Site hosted by Angelfire.com: Build your free website today!

من "لم أدع أحدا"

 

 

وحيداً ولا خوف

لم أعرف كيف أنجو بنفسي

عندما خرجتُ من جلدي قليلاً لأرى العالم

ولا كيف أحتمي

عندما قطعتْ عليَّ النجومُ عزلةَ العين

وسيَّل الحبُّ باطنَ رأسي.

لم أدعُ أحداً

ولم أُخطىء حين جاءني كثيرون ورددتُهم.

كنَّ نساءً في الغالب ومعهنّ أصدقاء

جاؤوا بحكايات مسلّية وقلوب

ومع ذلك رددتُهم.

هاكم القصة

أحببتُ في السابق أن أخترع الماضي

وأفكَّ أسر عمائه

لكني لم أعرف كيف أنجو ولا كيف أحتمي

ولأجل هذا لن يشاركني أحدٌ هذه المرة

ولن تتسع الحلبة لغيري.

سألعب وحيداً ولا خوفَ عليَّ.

جنوني جمٌّ والهاوية تعرفني

حواسي أكثرُ من خمس

وطيراني يشقّ الشمسَ الى ثمرتين

والفجرَ الى نهاراتٍ عميقة.

الأعالي أيضاً أراها من هنا.

لم أدعُ أحداً الى تفقّد الجسد مع أنه متأهب

كما أني لم أفتكر بأحد كي أدعوه الى الطاولة.

لم أفعل شيئاً لعينيَّ

ولم أستدعِ البريق

فقد كان فيهما.

ولكي أنظرَ

أرسلتِ النظراتُ نفسها فنظرتُ.

وفي الليل لم أفرش لهما

فالرموش كانت السرير.

ومن أجل أن أكتب

جلستُ فكتبتُ.

لم أشترِ ورقاً ولا كتباً ولم أحبِّ الأقلام

ومع ذلك كتبتُ.

فقد فتكتْ بي دمائي وطيّر الوهجُ أفكاري فلممتُها.

وعندما لم أجد ورقاً

أبقيتُ الكلامَ في يديَّ.

ولم أفصح كي لا أنكأ جراحي.

كثيرون أخذوا عليَّ هذا الترفع

وظنّوا جننتُ.

لكن الطاولة رتّبتْ دمائي وأفصحتْ عن الحكمة

غفرتْ لي وحدتَها الطويلة وبرودةَ الخشب في الشتاء ووحشةَ الكراسي في الصيف.

كتمتُ الضجر ولم أُغفل شيئاً

لأني لم أعد احتمل الندم.

لم أتسرع في الصمت ولا ترددتُ في شأن النساء

فقد كنّ أحابيلَ للهرب الى الذات أو الهاوية.

لم يكن هرباً ما فعلتُ بل عودة.

ولم أكتفِ بالأبواب

بل أغلقتُ نفسي لأن الحلبة لم تعد تتسع لسواي.

هاكم القصة

كان السحرة ينزلون في الليل

ويحضّرون الغرفةَ للضوء والمنظرَ للغيبوبة.

كان جنوناً ما يفعلون.

لهذا ظنّ كثيرون جُننتُ.

كانوا يرقصون بلا أجنحة أحياناً

وأحياناً بلا شكل

وتنهمر لأجلهم الابتسامات وفرائد الحكمة.

ومع ذلك لم أذكر أنها معجزة

أو أني تراقصتُ.

وعندما عطشتُ سيَّل الباطن جنوني فشربتُ.

وعندما كتبتُ

فتكتْ بي دمائي فكتبتُ.

فعلتُ ذلك كي أنجو بنفسي

لأني لم أعد احتمل الماضي.

فعلتُ وحيداً

ولم أتذكر أحداً من الشعراء والنساء

لأن الحلبة لم تعد تتسع لسواي.

ومع أن جروح هؤلاء تندمل لديَّ

فقد ظنّ كثيرون تناسيتُ.

لكن الأشجار كانت تهتزّ لوحدتي في الخفاء

وتؤمىء لي ثمارها في العلن.

كذلك فعل الأصدقاء والنسوة وأيضاً أفراد العائلة.

كانوا غائبين

ومع ذلك قفزوا من خيالي ونزلوا الى الطاولة.

أحبّوني ولم يحزنوا لأن الحلبة لي.

عرفوا أني مرةً

فتحتُ لامرأةٍ فبقيتْ طويلاً

وأني أعدتُ الكرّةَ مع أخريات.

وعرفوا بعدها أن الدماء تفتك بي.

كان جنوناً ما فعلتُ.

ومع ذلك لم أقل إنها معجزة.

نجوم الطريق

لم أيأس من العاصفة حين أشاعتِ الفوضى

وختمتِ الصيفَ بشمعٍ أحمر

بعدما أمضيتُ يديَّ في صنعِ أشكالٍ لها

وتسييجها بالفتنة.

اقتبستُ في الشتاء معاطفَ من نظراتي

لتقيها البرد

ونجوماً تدلّها.

لم أيأس حين تخيّلتْ أشكالَها ولم تفتعلها

ولا أيضاً حين أربكها الحبُّ

وجهّز لها غرائزَ مدهشة.

فقد شققتُ الجبالَ لكي تمرّ

وتكفّلت أشجارٌ أن تفتح لها معبراً تخرج منه الى الخيال

وشموسٌ هلّلتْ من أجلها.

ومع أني لم أهيّىء شعوباً تحتفل بقدومها

فقد استقبلَتْها أرضي

ويدايَ ضاقتا بالهدايا.

لم أيأس

لأن العاصفةَ كانت تسكن حبّي.

المائدة

انحنيتُ على موتي

لكي أنقذَ الحياة.

أسكرتْني أناشيدُ النازلين في الليل لترتيب حواسه

فانحنيتُ لئلا يخدشَ أحدٌ نزولَهم.

وكي أربحَ رهاني

تراقصتُ من الوهج

وقدّمتُ الكؤوس جيداً كي أهتدي.

ولأختصر

انشغلتُ بكائناتٍ غيّبتْني.

تفقّدني الآخرون ولم أجد بدّاً من الكتمان.

كتمتُ غيابي مثلما كتمتُ حضوري.

سهرتُ على الرغبات مثلما سهرتُ على الأفعال

حتى إذا استشرى الخيال

أسدلتُ الستار على الضجة

فلا تنوء العينُ بالنعاس

ولا يتثاءب السيلُ في انحداره.

كنتُ أحضّر فصولي لتكون صالحةً لأحوالها

فلم أُهدرِ المكان بضيوف آخرين.

كانت الرغبةُ في الكتابة أعمقَ من الكتابة

والرغبةُ في الموت أعمقَ من الموت،

لم تكن الرغبةُ في المرأة أقلَّ

ورغم ذلك فعلتُ.

ومع أني ندمتُ

فقد فعلتُ

وكان بودّي أن أرغبَ فقط حتى أرثَ لغتي

حتى أرغبَ وحدي كاملاً.

من مسافة الحواس والحواس الأخرى الى زوال المسافة

الى أن أشفَّ فأطير

حتى لا أراني

حتى أرغبَ وحدي كاملاً بدون ندم

حتى أرغبَ الى أن أدنو منّي

الى أن أدنو حتى أنقسم

حتى أصيرَ رغبةَ نفسي الكاملة

حتى أرغبَ لأرغبَ

وأصيرَ مائدةً

لأصيرَ مائدةَ رغبتي

فأكون الفعلَ والشوقَ إليه.

وأكون غائباً ولو حضرتُ. والعكسُ.

لتفعل الرغبةُ نفسَها.

فأكون الفعلَ والفاعلَ

ولأفعل، لو استطعتُ، بدون أن أفعل

ولأفعل بدوني لو استطعتُ

فتكتمل الصورة

وتسقط واو العطف

ويفرح الملائكة.

  

فردوس آخر

يفهم الصباحُ الخفيفُ أني ضئيلٌ أمام النور

فيخفت لي الأشعةَ ويبتسم.

يفهم أيضاً حاجتي الى الطاولة العارية

والكراسي التي تحمل أثقال فراغاتها

الى سيرةٍ تشيع حنكة اللامبالاة

الى فردوسٍ للخيالات المكبوتة

وآخرَ بلا ملائكة لجراحي

الى سَحَرةٍ يفتنون الريح ويحملون الضحكةَ على راحاتهم

ثم يربطون هذا العالمَ بخيطٍ قانٍ ويراوغون

الى نهارٍ لا يشعّ خلف النافذة

الى ضجةٍ تحمل العالمَ من أجلي مرةً في الحياة

ولا ترمقني باستفزاز

الى مقاهٍ تسبقني الى روحي كثيابٍ لاصقةٍ بالجلد الخافت

الى عاصفةٍ تأخذني تحت إبطها ولا تتوقف

الى فتنةٍ تفتنني كالبرق

الى بناتِ آوى وثعالبَ أمكر بها

لتهرعَ الى غرائزها ثم تعود إليَّ محمّلةً بالمعرفة

الى هواءٍ أكسره بنظرة ثم تكسرني النظرةُ نفسُها

الى شكلٍ أتغافل فيه عن الجميع وأتغافل فيه عن نفسي

الى هواء أمسكه بخيطٍ ليطير بي مطمئناً الى عتادي

الى مزايا الخفة التي لا تتعب من مراقصة النساء

الى فخٍّ أقبض فيه على فراغ نفسي وأرميه أمامي

الى سكينٍ أطعن به السماء فلا تنزف دمائي

الى سحابٍ أمرّر فيه الشمس كي أثيرَ ظلمتي

الى صُوَرٍ أختبىء فيها لأشتاق قليلاً الى ذاتي

الى استمالة الفراش في غيابي

والتودّد ليديَّ وغرائزي فلا تقف ضدي

الى موتٍ يأتي بلا تنبيه من كثرة ما تنبّهتُ

الى حقدٍ وغفرانٍ ليكونا أكثرَ مروءةً من الحياة

الى قبعةٍ أخفي بها مشقةَ الرأس وأسدّ رأس الهاوية

الى مزيدٍ من الجدران والأبواب المغلقة كي أروّض فضائي

الى خللٍ يصحّح نزق الأربعين

الى شخصٍ آخرَ غيري لا يصفّق لأوجاعه

الى كوكبٍ أقع منه على منظر العالم من دون أن أعود إليه

الى شِعرٍ لا يستدعي كلَّ هذه الغيبة

الى نساءٍ يملأن هوة الرأس

وينسجن بحرارة الجنس أشكالاً أخرى للأحاسيس

ويصنعن الحياة مرةً جديدةً لأجاور نفسي

الى نساءٍ يحتوين الجسد بشمسٍ تسلس قرانَ أشياءِ فراشِنا وأشعارِنا

ويقسمن الوقتَ نظرتين

واحدة لتطيش وأخرى لتطيش أيضاً

ويحضرن كي يصغن المودة ويخدّرن الأمكنة باعتذارٍ شديد

ويمحون الغبارَ العالق بالبصر.

يفهم الصباح الخفيف أني ضئيلٌ أمام النور

حيث على الدوام يحترق الكوكب الذي يفتح المشاعر

ويصنع للأربعين الفائتة القهوةَ الحارةَ وجمرَ الانتقام.

يفهم أني ضئيلٌ

فيسدل الستائرَ للواتي يسرِّبن الحياة لأجلي.

سماء صديقة

لم تخطىء عينايَ

عندما حال المطر دون خروجي الى الشارع

وتاهت يدايَ في زحمةٍ مفترضة.

فقد كان المشهد مؤلماً

والوقتُ يضيع كنظراتٍ طائشة.

الغيوم التي أمطرتْ

لم تبدّد حريقاً اشتعل في المقهى

ولا فعلتْ شيئاً تلك اللمساتُ التي تراكمتْ على الطاولة.

السماءُ الصديقة

لم ترسل إلينا قمراً في المساء.

بقينا حيارى أمام الزجاج

كذلك فعلتْ أيادينا.

كان الكلام مؤلماً أيضاً

لهذا استعضنا بحواراتِ الجالسين قربنا

وبأفكارٍ تعالتْ الى فضاء المقهى.

النادلُ الذي يرمقني من أطراف محبته

أشاح بعينيه قليلاً

ليلملمَ النظراتِ المكسورة بفناجين جديدة

ويُرفِقَ الحريقَ بهمهماتٍ لم تصل الى الشفاه.

الموسيقى التي صدحتْ في الداخل

سحبتْ دموعَ المرأة الى الرواق.

بقينا هناك طويلاً

فالمطرُ الذي في الخارج

جرف الحياة الى ساعةٍ متأخرة.

وعندما غادرْنا

كان النادل لا يزال يرمقني بكامل محبته

ويلملم بفناجين أخرى

كسوراً هائلة.

ومثله فعلتُ بدموع المرأة.

 

العشاء

ولكي أضرمَ سعيراً

حبستُ الحياة في غرفة

وأفردتُ لنسوةٍ مواقدَ كي ينصرفن الى الجمر.

لم أحبسِ الحياة

لكنْ دنوتُ من جسدي

وأشعلتُ حطباً ليستدفىء الشعور

وكسرتُ زجاج الليل فلم يتخرّب مزاجُ القناديل.

ولم تفلت إلاّ نجومٌ قليلة

عندما فوّتتْ عليَّ أن أرشقَ المقهى بها.

لكنها توهّجتْ لي حين أرسلتُ نظراتٍ من مزاجي

ودعوتُها الى العشاء.

لم أحبسِ الحياة

لكنْ فرشتُ الأسرّة للملائكة.

قبل أن نعود

عندما هممْنا بالمغادرة

رتّبْنا البلادَ والأصدقاءَ بقناديلَ من نظراتنا

ورفعْنا جبالاً شحذتْ لنا من شظف العيش سكّينَ النزول الى السهل.

عندها،

تركتْنا السواحلُ حيارى أمام البحر.

لكنّ الأرياف التي انضمتْ على نفسها

دملتْ جروحَ المدن

وأرسلتْ إلينا ملاءاتٍ للشتاء

وحنطةً نصنع منها خبزَ الكلام وقمراً لأوجاعنا.

لم نغِبْ طويلاً

لكنْ كبرْنا فجأةً

واستلقتْ على سطوح الأعين سنواتُ دموعنا.

غبْنا عميقاً، والهواءُ الذي لفح الحديقة

استنكر وجومَ الضوء في حركاتنا،

سَبَقَنا الليلُ الى الأهل ولم نصلْ.

لم نعرف في البداية أن نشقّ الطريق الى المقهى.

وهو حين قصدناه مرةً

لم يوفّر لنا الزجاجَ الذي يعكس المودة

ولم يشأ أن يعرفنا من نسائنا

بل من قسماتنا الساهمة.

عندما أتعبنا المسيرُ

رفضنا أن نتألم.

أرواحُنا كابرتْ على مضضٍ منا

وأطلقتْ طيوراً من آلامها تمشي أمامنا.

لم تُفضِ بنا الجُزُر الى القيلولة

لكنْ الى أعمارٍ عميقة.

صادقتْنا العصافيرُ التي هناك

وأخذتْ نسقاً لأشجار الشارع منا.

الصمتُ غمر شمسنا بالغيم

وأرسل الى الليل همهماتٍ حميمة من انتظارنا.

البحرُ أيضاً تودّد نحونا

والدموعُ المغلقة عرفتْنا

لأن وجوهنا كانت مغلقة.

كنا عندما صفّق البحر لنا

نضحك للطريق التي أخذتْها العاصفة

وغافلتْنا.

كذلك فعلنا عندما لطّف رذاذُ الجنس عقولنا

فحفظناه لنروي به في الموت حديقةَ أجسامنا.

غبْنا عميقاً عميقاً.

لكنّ الأنهرَ التي جرفتْ أصواتنا

خاطبتْ أوجاعها قبل أن تعود

فعرفْنا أصواتنا للتوّ

وطرْنا بخيالاتنا الى المقهى

وصفّق لنا النادل الذي، حين قدّم القهوةَ لنا،

أعاد أيضاً نظراتٍ أبقيناها في فناجينَ سابقة.

كذلك انفعلتْ صُوَرُ المرايا التي حطّتْ عليها وجوهنا.

قبل أن نعودَ الى مقهى حياتنا.

النهر الغريق

ماءُ الذكريات الذي غمر الرأس

ظلّ يؤلم الشتاء هنا.

والنهرُ الغريق داخل مجراه

بقي غريقاً داخل مجراه،

والرفاق الذين هناك

لم يذهبوا بدوني رغم صرخاته المستنجِدة.

كنا،

قبل ذلك،

ننزل إليه لننتشله من الضجر

ونرفعه قليلاً الى ضحكاتنا لينشف.

ماءُ الذكريات ظلّ يؤلم الشتاء هنا

ولم يسحبِ الغبارَ الذي غبّش أوجاعَ النظر الى الموتى

والتهم رسوماً معلقةً على الحائط

وصُوَراً جرحتْني حين لم أكفّ عن مخاطبتها.

الكؤوس التي شاركتْني السهرةَ

كانت ترافق هدوءَ المقاعد الوثيرة

في الركن المصطلي بأوجاعه.

بقيتْ عينايَ هنا،

خارج نظراتي.

ولم يسألني أحدٌ أين تطير التأملات

بعد أن تختلي بنفسها الثيابُ المعلَّقة في الخزانة،

ولا كيف تتصاعد حواسي المريبةُ الى الجبال

عندما تكفّ الحياة عن البقاء.

ظلّ ماءُ الذكريات يؤلم الشتاء

ويغمر الموتى

وظلّت ظلمةٌ تلتهم ظلمةً هنا.

حنين

العشاءُ الذي يقيمه المساءُ لي

مدعاةٌ للمشقة.

لكنّ الرفاق يهوِّنون الأمرَ عليَّ

فنأخذ الموتَ على غفلةٍ منه

ونرميه عميقاً عميقاً،

متذرِّعين بعبور الماء في هلوساتنا

وغيرَ آبهين لصوته الأجشّ.

بعدها،

أغيب في سحابة،

فأمطر الأرضَ مع الرفاق

بوابلٍ من دعاباتنا المرّة.

وتهبّ ثعالبنا المتربصة

لتغيرَ بالدهاء وتعودَ بريشٍ ودماءٍ وقصائد

ثم نطلق الرصاصَ الخادعَ ابتهاجاً،

مصوِّبين على أجنحة تخييلاتنا

لكننا لا نلبث أن ننتبه،

فنستعيد الحلبة لنرقصَ،

الى أن نقع،

ويأتي العرّافون ويرشّوننا بالماء ويحرقون بخوراً ويرفعون صلوات،

فترتدّ أرواحنا.

لكنّ الحياة تأخذنا في غيبوبةٍ معاكسة،

فأجلس من دون الآخرين الى العشاء الذي يقيمه المساءُ لي،

وأبعث بأحلامٍ وذكرياتٍ الى الديار

والثياب الصوف لمحبة الأهل والأصدقاء.

ظلالي

الذين أحببتُ وكرهتُ،

استجمّوا في الذكريات،

وفي موتي استراحوا كعائلة،

ثم طاروا بنظراتي العميقة.

هؤلاء ظلالي وأمواجُ البحر تحرّك سفنَهم

كلما ضاق الوقتُ بي.

كانوا رغباتٍ تستجلي قناديلَها

طاروا من أسفار موتهم لينضمّوا الى موتي

طاروا لأنضمَّ إليَّ،

كأنهارٍ تستعيد مجراها بعد ضياع.

جاؤوا بكثرة وظلوا نادرين،

كغيبوبةٍ تقسم الشيءَ حياةً وموتاً.

المساءُ الذي حلّ بهم،

مهّد اللحظةَ لكأسهم اللائلة،

ورتّب الشجرَ في الخارج لكائناتٍ غائبة.

حين أشعلوا،

استجمعوا علوَّ جنونهم،

ليكون سقفَ شتائهم البارد،

فلا ينفرد البردُ بجمرهم فتألم الغابة.

في الشتاء،

سبقوا حياتهم الى الغيوم،

وبالجبال ارتطموا.

أرواحُهم جاشت كورودٍ عالية.

وكورودٍ لا تكفّ عن التأمل

خطفوا الأعينَ وقساوةَ النظرة،

الهواءَ ملأوا بالشجر المحض.

كانت قراهم تصحو قبل الشمس وتوقظ الليل بالهمهمات

تستدرك الغابةَ بزهرة،

وتكتب السهلَ نظراتٍ خضراء.

هؤلاء استفاقوا من موتي،

وشغلوا الغابةَ بأشجارهم

وأشجارُهم خطفتِ الغابة.

وعندما همّوا بالمغادرة،

تأسفتِ الغابةُ لأنهم سبقوها.

لكنهم حين فعلوا ذلك،

أشعلوا وراءهم ظلالَ الملائكة،

كي بدفء وجعهم يستشعرَ المكان،

وببخور قدّاسهم تبتهجَ السماء.

من ريفهم،

نزلتْ عينايَ الى السواحل لتأسرَ الحياةَ نظرةً نظرة،

وتدعو الضجةَ الخافتة الى العشا.

لأن الذين ارتطمتْ حياتُهم بالجبال،

جاشوا كورودٍ عالية وانتظروا مرورَ الهواء ليأخذ عطورَهم.

صاروا ضجةَ القلب الخافتة.

كانوا وحدهم،

حين استبدّتْ شهوةُ الكتب بأغلفتها،

وتعرّتِ الضجةُ الباقية في انعدام الضجة.

حينذاك،

كان الضوءُ الناظر إليَّ،

عشيقَ ما يحصل

شريكَ الفضائح وليلَها الحارس

قارىءَ المتعة الشخصية ومخدِّرَ الملائكة ومرمّمَ الاختيالات

مدّاحَ الدهشة واحتلامات الرأس

خزانةَ الاحتباسات.

كان الضوء الناظر إليَّ،

مروِّضَ سَحَرة القلب وبهلوانَ الحزن وحارسَ الوقت الذاتي.

فردوسَ الذين صاروا ضجةَ القلب الخافتة وضلّوا الطريق.

هؤلاء كانوا نساء

جئنَ بدون دعوة بعدما قرعنَ الحياة

حملنَ الهدايا الى رغبات ضائعة

وبعدما جلسنَ،

خلعنَ قبّعات السفر ولم ينمنَ

كنّ ينزلنَ من أعالي الفردوس ليرقصنَ في حلبة الرأس،

في حلبة الجسد،

يومئنَ في العاصفة لخيالاتهن الطائرة،

وفي الصيف يومئنَ الى الداخل المحض

رددنَ الحواسَ والحواسَ الأخرى وشغلنَ اللغاتِ بأحابيلهنّ

وعندما جئنَ،

جئنَ بلا انتباه

لمعنَ في موتي كحياةٍ وحيدة

وطرنَ في خواء البداية والنهاية

ظللنَ هكذا في احتمال الضوء،

مسرّاتٍ تجرح فظاعةَ العيش،

منتهى الشهوة ونعاسَها،

وكنَّ جمالَ الخراب.

خدّرنَ زوغانَ البصر وأشعنَ الحوارَ الخفيّ،

وراء زجاج اللوحة وشفّاف الصمت

كنّ الضوءَ الناظرَ إليَّ، شبقَ الغيبوبة

وكنَّ سريرَ خيانتها الدافىء.

ظللنَ احتمال الضوء،

عندما أصبحنَ ماءَ الشغف ورنينَ تأوّه العين

لم يباغتنَ الضوء،

حين اصطحبنَ ماجني الأوقاتِ الغامضة،

لكنْ صعقنَ انتباهَ الجسد.

لم يجرحنَ شيئاً،

إنما أشحنَ الليلَ بذكاءٍ ومحبة،

ورفعنَ فوق حواسه نجمة.

كانوا يضيِّعون العتمةَ،

عندما يفيقون في الليل.

لم يكن ضوؤُهم يضيء

لكنْ يناوم العتمة.

عرفتُ مهارتهم منذ البداية.

كانت عتمتهم تحبّ الضوء كلما استيقظ،

فتصيره لتمنعَ وحشتَها وتبدّد غيابه.

عرفتُ مهارتَها أيضاً

تراود كمونَ الضوء فيشيع

وتقبّله فتتوارى،

وتخبّىء نشوتَها المخدَّرة الى المساء التالي

وفي المساء التالي،

تحبّ الضوء وتملأه بجنسها المشعّ

عندها لا يعود يضيء.

وفي الرواية،

تنام كلما استيقظ الضوء

تنام ليحبّها،

لأنه يحبّها نائمة.

وعندما تكون نائمة،

يحتلم ليل العتمة فيصير ضوءاً.

تضيء العتمةُ الضوءَ،

وقلائلُ يبصرون ذلك.

هؤلاء عرفتُ مهارتَهم منذ البداية.

كانوا ضجةَ القلب الخافتة

وملائكةً كانوا عندما ضلّوا الطريق.

وعندما استهدوا،

أصبحوا احتمالَ الضوء.

كانوا ملائكةً وأعني نساء.                                         

دمع

الهواءُ الذي يلمس الضوءَ في الغياب

يكتب مروءةَ الأشعة.

في الغياب،

يهب البيتُ الأليمُ إيقاعَ الحواس،

انفعالاتٍ فائضة،

ويرتّب ثيابَ البصر بإغماضاتٍ ورطوبة

فتضيع الأيدي خارجَ الذاكرة،

ومثلها تفعل دموع الكتابة.

لأجل هذا يفتدي العمرُ خسارته،

باختراع مزايا جديدة ونجومٍ لسماءٍ فارغة.

الهواءُ الذي يلمس الضوءَ في الغياب

يلفح الحياة بملح الهدوء الداخلي،

ومطرِ العاصفة.

من هذا الهواء،

يقع قلبي،

ويكسر صحن الصمت بدقّاته.

نظرةٌ وقعتْ من منامي

أروي مشاعرَ الكلمة،

وبها مرارةٌ منكم ومن الحياة،

ولا أحفل بمشاعري.

من أجلي خصوصاً لا أحفل،

ومن أجل آلام الكلمة.

أفعل ذلك،

كي لا تُصاب بغير دمائها،

وكي لا تؤلمها دمائي،

ولا أقول كي لا أجرحَ عواطفَ الهواء الذي يصلكم،

ويُشيعُ التوازنَ في المسافة الفاصلة.

ولا أقول لأن العين لا تحتمل التحديق عميقاً في الشمس،

مثلما لا يحتمل ألمُ الكلمة أكثرَ من نظرة.

لحظة الكلمة تضع الكلمةَ في منتهاها،

مثلما لحظة الأشياء تلغي مادةَ الأشياء.

يعزل التحديق في الكلمة مادةَ الكلمة

مثلما التحديق في المرأة يعزل ثيابَ المرأة.

بعدها،

تصبح النساءُ مادةَ غيابها

ولحظةَ الكلمة.

لا تعرف الكلمةُ أنها حدّقتْ عميقاً،

إلاّ بعد أن تغيب في الكائن الذي حدّقتْ فيه،

أو بعد أن يغيب فيها.

ولا تعرف أنها لم تعد تحتمل،

إلاّ حين يصرخ أو يغيب.

مشاعرُ الكلمة لا تحتمل أكثر من نظرة.

بعدها، تحمرّ وجنتاها،

ومن ألمها تقع في الكلمة.

ولأوضح،

لا بدّ من التسلية أو الانتحار.

أعبث كي تزداد الكلمةُ عبثاً،

فأنظر الى وقوع الكوكب من أعلى الى أسفل،

وأجرح شعورَ الحياة قليلاً

وحين أفتكر أن أنهي السجال،

تزداد اللعبة عبثاً،

فأصل الى نوم مطلق يشبه الموتَ ويختلف عنه.

ولأوضح أكثر،

أكتب كلما خرجتْ حياةٌ من رأسي،

أو دخلتْ عليه.

أفقد نفسي عندئذٍ،

لأن الكلمة تغيب عن الوعي،

ولأني أيضاً لا أحتمل أكثرَ من نظرة.

أقع من نظرةٍ وأقع فيها.

أقع عميقاً،

كي أقع جيّداً.

وكل ما أكتبه،

أكتبه لأستعيد نظرةً وقعتْ من منامي.

وأفعل ذلك كي لا أجرحَ مشاعرَ الكلمة أو أُكرهَها على البقاء

عينايَ أيضاً لا تحتملان

يدايَ خصوصاً تضيعان بعد ذلك.

ضجة الأفكار

ضجةُ الأفكار،

سكّينُ الحياة ومُرشدةُ الكلام الى الذوات الخربة.

تنزل من الرأس لكنها تترك خدوشَها فيه.

ضجةُ الأفكار تثير غريزةَ الرأس

ولحظةَ الدنوّ من فضاء النافذة.

لأجل ذلك أصعد الى الكلمة لأجرحَ ضجتها،

أو أنتحر.

لا فرق.

لكنْ،

لا أحد يعرف بانتحاري،

لأني أظلّ على قيد الحياة.

صخب هارب

الصخبُ المطلّ من رأسي مؤلمٌ،

لكن الأوراقَ لا تعرف به.

عندها، أعوي.

أبتسم أيضاً ليديَّ المتلبستين بأفكارهما،

حين تلتقطان الصخبَ الهارب من القبعة.

وفي النهاية،

تسيل الضجةُ من أصابعي،

بعد أن تفرّ أفكارُ اليدين.

وفي النهاية أيضاً،

تعزّز الأفكارُ معنى النساء

وبدونها لا أهميةَ كبيرة للحب في الواقع.

لأجل ذلك تدنو يدايَ وهما متلبستان بأفكارهما

وبهذا يغيب العالم.

في البداية

في البداية،

كانت يدايَ برىئتين وكذلك جسدي.

ثم تلبّس جسدي بأفكاره،

ومثله فعلتْ يدايَ.

حياة وحيدة

كنا حين نفتقد سعادتَنا،

نتوهّم أن الشِّعرَ فوّت علينا الموتَ في أحضان النساء،

فنتفادى الإعرابَ عن مشاعر باءت بالفشل،

ونصرف أرواحنا الى اهتماماتٍ أخرى.

لكن الهواء كان يتلقف تعابيرَ ممضة

وقعتْ من وجوهنا،

ويرتّب المساء بإشاراتٍ لا تفهمها سوى نظراتنا.

وكنا حين نفتقد السعادةَ،

نخيط بإبرة المنفى نسيجَ أنفاسنا،

ويتراءى لنا من خرمها أن الحياة في مكان آخر،

وأن عطور الأشواق تفرّ الى الجبال،

لتأخذ من الأشجار المستوحدة ظلالاً لها،

فنقارب الامحاء برغباتٍ صامتة،

ونلتقطه بشِباكٍ مهيَّأةٍ للصيد، وفخاخٍ لم ننصبها إلاّ لثعالب الكلمات.

لذا، كنا نجرح السطور بحروفٍ طائشة،

وندملها بعطورٍ يصعب إدراكُ شميمها.

وكان صيّادو لعبتنا يأخذون علينا،

أننا نُغير بثعالبَ مراوغة،

ونفلت الهواء من شِباكٍ وهمية،

فنبتسم حتى يلوّن الهواءُ ابتساماتنا بلمساتٍ فوّاحة،

ثم نغمز الأسطرَ التي دوّختْنا،

ويستبدّ بنا الشوق الى أسطرٍ تهمّ بنفسها،

ثم تمانع كنساءٍ يعذّبنَ أفكارَ أجسادنا ونزقَ أيادينا.

كنا نغيّب اللذة بإشاراتٍ كافية،

يسخر منها الرجال بتودّداتهم الجلفة.

ومع ذلك كنا نرسل إليهم المودة عبر سماءٍ عالية،

أو هواءٍ يليِّن الظلّ في الصيف.

عندها، لم نكن نفعل سوى ما نظنّ أنه يلطّف الذكورة،

فتتخفّف القصائد من أعباء جمة،

ونعيد الاعتبار الى أنوثة هائمة،

لا نجدها إلاّ في خيالات النسوة اللائي في دواخلنا.

كنا نشتاق

نشتاق كفتيةٍ، فنخرج دوماً الى مراهقتنا

بأعينٍ حادة وأعضاء لا تكلّ عن المشاكسة.

نشتاق الى أنوثتهنّ فينا،

فننسى أجسادنا ونروي ما يحقق جزءنا الكامنَ في جرح الرأس.

وكانت أيدينا كلما نسيتْ نفسَها،

تتذكر أفكاراً ترتعش لها الطاولة،

وكذلك الفضاءُ المحيطُ بالمعنى.

لذلك مللْنا المصافحات لأنها أفقدتِ الأيدي فراغَها

ومللْنا أيضاً النساءَ حين منحنَ الأيدي معنىً واحداً.

ومع ذلك رحنا نجمع عطوراً غامضة،

لنزيّن بها حياتنا الطائشة فلا تبيب وحيدةً في الشتاء.

عندها لم نكن نفكر في الذكريات،

لكنْ في اختلاط الزمن

فنتفاجأ بلمساتٍ كأننا اغتربنا عنها،

وبأمكنةٍ كأنما لم تخطر لأعيننا

ونتفاجأ بنساء يغسلن دفاتر أجسادنا بعطر الملائكة.

عندها، لا نعود نملّ النساء،

حين يفعلنَ بنزواتٍ فائقة،

فيدوِّخن الليل بمعانٍ من افتراضات الجروح وأهواء الفؤاد.

لذا، كنا نستبطن المعنى بنزق المراهقين،

ونجلوه في حكمته الشخصية بحدس البداهة وغرائز التكهنات.

لم نخترع بديلاً من أجسادنا، لكنْ إضافة،

ومع أننا أُغرِينا بالشكل الذي اصطفى حركاتِ أعيننا،

وبالماء الذي غسلنا به صيفَ الرغبة،

فسرعان ما أجاد الشِّعرُ القبضَ على كرامة الجوهر

ورقّق الحياة بموداته الدمثة.

كنّا حياةً وحيدةً حين نفتقد السعادة.

بأيِّ جنون

نضجر أحياناً من أفكارنا،

وضجرُنا يحرِّرنا منها،

فتطير من إناء الرأس وتحطّ على أيدينا

لكنها تظل مذهولةً بمكانها الأول.

ومع أنها أسيرةُ النظرات،

فهي تحتضن الآخرين بنظراتها.

لكنْ،

ماذا نفعل أيضاً إذا لاذتْ بالفرار

وبأيِّ أفكارٍ نعوِّض شعورنا أننا فقدنا أفكارنا!

تخرج منا الأفكار كنساءٍ لا يعرفنَ طريقَ العودة

وقد نظلّ أصدقاء فنبتسم لها،

لكننا نخشى سطوتَها علينا،

فلا نعرف أن نخرجَ منها.

وعندما نفعل،

تظلّ ندوبها في أرواحنا،

وتمعن في تصوير الحياة لنا بالتباسها الفائق.

ومع أننا نتناساها،

فهي لا تتفادى عجزنا بل تهزّه بمشاعر مستديمة.

لكنها طائشةٌ أيضاً،

حين لا تبالي بمعناها فتتكهن بتفسيراتٍ أخرى لحياتنا.

الأفكارُ انتقامُنا من أنفسنا عندما لا نكتبها

وعندما نفعل، فلكي نلملمَ همهمات ماضينا.

لكننا أحياناً،

نفضّل المشاعرَ عليها،

فتضيع في جنونٍ آخرَ لأجسادنا.

بأيِّ جنونٍ تعيش الأفكار التي تحرّك أجسادنا

بأيِّ جنونٍ تتعرّى ثيابُها في أسرّة نسائنا!

في أحد الأيام

ضئيلةٌ هي الأفكار التي نعرفها،

لأننا نتذكر أشياء لم تحدث في الواقع.

ومع هذا، نتذكرها كأنها ستحصل غداً.

عندئذٍ، تصطفي الكلمةُ عشّاقها وترنو إليهم بشهواتٍ حارقة،

وتصبح القصيدةُ ذكرياتٍ لعواطفَ وأحوالٍ،

ربما ستجري في أحد الأيام

ولأجلها نعيش في منازل تُضاء دائماً بأفكارها العمياء.

الأشياء

في الليل تصبح الأشياءُ أفكاراً باطنة لأننا لا نعود نراها.

نتصوّر أشكالها لكنها سائبة.

وفي الليل تطير منا أحلامنا،

كذلك تنتهز الأشياء نومَها فتكبر في غيابنا.

ماذا نفعل

ماذا نفعل إذا لم نجد أمكنةً للأفكار في زحمة الرأس

ماذا نفعل أيضاً إذا لم تهرب أفكارنا منا؟

علاقة

نغار من أيدينا عندما تكتب.

نغار من أيدينا،

لأنها تخون رغباتنا.