Site hosted by Angelfire.com: Build your free website today!

من "مقام السروة"

 

نشوةُ الملاكِ أيضاً

لا تسميةَ للأخت لأنها تأتي قبل أسمائها.

الأختُ المبطِلةُ الموتَ إلى حين،

تحملها أسماؤها الشتّى في هبائها فتصير هباءً فهو الهباءُ الطلق.

أسمّيها بأحوالِ رعيّتـِها ورعيّتـُها الذكرياتُ ونحن.

أما الجسدُ فمنفىً.

يزرع الحديقةَ وسرعان ما يهزّ السياج إلى أن يطيرَ العطر. أما العصافيرُ فاكتئابٌ بعد ارتجاجِ الروح وصعوبةِ النوم في الأليمِ من الخيانة.

والجسدُ الفكرة، فيجنح الزورقُ خارج الميناء بعد الشراع إذا خارت قواه من مراودةِ الريح وضياعِ القناديل.

والجسدُ حَزنان لأنه يحزن.

شأن الروحِ الغلاّب يحزن، مثلما يفعل الملائكةُ عندما يؤخذون بنشواتهم ويحترقون في الهباء الطلق.

شأن الروحِ ينظر فلا تحمل نظراتـُهُ سوى الجروحِ الغامضةِ من غموضِها إياه ومن شدّةِ الهشاشة.

شأن النظراتِ عندما تصنع دموعَها بماءِ القَدَر ينزل من السحب ليروي ظلامةَ الحياة فلا يكفيها.

ويحزنُ حزنَ الليل الذي يحزن لأنه لا يكون لائلاً أكثر، وحزنَ الماء الذي يتخلّى عن النبع ولا يعود إليه.

شأن الشاطىءِ يتلمّس جسدَ اليابسة ولا يكون إياها. واليابسةُ تلك مهما استبدّ بها الشوق لن تعرفَ أن تسترخي في البحر كغيمةٍ منتحرة.

شأن المدينةِ تغلق الأبوابَ والنافذة قبل أن تشربَ الحرارة. ومثل الحزنِ تحزنُ النظرات إلى أن يستبدَّ قلقُ الأجفان في الملاقي من غير أن تستدركَ ما ذهب منها.

وشأن الحزنِ يحزنُ الجسد ولا يتمالك أن يرتجفَ من ذاتـِهِ المرتبكة ومن شدّةِ الرحلةِ أيضاً.

والجسدُ ضجورٌ لأنه يضجر.

شأن نجومِ العينِ والخوفِ يضجر الجسد لأنه طافحٌ من فراغِهِ بعدما استقرّ في الهوّةِ التي تنظر إلى فوق ولا تستطيع أن توصلَ النظرات.

وشأن العصافيرِ يطير الجسد بعد أن يشفّ، وشأنها يحطّ في الهباءِ الطلق.

ويضجرُ ضجرَها إياه لأنه يضيّع أجنحتَها ففي طيرانـِهِ يحترق ولا يعود يستجيب للحروق عندما تتبدّد على أوهامِ الأغصان.

وشأنها أيضاً، يأخذه وجلٌ لا يأخذ الملائكةَ الذين يرسلون إليه العزاء، ولكن بعد فوات الاوان.

والمساءُ يأسرُ الجسد أيضاً فينحلُ حتى يصيرَ خافتاً من فرطِ الوهجِ الهارب أو من بأسِ المرارة.

والجسدُ لا يعود قادراً على البوح لأنه القليلُ قلّةَ الليل عندما يحتجبُ القمر عن نجومِهِ أو يحتمي بالدموعِ التي تخفي النورَ فلا تضيئه.

والجسدُ ميّالٌ إلى الهزيمة كلما أحسّ بالنذير أو ضاق مقامُهُ بالنزقِ الباطن. وها السيلُ يمتنع عن النزول لأنه القعر. فلا الليلُ حينها تتمّة المساء ولا الأحزانُ إلاّ تتمّة ذواتـِها إياها كلما استتبّ لها الامر واكتمل نسيج اللاجدوى في الوقتِ الخارج من الدوام.

والحياةُ تألم من جرّاء البوار عندما يستولي على تربةِ الجسد. كذلك تفعل الشمس عندما تمنع ليونةَ الظلّ الذي يترك الشفيفَ من الثياب. أما النسيجُ فدمارٌ والتأوّهاتُ العتمة، فلا يخفّف الظلّ الوطأةَ ولا يبقى ظلاً.

والوقتُ حينذاك على السرير مصحوباً بدموعِهِ ليبلّلَ الأفكارَ والذكريات ويحول دون الجفاف الذي يستقبل الصباح التالي.

وها عندها يخرج الوقت من ضواحيه ليكويه الشرود، فلا يعود المساء يضيء ولا يعرف طريقَ العودةِ إلى الظلمة.

وعندها أيضاً تتجمّع الغيوم أمام أفقِ العين فتغفل عن مراميها ولن تستطيع استرضاءَ الورود فتحزن كلما تفتّحت لها الأكمام ولم تجد مكاناً في الفراغِ المبدّد، أو ضوءاً يقيها عثرةَ التأوّهات.

والخطواتُ المرتجفة تضيع في الصباح المفترض لأن هشاشتَها تشدّ الأزر فلا تحتويها مواطىء مهما تمادت جروحُها في الكتمانِ الممضّ.

فما فائدةُ الوقت المتبقّي عندما يغرّد إيقاعُهُ مع كلّ آهة، ويستولي رذاذُ الخسارة على تألّق العاصفة!

ما المعنى كلما سألناه أن يحتفي بالبقيّة فلا يرى سوى نظراتٍِ لن تجدَ مائدةً تتّكىء إليها! ما المعنى كلما رأينا أن السماءَ تغضّ الطرف فلا ترسل رأفةً إلى الكائنِ المكتوي بجروحِ ورودِهِ!

بل ماذا في وسع المشاعر أن تفعلَ حين الذي ينتظر عودةَ نفسِهِ إلى الأشلاءِ المبعثرة لا يستطيعُ أن يطيّرَ نظرةً من سجونِ العين ولا من أحلامـِهِ أيضاً!

ما المعنى إذا استجمعتْ ذكرياتُ الجسد شمسَ العاصفة وهي تئنّ في الباطن على إيقاع اللعنة، ولا تمنحُ المساء ضوءاً يقود التأمّلات في شرودِها غيرِ المرئي!

وما المعنى كلما نزلتْ دمعةٌ لتروي الوقتَ والبساتين ولا تجد شجرةً تؤويها بعد الاكتفاءِ بالعتمة!

الأختُ المبطِلةُ الموتَ إلى حين، ماذا أسمّيها؟

أذكرُ أنها الجسد فاذا ناديتُهُ من منافيه هبّ من أشلائه في الجميعِ من الجهات.

وإذا استثنيتُ الوقت، لم يبدر ما يجرح نسيجَ الغياب ويمنع حوكَ الهواءِ المتألّم حتى في هدأةِ العقلِ العاطفي.

وإذا استثنيتُ أيضاً، أجهشَ المساءُ بالثقلِ الرتيب فلا ترتفع نظرةٌ إلى السَّروةِ المجاورة لأن السَّروةَ منضمّةٌ على ذاتها، وروحَها الداخليَّ الشديدَ الوعورة مكسورُ الخاطر من شدّةِ انكسارِهِ إياه.

وإذا استولى الوقتُ الغفيرُ على الهواء لا يترك لعصافيرِ الأخت أو لأغصانِ الشجرة سوى الوقوع في فراغاتٍ مفاجئة. أما الحياةُ فلها الفجوةُ المنتظرةُ أن تمتلىء فلا تمتلىء بل يغمرها شعورٌ بانهيارِ معنى الصحراء عندما تنتشي بارتوائها المستحيل.

والآهةُ سبحانها بعد أن ينوبَ الجسدُ عنها، فلا تعود تتصعّد في فضاءِ الصمت مهما استبدّ الحريق الذي يؤجّج دفينها.

ولا النظرات تعود تعرف الطريق لأن الرفيفَ جريحُ ذاتـِهِ إياها، فكيف لا ينضمّ على الجروح عندما لا يحتمل الليل بقاءَها في الضيم الاليم.

أما فؤادُ الجسد فلا يضيع بل يهوي.

وعندما يستلقي على هوّةِ الأوجاع، يمنحه امتلاءُ الهوّة مكاناً لم يعد يعثر عليه في الطيّاتِ التي صارت الجلاّدَ والضحية.

وكلما شاءتِ الشرارة أن تشعل هشيمَ الفرقة في الأشلاءِ المنضمّةِ على آهاتِ ذواتِها، استحثّ فؤادُ الجسد هذا غيمةَ الحلم كي تأخذَه في الفضاء الرحب ليستريحَ من عناء الزمن أو لينسى.

أعودُ إلى التجهّم فليس هو في دموعٍِ تلي الفؤاد، بل في المضمَرِ الجرحِ بين الجسدِ العاطفيّ والجسدِ الآخر.

ولا تستطيع البسمةُ أن تحذفَ الحقولَ التي نبت فيها الشوك فجأةً، ولا أن تشيعَ الضوءَ عندما ينوء بنجومه، لأن التجهّمَ مقيمٌ حيث المساءُ آخذٌ في إسدالِ الستارة، وحيث الجدارُ حائلٌ دون الثُّغَرِ التي تمثل الحياة وراء دمائها.

والحياةُ هذه ترتطم بالكسور كلما سعتِ المرايا إلى ترميم الموهَنِ من الشظايا، أو تطلّعت إلى الشموسِ الفقيرة ولم تعثر على قميصٍ تقيها بردَ الأفكار والخيالات.

وماذا يكون للحياةِ هذه أن ترتجي بعد الهواءِ الذي أخذته الشجرة إلى الهاوية، وأيّ عبورٍ ينتشل ما سقط من الجسد عندما يلمع الفؤاد في الصعوبة ولا تحتوي لمعانَهُ مرآةٌ أو تقتفي بريقَهُ ثمرة!

والتجهّمُ يردم المساء ويقتطع من مسافة البحر آهةً ونظرة.

والتجهّمُ يرفع شجرَ السَّرو ويضمّه إلى الباسقِ من الأوجاع، فلا تخرج همهماتٌ من سكونِ الغصن بل ظلمة.

والتجهّمُ ليس في وجومِ الوجه بل في الحقلِ المجاور، عندما يهمي الفؤادُ الأخير من تلقاء النبضات ويبدّد عطورَ الزهر خارج فضاء العين في الموقعِ الممضِّ الذي لا يمهل إلى الغد.

والتجهّمُ نزهةُ العقل قبل العشاء الأخير.

والتجهّمُ نبيذُ المائدة التي ستظلّ فارغةً من عطورها. فهو مرآةٌ وليس صورة.

ولا تتذكّر المرآة أنها متجهّمة إلاّ عندما تلتهم الظلمة. يسحرها السحرُ أو تمحوها أيدي الملائكة فترتعش من شدّة كسورها وتخذلها المعاني. ولا تعود العين قادرةً على محو الفضاء وجروحه، لأنها تربك السوادَ بالبليلِ من النظرات ولا تستبدل المشهدَ المجلوَّ بأفكاره. والعين تسيء الظنَّ بالحياة لأن الوقت لم يعد يعلو بعطورِهِ إلى القمر بعدما صار موحشاً من فرطِ الجسد وهو وحشتُهُ إياها.

أعودُ إلى البحرِ الذي أقفر من الميناء، فلا النظراتُ تعرف الوصول بعد تعطّلِ البوصلة، ولا غرائـزُ الجسد ترفع الأشرعة للمراكب. والبحرُ ينعم النظـرَ إلى القمر ولا تحتمله كآبة، فهو الكئيبُ أيضاً من كآبتـِهِ إياها، وشقيقُ العاطفةِ المبدّدةِ في المطلقِ الفؤاد، عندما يشتدّ جنوحُ المركب داخل العقل ولا يكتمل نسيجُ الأشرعة لوقف شرود الهواء .

ثم أعودُ إلى الروحِ الذي لا يشغل أمكنته لأنها ضاعت، فأسألـُهُ أن ينتعش كي يحتملَ نظراتِ الهواء وعبورَ العصافير، فلا يهتدي إلى القناديل ولا إلى الميناء بل يتبدّد من التلقاء ممعناً في جمعِ المياهِ للغيومِ في انتظار أن تمطر.

أعودُ إلى الروح فهو منّاعٌ بل ضنينٌ وممسكٌ نفسَه إياها، كلما تمنّعَ الحزينُ الجسد عن استدراكِ يقظتـِهِ الباطنة. ويفرّ فرارَ الهواء في العاصفة، ولا يعود ينفع كلَّ ما يسدّ المنافذ. فالذي يفرّ فليس من ثغرةٍ بل من لامكان. ولا تعود شرارةٌ ترشد الغابةَ إلى حدودها، كما لا مرايا تمسك شظاياها عن تفادي التبدّد.

ليس الضجر ولا الحزن لكن سماؤهما. ولا الفرار أو التمنّع بل أفكار الجسد تنوء بصفاتها فلا تكتفي بالعين ولكن بملائكةِ جروحـِها.

والجسدُ هيّابٌ موتَ الحديقة بعد فرارِ الهواء.

ومثلما ترتجف الثمار كذلك ترتعش ظلالها لأن الشمسَ لا تضع حدّاً للرطوبة بل تردمها بآهاتها.

والعصافير تنسى أنها العصافير فتخفض الأجنحة كي لا تفسدَ حجم الهواء وما تبقّى من النظراتِ المعطّلة.

ويفترض الجسد أنها تفتح سياج الهواء بنظراتها فلا تجرح السرَّ عندذاك بل تهمس كي ترسل التحيةَ الخفيضة إلى الملائكةِ حارسي الجسدِ الكليم، فلا يتخلّف سرٌّ عن الأوان أو شرارةٌ تندلع لتشوّشَ هدنةَ الركن.

ويفترض الأحبّةُ أن الملائكةَ همُ الأصدقاءُ أيضاً، فيرتاحون بين أياديهم كمن يأوي إلى العتمة التي يظنّها الظلال فيبلغ مديةَ الحياة لأن بها انقضاءَ المدى.

ولهم أن يفترضوا أن الترانيمَ متأهّبةٌ من أنغامها إياها، وتحفّ بالجسدِ الذي يأوي إلى رمادِهِ بعد أن يبلغَ ميداءَ ذاته ومنتهاها.

وإلى أن تضجـرَ الرسائلُ من النظرات، يظلّ الجسد ينتضد بأشلائـِهِ ويضمّ بعضَها إلى بعضها مبتسماً للجمرةِ المشعّةِ من غير أن يصطفي حريقاً يشعل به الغيابَ بعد اقتراب الأوان.

أعودُ إلى الضوءِ الذي ساهراً على حافّةِ السرير. فلا هو النهار ُولا هو نوحٌ يستنيح فيستبكي مثلما يفعل بالطعنةِ بعد أن ينهرَها لتصيرَ نهراً.

أما الحريق ففي ضواحي الجسدِ الكليمِ والمرامي، وها يؤجّج الفراغَ الدامسَ في الجماعةِ وفؤادِها، ويثير غرائز الذكرى فتحول دون ترويضِ العقلِ العاطفي وأفكارِهِ.

وها المائدةُ لا تستحبّ طعامَها بعد كفافِ اليدين ونظراتٍ كانت العطورَ للنكهةِ الغامضة.

والضواحي رعيّةُ الجسد وأهاليه، فلا هي تستوحش الحياة لامتناع أسبابها، ولا للمساء تغتفر استمرارَه بعد فرارِ النهار.

وماذا ينفع الذهاب إلى هناك والأختُ ماثلةٌ أمام عينيها، وكذلك المتبقّي من الزورقِ المكسورِ الخاطر على مسافةِ نظراتٍ غامضة وهمسةٍ لا تصل لفراغ الوقت!

والكفاحُ المبطِلُ الموتَ أبطله إلى الحينِ الصاعق لأن السماءَ التي أرسلُ إليها التأملات لم تعرف أن تشيلَ الوطأةَ مع أنها مجروحةُ الملمس في الشتاء، ومجروحةٌ أيضاً في الفصول من شدّة أفكارها، وكذلك الليل الذي يغطّيها بسحبٍ لا تدرك معنى الدموع مع أنها دامعة.

وماذا أقول للسؤالِ المرتجف من خوف الشفاه، ولا يتجاسر أحدٌ أن يهتدي بنظراتـِهِِ إلى الأشلاء المنيعة، حيث، وراءَ آلامِ الثياب وآهاتـِها، لا يمتثل الروح للموت المفضي إلى الفراغ الطلق!

ولا يجدي أن ترسلَ الحياةُ شقائقَ النعمان، عندما يشتاق الحنين إلى جرحٍ أقلّ كي يرتدي بسماتٍ سابقة ويلمسَ الهواءَ الذي يلمع في الفراغِ المطلق.

أسمّي الأختَ بكفاحِها المبطِلِ الموتَ إلى الحين،

بحنينها أسمّيها، وبلمساتِ الايدي الضاحكة لما علق على الجدران من العطور.

ولا تفعل الأخت. سوى أنها زهرة السؤال، أما العطرُ فيطير في فضاء الملائكة.

وها هناك تسبح الأصوات في خضمٍّ ملبّد والعقلُ العاطفي ينوء بالهزائم فلا يجد متّسعاً لوردةٍ تكسر مسافةَ الفراغ وتنوب عن الكآبةِ التي تستشري في الرحبةِ الأرجاء .

والأختُ كأسٌ كئيبةٌ كلما تفقّدتِ الكأسُ جوارَها فلم تعثر على قهوةِ الجلوس وعطورٍ ألفتْ ملمسَها.

والأختُ تعرف أن السماء قريبةٌ إذا أرادت، ومع ذلك تخشى الذهابَ إلى حيث لا فائدةَ من الشكل ومراياه.

والأختُ دائمةُ السعي إلى استردادِ الظُّهرِ الذي أفلت فجأةً قبل القيلولة، وكلما همّت به سالتْ قطراتٌ لا تعرف المكانَ من شدّة الخيبة.

والأختُ تعجز عن تفهّمِ الغيمةِ التي يتبدّد شكلُها كلما اصطخب الريحُ في المقامِ الذي ينال منها. فلا هي تختار أن تشفقَ على ما تبقّى من السحابة، ولا حنانُ الغيب يتيح لها أن تستعيدَ لوحةً نسجتْ ذاتها في الافق.

وحين تختطف الأختُ الذكرياتِ الآفلة، تمعن في إرباكِ الشريطِ المرير وإشاعةِ الصرخاتِ المرتدّة عن الشفاهِ وارتجافاتـِها الساهمة. وتتشدّد الأختُ لاستجماع أشلائها بعتابِ النظرات، وتستنهض جمرَ المحبة ليدفىء عنها الفتى الذي صار السَّروةَ المضمومةَ على بسماتها.

أما العزمُ الخائر فهزيـمٌ لأنه غيثٌ لا يستمسك كأنه منهزمٌ عن سحابة. وهو الأختُ فتتهالك في المكان الذي لم يعد عذباً، مكتفيةً بكفاحِ النظرات حين لا بدّ من الاسترسال في المرارة. ولا تعود الصلاة تكفي لتوجيه العتاب إلى حيث تشيح المعجزةُ بنظراتـِها عن التعبِ المنهِكِ الأفئدة منذ الصباحات.

ونعجز عن استدراكِ الأخت بأكثـرَ من الأبيضِ الحب، ويعجز الملائكةُ الذين على مقربة، حين بثقلِ الأتعابِ ينوء الحب، بعد أن يكونَ الغدرُ استجمع قواه في الهشِّ من الجسد واستفاض الغياب في بسط سلطانه على التفاصيل.

ولا نفعل سوى هذا، وأحزانٍ مُضافةٍ إلى تلك الشاغلةِ حيّزَ الحياة في الجماعةِ المجروحةِ بتعبٍ لا يندمل.

ونصنع المحبةَ صنعاً يشبه أحوال المائدة، فنستبقي العاطفة في الدفء الذي لا يحلو له أن يغادر على رغم الشقاقِ الآخذِ في الرسوبِ إلى القاع، حيث الدموع مشفقٌ بعضُها على بعض وعلى الودِّ الذي ينوء بالخلل، ولا أحد يعرف كيف يمكن تدبير النهايات في الوقت الذي يغفل الروح عن السهر.

والأختُ مدركةٌ أن الصبر شحّ زيته لأن الجسد نافدٌ أيضاً، فليس سوى ما يرنّ على الوجنتين، ولا يخفّف بل يشعل الغرفةَ الضئيلةَ بأسى الثياب عندما تشتاق إلى رائحة الجسد. والجسدُ مُلقىً، والأختُ مُلقاةٌ فيه، فلا خلاصَ يحول دون الفرارِ من الأوّل، والأوّلُ الجسدُ ينوء لكنه يكافح حين لم يعدِ الكفاحُ قادراً على تسطيرِ رسالةٍ إلى الورودِ المضمومةِ في الإناءِ المقابل، ولا على تضميدِ جروحِ الذكريات التي ستكون أسيرةَ الفراق بعد حلول الساعة.

والأختُ مساءٌ جريحٌ عندما لا يلتئم الفراق إلاّ في الأوان المتأخر، أي في هزيعٍ يلي الجسدَ الشديدَ التعلّقِ برعيّةِ الحياة وطقوسِها.

ولا ترتجف دمعةٌ في أوهام الكون مع أن الأفقَ آخذٌ في التلاشي تحت النظرِ المبدّد.

والحوارُ لا يجفّ ماؤه من الخوف، بل ينوء تحت أوجاعٍ مبلّلةٍ بالآهات ونظراتٍ لا تكفّ عن إرسال اللومِ الكثيرِ في الفراغ.

والأختُ جيّاشةٌ لأنها ترسل ينابيعَ في الارض وتحتفل ببسماتِ الملائكةِ الذين لا ينامون. وهي تفعل هذا بالشغفِ المتمكّنِ من الفؤادِ الحارسِ الليلَ والنهارَ والأوقاتِ الأخرى. وإذا تعثّر الروح ولم يُمسكِ الأشلاءَ عن التبدّد، فاحت في فضاء الغرفة ارتجافةُ الشفاهِ العاجزةِ عن إدراكِ الجدوى من استمرارِ المساء. ثم لا يعود يسعف النظر إذا صار الربيعُ الجديد مدعاةً للأسف الجمّ كلما هبّتِ الشمس وأرسلت إلى المكان بسماتٍ تطيش خارج مرماها. واليأس يبثّ اللواعجَ فيأنس اليها إلشجرُ المرخي حزنـَه على الغرفةِ الآخذةِ بنظراتٍ مرميّةٍ على الجدار المقابل.

وفي حين تجهش الأختُ بثيابها لا يعود النفس قادراً على تصعيد الحياة من الفجوةِ المرميِّ فيها الروح. وتفعل هذا في الصباحِ عندما يسحب الليلَ غيرَ الآبهِ لما يجرح المشاعر ويطيّب خاطرها.

وترى الأختُ النعاسَ الهاجمَ إلى الأرجاء المتداعية وتخشى الذهابَ فيه إلى حيث لا رجعةَ، لأن الخوفَ يحصد الوهج المتبقّي فلا يحرس المحبةَ سوى الارتعاشاتِ وظلالـِها. ولا ينفع كلّ ما يتجاسر فيها عندما يتحامل على الفريسةِ جسدِها فيعود القهقرى حيث لا ماءَ يكفكف المشقّةَ ويكفي لاستنكار الهزيمة.

والأختُ قليلةُ الوطأة لأن خفّتها تعالج الهواء عندما يقتتل في الفسحاتِ التي تفصل الظلَّ عن الضوء. تنسرب ضآلتُها الخفيفة في ظلمةٍ لا علاقةَ لها بأختفاء النور بل بتراجعِ فكرةِ الجسد. وفي الوقت ذاك، يختبر الداخلُ آلامَ النزولِ إلى القعر بما يشقّ على الروح أن يصدّقَ الهزيمةَ بعد التحليقِ الجميلِ في الروضةِ المشغولةِ بأزهارِها والأريجِ المسعف البسمات كلما تهاونتْ هذه في إرسال الودِّ إلى الرعيّة، ومجّاناً إلى الكون.

ولا تعرف الأختُ إلاّ القليل وقليلُهُ كثرةٌ لانشغالِ الشوقِ بالعودةِ إلى النبع. هي الأختُ يصنعها الشوق مثلما تفعل الأعجوبةُ بالجسد وهو رميم. وكلما تذكّرتْ أنها لا تعرف، أو استبدّتْ بها آراء العقل الآخر، خسرتْ فكرةَ النبعِ الذي يحبّ أن يجهلَ مصيرَ انصرافـِهِ إلى حيث لا مفرّ من الاستغراق الابدي. وكلما أدبر الشوق من جرّاء العقل، اهتزّ النظام الذي كان إلى الوقت ذا، يسعف الأشلاءَ في افتراضِ الذهابِ إلى الشموس، واستسقاءِ الحلم بعدما أقفل الليل النافذةَ المطلّةَ على وصيفات القمر.

والأختُ الممزَّقةُ أوصالُها، ترسل المكسورَ من أجفانها إلينا، وإلى السَّروةِ الريّا ومكانٍ آخرَ سرعان ما يبوح بفؤاده الكليم. ولا اكتئاب إلاّ لأن الروحَ مدركٌ فواتَ الأوان وأختلالَ النسيجِ الذي اجترح المودّةَ للجسد طوال الدموعِ المتلألئةِ ببسماتـِها. والسماءُ التي تعوّدتْ أن ترفعَ السَّروةَ في الفراغ لتحولَ دون رتابة الخواء، أو لتؤنسَ الموتى الذين حلّقتْ أرواحهم بعد الجسد، نسيتْ أن تترك نجوماً على النافذةِ المشقوقةِ الستائر.

السماءُ نفسُها أغفلتْ إيقاظَ الجنودِ الملائكة عندما استولى عليهم النعاس فلم يعرفوا كيف ينتشلون نظراتٍ أرسِلت إلى الأعالي تضرّعاً، بل سدىً والتهمها المطلقُ الهواء.

لم تشأِ السماء أن توضحَ كيف يمكن ترميم الجسد بالأعجوبة بعد خرابه، ولا متى تشفق على المساء فتسدل له الستائر ولا كيف تمنع أهبة العقل والروح وتحول دون جنوح المركب بعد فرار القبطان.

والسماءُ إذا فعلتْ، فلأنها تعرف الفؤادَ الذي يشرق من صلواتـِها ويرسل الإيقاعَ إلى النغمِ الذي بات يتيماً.

السَّروة هي الأختُ كلما اجتمعنا حولها، فلا نقع في الصخب لئلا تضيعَ الرسالة، ولا تعرف بنا الظلال لئلا يحزنَ الضوء الساهر بيننا على رغم النعاس، ولا الغابة تعرف كي تظلَّ الأغصان ُعلى ألوانِ هديلـِها، ولا نشغل الكلام كي يبيتَ الصمتُ المشعُّ قادراً على إشاعةِ المحبة، ولا تنزلق مياهٌ من الحزينِ النبع لأن الأعينَ لم تشأ أن ترمي جمرَها البليلَ في الهاوية. والسماءُ التي تعوّدتْ أن تقولَ للسَّروةِ العاليةِ تعالَي، لم ترسل إليها العصافير ولا الضوء، ولم تستطعِ السَّروةُ أن تظلَّ عاليةً لأن العاصفة ضجّت بها، ولم تشأِ السَّروةُ هذه أن تتهاوى، بل انضمتْ من تلقاء الجسد الذي لم يعرف كيف يرمي جروحَه خارج الحديقة.

السماءُ التي ندعوها إلى المائدة كلَّ صباح، لم ترغب في النزول فبقينا حيارى، كذلك فعلتِ الطاولةُ والكراسي ونظراتـُنا الطائشة.

والسماءُ التي قادت خطواتـِنا، لم تجدِ الكرسيّ الذي يصلح للأخت فظلّت وقوفاً في الهواءِ الذي أمعن خراباً.

أعودُ إلى الجسدِ ونثارِهِ فهو المبطِلُ والفاعلُ أيضاً.

أكتبُهُ وأريدُ الثمار. ترتّب حياتَها بهدوء النبات ثم تغادر في تباشيرِ الصيف.

تجرح الشجرةَ بالهواء كلما تململتْ على أغصانها، وإذا سقطتْ تجرح الشقيقَ الهواء.

أما الجسد فتجرحه بحضورِها وإذا أظلمتْ تجرحه بالغياب.

يزعم الجسد أنها ذريعة وتفترض أنها ترفع العبء بالسقوط. بيناعـِها تؤلم الجسد ويؤلمها أنه الوداع.

أذهبُ اليه من ثمارِهِ فهي الجروح، وإذا أغفلْتُ أذهبُ من المسام.

مسامُ الجسد مآقيه.

أوردُ الثمارَ وأريدُ أوجاعَها.

الحزينُ الجسد لا يؤوب إلى ثيابـِهِ بل إلى التراب.

أما الضوءُ فيقيم في الجسد إلى أن يضجرَ فينطفىء.

القلبُ ملاكُ الجسد، يقيم فيه إلى أن يحلَّ البرد فيطير.

الصرخةُ التي تنظر من علٍ لم تجد ثياباً ترتديها

أرسلتْ غيومَها إلى الغرفةِ في انتظارِ الدموع.

أما الصرخةُ فبلا معرفةٍ تصرخ أوجاعَها وتطير في أفكارِها المقسومة،

لا أحدَ يلتحق بها سوى هذا البهيِّ الآخر

فإلى أين يذهب!

لم يأبهِ الملاكُ الاليمُ حارسُ الباب لجروحِ الجسد بل لأفكارِهِ والأجنحةُ التي أرسلها بقيتْ على النافذة في انتظارِ العصافير.

الذين تحلّقوا في ملتقى الصباح ليسعفوا الملاك

صرَفَهُم وجْدُه إلى العقلِ العاطفي فتبدّدوا.

التعبُ لم يستطعِ الوصولَ إلى النافذة

خذله دفينُ الموت والأفكارِ المنقسمة على نفسها.

أما الجسدُ العاطفي فليس إناءً بل منفى.

والصرخةُ التي أطلقتْ نفسَها في الهواء

حطّتْ على شجرةِ السَّرو وبقيتْ فيها.

لم يعرفِ الحزينُ العقلُ كيف يؤوب إلى الإناء

شأن المغلوبين على أمورِهِم لأسبابٍ شتّى.

الحزينُ الجسد يرشد الليلَ الشخصي إلى النجوم ولا يستضيء.

وعندما أضاءته الحواس كانت العصافيرُ قد هجرتِ النافذة.

عندما أضاءته كان الجسدُ قد أسدل الستائر.

الأخواتُ والإخوةُ دموعُنا

إجعلْهم يا الله يبيتون في ملاقي الاجفان فلا ينهمرون.

الأختُ المبطِلةُ الموتَ إلى الظهيرةِ أعودُ إليها.

الأختُ تعرف أن الظهيرةَ سرعان ما ترفع الحياء فيحلّ النور الذي ليس ظليلاً، وتخاف الوقتَ فمعه ينزل السواد، وإنْ أقمرتْ، لأن الظبيَ يأخذه النشاطُ في القمر ويلعب، وربما يغترّ به ولا يحترز فيأكله الموت. ومثله يحلّ بالذين نحبسهم بين ملاقي أجفانـِنا فينهمرون وهم على مقربةٍ وتلتهمهم الهاوية.

إلى الأختِ الممعنةِ في استبقاءِ الجسد أعود،

لا تكتفي الأختُ بالقليل لأنها مؤمنةٌ بأن غلطَ الجسد لن يلبثَ أن يصطلحَ بعد اكتمالِ النجوى وإنهاكِ الخيانةِ التي ألـمّتْ بالبيتِ الكليم. وهي تفعل هذا لأن الوجدَ مجتهدٌ في محوِ الجروحِ بعدما فعلتْ فعلَها في مقامٍ لم يعد قابلاً للترميم، وكلما أوضح الصباحُ أن الشمسَ قابلةٌ للانتظار قليلاً، تكلّل الوجهُ الذي صار ضئيلاً بنظراتٍ لا تكفّ عن توجيهِ التحيّةِ إلى الحياةِ الممعنةِ في الفرار. والأختُ تمدح الشغبَ الذي عاد يستأثر بالجمر. وكلما تذكّرت أن الشارعَ ينتظر وقعَ الخطوات، استيقظ من نومها قمرٌ أمضّته النجومُ المرتبكة.

أعودُ إلى الأختِ المبتسمة.

فالبسمةُ أعمقُ الدموع وأحسنُها وهي ضحكةٌ قليلاً من غير صوت.

تبتسم الأختُ من ثيابـِها لأن ثيابَها وهي المحيّا ظلالُ القمرِ المبتسمِ من عرائـِهِ إياه، فلا تلبث أن تصبحَ الجسدَ الظليلَ ذاتَه من شدّةِ الضحكةِ التي تشيع من غير صوت، وهي القليلةُ لأنها الشديدةُ الطيران والظليلةُ لأنها روضةٌ كثيرةُ الأشجار.

فهي ظلالُ البحر، أي أمواجـُهُ، لأنها تُرفَع فتُظِلّ السفينةَ ومن فيها.

وهذه هي الأختُ تختفي لتستظلَّ، فهي الشمسُ تتظلّل فتستتر بالسحابِ لتنسحبَ فيه، فهو نسيجها، فما أظلَّها وأظلَّنا كالسحابِ ونحوِهِ الذي يشيع أمام العين فيحجبها ويشيع في السماء أيضاً. ومن تبدّدِ ضحكاتـِهِ والتراكمِ في الفلك يصير الأغمَّ الذي لا فرجةَ فيه، كالليلةِ الغَمّاءِ الطامسِ هلالُها، فإذا القمر فيها يغمّ النجومَ فيبهرها ويكاد يستر ضوءَها، فتصير ذات غمامٍ كالوجهِ يترك بسمتَه معلّقةً في سماءِ الغرفةِ والضواحي وفي روحِ الثيابِ والصور. ومثل هذا يفعل في صفحاتِ الكتب والأرصفة، وكذلك في الدموعِ وفي الغُمومِ وهي النجومُ الخفيّةُ المغمّمةُ كأنها مختفيةٌ من كثرةِ الماء.

وبسمةُ الأخت رميةٌ وسهمٌ يُرمى به إلى أقصى، أي إلى أبعد ما تقدر عليه الرمية. فهي غايةُ ذاتها. ومرماها الرنين، فهو الصوتُ مطلقاً أو الصوتُ الحزينُ الذي صار ابتسامةً لأن شقاءَه ألاّ يفعلَ هذا. فهو الحزينُ مطلقاً والمبتهجُ لأنه لا يستطيع أن ينوءَ بمرماه. فهو الفرح.

والبسمةُ وردةٌ لأنها تورِّد الوجهَ فتُخرج وردَه من غيبةِ القسمات ضحكاتٍ قليلاً من غيرِ صوت، فإذا هي نَورُ الجسمِ مثلما الوردُ نَورُ الشجرِ مطلقاً.

والبسمةُ أخذٌ بالوجه إلى حيث يصطفي ورودَه فيجمعها كأنها بين قسماتـِهِ ظلالُ الحديقة، فهو في أطرافـِهِ كأنه السياج. فالبسمةُ حينها دارةٌ أو هالةٌ في الوجنتين تبدو عند الضحك، وسرعان ما تغفر للجسدِ أوجاعَه فيأفل الألم إلى حينٍ عميق لأنّ أخْذَه لا يعود هيّناً بل بغلبةِ الصفاءِ الذي تهيّأ ليكونَ سعادةً.

والأختُ تفعل هذا كلما زهَـرَ الوجهُ فتلألأ ليصفو لونه. ثم تفعل بالمودّةِ التي من طينتها، وهي الطبع، فتوقد لنا وللاضيافِ فهي مزهرةٌ وشأنـُها زهّارةٌ وغفيرة، فهي أيضاً زهرةُ الآلامِ الزرقاء وفعلُها كفعلِ القمرِ إذا أرسل أريجَه بين النجوم وهو يفعل كذا إذا كان بدراً .

والأختُ ريّانٌ غصنُها فتأخذ للأمرِ نُبلَهُ وما يُهيَّأ لإتمامِهِ، فهذه ضالّةٌ توجَد عن غفلةٍ لا عن طلب، لأنها نباهةٌ بالفطرةِ بل مودّةُ الطبع. فإذا أخضرُ العائلة أخضرُ ناعمٌ وحسنُ المنظر، فهو رُواءٌ لأن ماءَ وجهِهِ عذبٌ وغناءَهُ ليأخذَ بالعين فيؤخذ بها، فهو حالة.

والأختُ تسبغ على الصباح ما يجعله أنيقاً بين الفتية، فهو قمرٌ يافعٌ وله حظوةٌ إلى أن يزهرَ سراجُهُ فيشتعل المنزل بالضوء حتى بعد انتهاءِ المسرّةِ ونزولِ الصعوبةِ على الليل.

ولن تنوءَ الأختُ بأزهارِ صباحِها، فهي القُمرةُ وأزهارُها البياضُ العميقُ الذي يخالجه اخضرار.

وللصباحِ قهوتُهُ فهذه بخورُ الصلاة.

وله يداه فهما لهفةُ هلالين.

وله النافذةُ فهي متَّكأ العصافيرِ وحكاية.

وللصباحِ نظراتٌ فهي ارتفاعُ ملاقي الأجفان لينضمَّ بعضُها على بعضِها في الأفقِ الذي يطير.

فهذه هي البسمةُ التي تبطل الموت.

فهي أعجوبة.

الأختُ المبطِلةُ موتَ الرعيّةِ، والمبطِلةُ مطلقاً موتَ أحبّتـِها.

هم المشفقونَ على الغابةِ فلا تطير من أيديهم،

والمشفقونَ على سياجـِها العالي فلا تأخذه السحب،

وعلى العصافيرِ لئلا تتهدّجَ في طيرانـِها فتقع في وهدةِ الجسد،

المقفلونَ بابَ الدموعِ لئلا تنهمرَ فتنزل الحياة منها، مثل سحابةٍ عميقةٍ لم تشأ أن تمطر فبقي فؤادُها محبوساً في نسيجِها الغضّ كي يظلَّ القمرُ بدراً لنفسِهِ فلا يتبدّد وجهُهُ وهو الضحكةُ مطلقاً من غيرِ صوت.

وهم المثيرونَ شغبَ المحبة وشمسَها، فكانوا إذا عطشوا لم يرتووا بالماء فابتسامتُها ارتواءٌ فهي سحابة. وإذا سافروا فعلى بساطها فهو المركب، ولا يجرفهم إلاّ سيلُ يديها فهو اليمُّ الذي إذا اصطخب ظلّ أميناً لفكرة الميناء، ومنارتـُهُ فؤادُها.

والأختُ ابتسامتُها غنّاء، فإذا غنّت فصوتُها العميقُ يشبه صلاتَها فهو ابتسامة. وترتّب له المحبّةَ فيكون مشعّاً كندرةِ الزمنِ عندما تقتضيه الومضة.

وابتسامتُها ليست صناعةَ وجهِها، ولو بدا كلّه ضحكةً قليلاً من غيرِ صوت. فهي صناعةُ النهارِ مطلقاً وفوزُها البقاء.

والأختُ المبتسمةُ من وجهِها إياه تفتح الفضاءَ كأنه سياج الحديقة، وتتلمّس الهواءَ كأنه الفؤاد، وتفتتح النهارَ كأنه طفلُها.

أما السياجُ فحدٌّ مصطنعٌ وسرعان ما يطير كالعطورِ فهو من صنفِ العصافير، وأما الفؤادُ فمودَعٌ في الظنِّ فهو خالصُ النسبِ قلباً ومن منازلِ القمرِ وسوارُ الروح، وأما الطفلُ فشجرةٌ ممكنةٌ وهو الغابة.

والبسمةُ حِلمٌ لأنها ذاتُ صفحٍ وتأمرها أحلامُها فهي الملائكة.

والأختُ المبتسمةُ تجلو ظلمةَ الليل فهي ماء، وإذا تغيّمتِ السماءُ أرسلتْ من لدنـِها قناديلَ تفتح الطريقَ للنجوم وتليّن الشدّةَ التي تعتري غابةَ المساء.

أذكرُ يديها فهما كتابُ الصلاة.

أذكرُ يديها فهما الميناء.

وأذكرُهُما لأنهما السياجُ العاطفي وهو يحمي أفكار َ الحديقة.

ليستا الصباحَ لكن رنينُ الضوء فيه، وليستا القهوةَ لكن مناخُها، وليستا الطعامَ ولكن روحُ المائدة.

ويداها ليستا الماءَ لكن دموعُهُ، وليستا الكآبةَ لكن هيكلُ الكنيسة.

ويداها ابتسامتانِ فهما الضحكتانِ القليلتانِ من غيرِ صوت.

وهما ملاقي الاجفان إذ تنضمّ على نفسها فتمنع نزولَ الماء ليكون مخزّناً إلى أوقاتِ الصعوبة.

المبتسمةُ من طبعها إياه، فهي المجتهدةُ لكي يهبَّ الصباحُ ويهتزَّ المنزلُ من حبورِهِ وهي المنشغلةُ بأحوالِِ الضوءِ كي يشيعَ فلا يظلّ كتوماً لأنه أيضاً ابتسامة.

ليست الإناءَ بل أفكارُهُ وليست الأزهارَ بل نظراتُها نحونا.

واللهُ الآخذ بحكمتـِهِ كلَّ ابتسامة، لم يأخذِ النسيجَ الكليمَ بيديه ليعيد حوكَ ما تبدّد منه.

وبسمةُ الأختِ التي أبطلتِ الموتَ إلى حين، وعرفتْ كيف تصنع الحديقةَ والأريج، لم تتناسَ الإهمالَ الذي ساور نظراتِ الله عندما همّت بالتقاطِ خيوطِها المنعشة فأسرع في الغياب.

البسمةُ التي كانت مغفرة، فتحتِ الأفقَ الذي لم يفتحه الله ونظرتْ إليه بتحنانـِها فهو المغفرة.

والموتُ الذي منعتْه إلى الظهيرة كان انتقاماً ولم تشأ أن تخدشَ هفوة اللهِ لئلا يقالَ إنها المنتقمة، فاكتفت بالحياءِ وسرعان ما اكتفت بالنظرات فهي انتقامُها. فنظراتـُها أعجوبة.

والأختُ بلادُ الروح فليست عبوراً بل المقرّ.

الموهبةُ التي تحرّك سطحَ البحيرةِ والنزولَ إلى القعر.

فهذه هي السَّروة وها مقامُها.

الأختُ المبتسمةُ أعودُ إليها.

فقد ذهبتْ إلى الشوق ولم تتركه عارياً. غطّته بأوراقٍ تتدثّر بظلالـِها لأن الظلالَ كثيفةٌ وضوءَها مشغولٌ بالنعاس. أما الشوقُ فمزمعٌ أن يُطلَّ كلما تغافل النسيجُ عن الهزيمة، ويحصل هذا في اللحظةِ عندما تعكف على شموعـِها المضاءةِ بأحاسيس، فلا تكتفي بآهةٍ بل بما يشعل رمادَها الذي يطير لا ليحلّقَ بل ليمحو نومَه الطويل في قعرِ المواقدِ المتدفئةِ بالصمت.

والأختُ ترتّب البحر وتدعو سفنَهُ إلى الميناء.

ولا تهاب الأختُ الأفقَ لأنها ترفع أشرعةَ الفؤاد لتردَّ العاصفة إذا هبّت في أوان الليل والتخلّي. وتفتح الأختُ يديها للموج كلما ارتبكتِ الأشرعةُ وأغلقتِ القناديلُ أبوابَ الميناء. والأختُ ترسل مناديلَ من حبِّها كلما تهاونت الاشرعةُ هذه في توجيه الرسائل إلى الصخب، فسرعان ما تنسج من شوقـِها والنظرات رداءً يحمي الذين لا تسعفهم أعينهم عندما تهطل الصعوبة.

والأختُ ترتّب الغابةَ وترسل إليها الهدايا نجوماً في الليل وحكايات، والأختُ تزيد أشجارَها كلما هبّت الاشعة ولم تجد ظلالاً تأوي إليها على مقربةٍ من العصافير. والغابةُ تعرف الأختَ من أشواقها فتفرش لها الطمأنينةَ وآهاتٍ لا يعرفها سوى الندامى المنصتين إلى الغيمةِ ونظراتـِها المبلّلة.

والأختُ ترتّب الليلَ بالأضواء فلا يظلّ الشارع وحيداً ولا يعود يخاف أو يغمى عليه حين تدهمه الأحلام. وترسل الأختُ الأحبّةَ إلى أسرّتـِهِم بعد أن تحمّلَهم عطوراً ورياحين من حدائقِ الجسدِ الذي كان، ولا تتوانى عن نسجِ الثيابِ المضيئـةِ للقمر كلما خرج من نعاسِهِ ليغتسل، وترسل إليه الوصيفاتِ والملكة كي لا تسرقَه الوحشةُ بعد انتصافِ الليل.

الأختُ تشرح للأشجار كيف يمكن الظلَّ أن يكونَ شديدَ الحنان، بل والأنوثة يكون، عندما يكتوي بخفوته فيحول دون الضوءِ الذي يقول الأشياءَ من تلقائها.

الأختُ تفترض مثل شعراءِ الحياة أن الحديقةَ أوسعُ من السياج، بل هي النظراتُ من عينيها تسمح للعبيرِ أن يخفّفَ عن الطيورِ والعميقِ من أفكارِها رتابةَ الفضاء. ومثلما تفعل بالأنين حين ترتّبه إلى الداخل، تفعل بالبحرِ فلا يظلّ بعيداً بل يقترب من تلقائـِهِ لمجاورةِ دموعـِها.

والأختُ تحتفي بالضوء مثلما تحتفي بجروحِهِ، وتصنع من البسماتِ ثياباً للحياةِ المتألمة، ومن أزهارِ الذكريات تصنع حديقةً للبلادِ المجدبة. ولا تنتظر الأختُ الربيعَ بل ترسل إلى الأشجارِ وهي كسيرةٌ ما يفتِّحُ البراعمَ وهي نيام، ولا ترتضي أن تؤخَذَ كسورُ الوحشةِ إلى النافذة فتوصي الجروحَ أن تصيـرَ عصافير والغابةَ أن تصيرَ حكاية.

والأختُ مرآةُ السماء حين تزركش البيتَ بالعقلِ العاطفي ولا تنسى أن تدعو البحـرَ ليكون مسافةَ يديها.

والأختُ تسأل الشرفةَ أن تظلّ مشغولةً بالحافة كي تهدّدَ فراغَها بالوقوع كلما همّ بافتراسِ النافذة.

والأختُ تعدّ الفصولَ مثلما تفعل البساتينُ بأشجارِها، وتخبّىء الكنوزَ في حياةِ يديها كي لا تفرَّ بسمةٌ في الهباءِ الطلق. ولا تخطىء الأختُ عندما تضمّ الهزيعَ لأن صلاتها تضيء الفراشَ للأحلام فلا يقع ليلُها في الهاوية.

والأختُ تفتتح الصباحَ بمناديلِ يديها، وكذلك تفعل عند الظهيرة، وما ان يهمّ المساءُ حتى ترسلَ الغابةَ فتكون أعشاشاً للعصافير.

والأختُ لا تهمل الحقلَ الذي من طفولتـِها بل ترويه بعواطفِ يديها والذكريات، وفي العيدِ تفرش نظراتـِها فتكون الملائكة، وترشح دموعُها زيتاً في الحزن فتصير أيقونةَ التعزية، وفي النهارِ تصنع النهارَ رغيفاً ليكون قربانَ المائدة وتصنع الليلَ قميصاً فينسج الكلامَ الذي يصير قصيدة.

لا تسميةَ للأختِ المبطِلةِ الموتَ ،

أسماؤها الشتّى تحملها في هبائها فتصير بقاءً فهو البقاءُ الطلق.

أسمّي الأختَ بأحوالِ رعيّتـِها ورعيّتـُها الغابةُ وغابةُ القصيدة.