحة في الإجابة على تساؤلكم المرير الذي ما أنفك أنظر إلى أعينكم حتى أراه منتصبا يهـاجمني بكل ما أوتي من سلطان... سؤالكم عن حزني وسهودي وعن أسباب دوام هجودي.. سؤالكم لم يحيرني بقدر ما حيرني تشبثـكم بطرحه علي كلما لمحتني أعينكم الكسولة السابحة في بحور المـحـال والعـاشقة لعوالم الأطلال... تشجعت اليوم فقررت أن أعيدكم إلى عالم الآمال بأن أزيح عن صدوركم ثـقـل السؤال و جبروت الحيرة وهوس الاحتمال...فأرجـو ألا يتعبكم شغب الألفاظ و طـول المقـال...

إنكم لم تعلموا بحـزني إلا منذ أمد قصيـر.. والحزن كان يلازمني؛ يسكنني... بل أسكنه منذ أمد بعيد مثل الأسيـر.. فالحزن كان مدفونا في أعمـاقي ردحـا من الزمـان، قبل أن أصيـر هدفـا سهلا يلهيكم، بل حتى قبل أن يكتمـل شكل السـؤال في أعينكم. سأروي لكم قصتي.. لكن بشرط أن تكتمـوا دهشتكم كلما فرضت عليكم كلماتي دهشة من "الدهشات" أو حيرة من التي أحتفظ بجدودها الأولين في عمق أحلامي، أصحبهم معي في قيامي و قعودي، ومقامي وارتحـالي، و في عصياني و انصياعي، في دموعي و أنسي و في كل حريق ملتهب شب في أشلاء السؤال الذي بدأ يتبعثر في حناجركم! سأحكي فلا تستعجلوني و سأرتاح فلا تستزيدوني.. إني ذاهب بكم في رحلة بعيدة إلى ذلك المـاضي الذي ضاقت بكآبته الآفـاق.. إلى ذلك اليوم الذي فـارقتني فيه و على شفتيهـا ضحكة استهزاء.. و سخرية لا تطـاق. أجل، لقد غادر تني بالرغـم من أن كل أصـوات الدنيـا انضمت إلى ندائي.. راحت بلا وداع.. اختفت و تركتني أسف رمـال الصحراء التي ابتلعتهـا.. اقتفيت أثرهـا الذي محته الريـاح؛ واستنجدت بالأريج الذي تركته في أنفي.. أشتم الزمـان و المكـان لا ينقصني إلا النبـاح...

تهت أبحث عنهـا في حضن أمي، و في دروب المدينة و أزقتهـا؛ وفي كل كلمة وفي كل حـرف. لقد ارتحل بهـا المكـان و سافـر على إثـرها زمـاني... لا زلت أذكـر عنهـا كل شيء.. ملامحها البريئة النيرة و ابتسـامتهـا السـاذجة البسيطة.. و غضبهـا الجنوني وفرحتهـا المفرطة الشديدة.. و عنـادهـا الذي يزول مع أول مشهد لم يتكرر من قبل.. مشهد انتحـار دجاجة في حقـول القمح..أو ذبـول زهرة في موسم ممطـر. لا زلت أذكـر أنهـا كانت تحمل في جـوانحهـا أحلاما أكبر منها حجما وأثـقـل منها وزنا وأوسع من البراري التي كانت تعدو وسطهـا لا مبالية.. لا زلت أذكر خفتها و حيويتها ولا زلت أذكر أيضا أنهـا كانت الأمل الذي لن يتكرر. كانت جميلة في جهلها و ذكية في خشونتها.. كانت تلعب وتمرح و كأنهـا لا تنتظر المفاجأة.. لا تنتظر راحلة الدهـر التي اختطفتها بغتة بالرغم مني و محض إرادتهـا و إرادة الزمن و الأقـدار. لقد حملت في عيونهـا كل الصـور التي التقطتها لـ... "الكانون" و"المجمر" و "المحمل" و "الخابية" و "الشـواري" و "الزنبيل" و "العجنة" و كلاب الحمري التي تتحـامل على فريسة وهمية.. لقد أخذت كل هذا خلف جفونها اليقظة و ذهبت عني بعيدا في أعمـاق المـاضي و التيه و .. الكلمــات!

لقد حملت طبول أذنيها كل الأغاني الشعبية و الأحاجي و المستملحـات.. وأ خذت ضمن ما أخذت معها كل ابتسامات الشيـوخ البريئة والقهقهات... أخذت حتى نبـاح الكلاب و طقطقة البرسيم وسط نار ملتهبة نحف حولهـا مثل الأكلة على قصعتهم... أذنيهـا ذات الإحساس المرهف، حملت معهـا "ماء زمزم أم .. أم .." . وحملت معها "حيط من ذا يديك لذا؟" . وحملت معهـا " قـاق يا غراب آش ذبحتوا؟" . و حملت معها "آالنو صبي، صبي! راه بّا حالف في ليقطعلي رجليّا.." . وحملت معها "رأيتها لطيفة.. رشيقة خفيفة" . وحملت معهـا

نلت عطفي وحناني / ثم فارقت مكاني
يا ترى هـل تهت عني / أم نهـاك الأبوان

تلك الأذنان الصغيرتان حملت معهـا كل هذا بل وحملت معهـا ويا ليتها ما فعلت..... حملت قولي لهـا يومـا، "إني أحبك!".. كل هذا جرى و تسألوني عن كمدي وحزني و امتقـاع لوني وفنائي كلي بأكملي؟!

في قلبهـا الصغير النابض بالبراءة و الصفاء حملت فزعي و انتشائي.. حملت خوفي وأنا أقتحم ظلام "الزقيق" بشجاعة المذعور.. وأخترق المفاوز والشعـاب بسيف "دون كيشوط" المفلول.. وأحمل ظلي على كتفي وأقطع الو هاد .. وأغزو القبائل وأحارب قطاع الطرق كالفارس المغوار و.... أقطع رأس الغـول و أ سير في ركب المغامرين في الأدغال و على جزيرة الوقواق نكتشف الأسرار... كل ذلك قرب نار ملتهبة أطلب الدفء حولها مع الأصدقاء و الحكواتي... ويدي من الرعب على عصا مكسورة من فرع "قشوطتي" التي تحتاج الى التجفيف. حملت في قلبها البريء كل أحلامي و تخيلاتي و أنفاسي و أسراري و كلي بأكملي..


لازلت أذكرها وكأن ذلك كان بالأمس فقط.. كانت قطعة مني لا تفارقني.. تخيفني ثم تطمئنني.. تبكيني ثم تضحكني، تألفني ثم ... تهجرني و هذه هي المأساة... سؤالكم لم يكن صعبـا و لكن الصعـوبة تكمن في فهمكم لمـا أقصد، في الحكاية التي لم تنته بعد.. في الوسيلة التي غاب عنها القصد.. و في الأيام التي عشتها خارج حدود الغد.. و في أحلامي و أنا في المهد .. وفي غصتي التي طال بهـا العهد.. وفي تجاوزكم للحد... و لا زال يطاردني، يؤرقني، يعذبني سؤالكم هذا الصلد..كفوا واسمعوا قولي.. هل حقيقة أنتم قلقون من أجلي؟! إذن أفسحوا الطريق للغم المحاصـر في سؤالكم كي ينفجر... اقرؤوا ماضيكم وانشروه كلمات.. إفعلوا مثلي و مثلوا فعلي.. ليس أقسى على امرئ من أن يرى سؤالا ينبعث من جـواب. هذا جوابي على سؤالكم ... فلماذا السؤال الآخر؟ لمـاذا أراه يكبـر تدريجيـا في حناجركم من جديد.. ككرة الثلج التي تبدأ في القمة صغيرة وتنتهي عند السفح كسلاح يبيد. تسألون عن سبب المأساة؛ و ما قد ولّى و فـات... تسألون مرة أخـرى من هي؟ من هي هذه الحبيبة التي هجرتني من دون سـابق إنذار؟! سـوف لن أترككم تنتظـرون طـويلا... حبيبتـي هي طـفـولـتي.. و أسـدل الستـار...\.

مبـارك عبد السلامـي

أرفـود
السبت 17 دجنبـر 1988

      Next = A Poem