
الباب الثالث
سيرة الحسين عليه السلام في كربلاء
29- أصْحابٌ أوفياء
صمّم الإمام الحُسينُ عليه السلام على الخروج إلى العراق ، ولم تثنِه العراقيلُ التي كانتْ على طول طريقه ، ولم تثبّطه الاحتمالاتُ ، بل ولا ما كان واضحاً في المنظور السياسيّ- ذلك اليوم -من شدّة بطش الحكومة الأُمويّة وعدم ارعوائها عن فعل كلّ مخالفة ، حتّى الإبادة , ولا غدر أهل الكوفة وتقاعسهم عن نصرته بل سار يَسوقه الواجب الإلهيّ المفروض عليه ، لكونه إماماً للأُمّة ، يجب عليه القيام تلبية ندائها ، لإتمام الحجّة الظاهرة .
والمصير الغيبيّ الذي كان يعلمه هو ، يعلمه كلّ من سمعَ جدّه النبيّ يتحدّث عن كربلاء ، أو شاهده ، وشاهدَ أباه عليّاً ، يشمّان تربتها ويتناولانها ، ويتعاطيانها ، ويستودعانها , كان هذا المصيرُ يقودُ الإمامَ الحسين عليه السلام .بكلّ ثقة واطمئنان ونفس راضية مرضيّة .
وأمّا من كان مع الحسين ، في مسيره:
فقد كان عليه السلام يصطحبُ معه جَيْشاً يُشيرُ إليه ، ويستعرضُهُ ، كلّما سُئِلَ عنه ? ألا وهي أكداس الرسائل وكتب الدعوة الموجّهة إليه من الكوفة ، ممّن كان يعبّرُ عن رأي عامّة الناس ، من الرؤساء والأعيان .إنّه عليه السلام كان يعدُّ تلك الأعداد من الكتب والرسائل جيشاً , يستحثّه المسير ، ويُصاحِبُه ، وكانَ كلّما عرضه على المتسائلين والمتشائمين ، بل الناصحين ، أُفْحِمُوا ، ولم يَملكوا جواباً!
وليس الاستنادُ إلى هذا الكمّ الهائل من عهود الناس - وفيهم أصحابُ الزعامة ، والكلمة المسموعة - بأهونَ من الاعتماد على أمثالهم من الأشخاص المجنّدين الحاضرين معه ، لو كانوا! فإنّ احتمالات الخَيانة والتخاذل في الأشخاص ، مثلها في أصحاب الرسائل والعهود ، إنْ لم تكن أقوى وأسرع!؟
وغريب أمرُ أُولئك الّذين ينظرُون إلى الموقف من زاوية المظاهر الحاضِرة ، ويحذفون من حساباتهم الأُمور غير المنظورة ، ويُريدون أن يُحاسِبوا حركة الإمام وخروجه ، على أساس أنّه إمامٌ عالم بالمصير ، بل لابُدّ أن يعرف كلّ شيءٍ من خلال الغيب , فكيف يُقدم على ما أقدم وهو عالم بكلّ ما يصير ؟
والغرابةُ في أنّ الإمام الحسين عليه السلام لو عَمِلَ طبقاً لما يعلمه من الغيب ، لحاسبه كلّ مَنْ يسمع بالأخبار ويقرأ التاريخَ ، أنّه تركَ دعوةَ الأمّة المتظاهرة بالولاء له ، من خلال آلاف الكتب والعهود الواصلة إليه بواسطة أُمناء القوم ورؤسائهم , واستند إلى احتمالات الخيانة والتخاذل ، التي لم تظهرْ بوادرُها إلاّ بالتخمين ، حَسَبَ ماضي هذه الجماعة وأخلاقهم . واعتماداً على الغيب الذي لم يؤمنْ به كثيرٌ من الناس في عصره ومن بعده ، ولم يسلّمه له غير مجموعة من شيعته!؟
فلو أطاعَ الإمام الحسينُ عليه السلام اُولئك الناصحين له بعدم الخروج ، لكان مطيعاً لمن لم تجبْ عليه طاعتُهم ، وتاركاً لنجدة من تجبُ عليه نجدتُهم كما أنّ طاعة أُولئك القلّة من الناصحين لم تكنْ بأجدرَ من طاعة الآَلاف من عامّة الشعب ، الّذين قدّموا له الدعوةَ ، وبإلحاح ، وقدّموا له الطاعة والولاء!
وقبل هذا ، وبعده : فإنّ الواجبَ الإلهيّ ، يحدُوه ، ويرسمُ له الخططَ ، للقيام بأمر الأُمّة ، فإذا تمّت الحجّةُ بوجود الناصر ، فهذا هو الدافع الأوّل والأساسيّ للإمام على الإقدام ، دون الإحجام على أساس الاحتمالات السياسية والتوقّعات الظاهرية ، وإنّما استند إليها في كلماته وتصريحاته لإبلاغ الحجّة ، وإفحام الخصوم ، وتوضيح المحّجة لكلّ جاهل ومظلوم(142)
وأمّا ظاهرياً: فقد كان في قلّةٍ من الناس , وهذا يوجبُ القلق ، في الوجه الذي سار فيه الإمام(142)وقد فصّلنا الحديث عن علم الأئمة بالغيب والاعتراض على إقدامهم بأنّه إلقاء إلى التهلكة ، في مقال مفصّل طبع في تراثنا العدد 37 .
[262 و265] قال زُهَيْر بن شدّاد الأسديّ - من أهل الثعلبيّة التي مرّ بها الحسين عليه السلام في طريقه إلى الشهادة - : أيْ ابن بنت رسول الله ، إنّي أراكَ في قلّةٍ من الناس ، إنّي أخافُ عليك , فأشارَ بسوطٍ في يده - هكذا - فضربَ حقيبةً وراءَه ، فقال : إنّ هذه مملوءةٌ كتباً ، هذه كُتُبُ وجوه أهل المصر !.
وقد كان أصحابُ الحسين عليه السلام من القلّة بحيث قد عدّهم التاريخ كمّاً ، عدّاً بأسمائهم ، وقبائلهم ، وأعيانهم , فكان معه من بني هاشم عدّةٌ معروفةٌ ، كما في الحديث : [ ص204] بعثَ الحسينُ إلى المدينة ، فقدمَ عليه مَنْ خفّ معه ، من بني عبد المطلّب، وهم تسعة عشر رجلاً، ونساءٌ وصبيانٌ من إخوانه، وبناته ونسائهم(143)
ويقول الحديث الآَخر عن الذين استشهدوا معه عليه السلام من الهاشميّين [284 ] قُتل مع الحسين ستّة عشر رجلاً من أهل بيته(144) والحسينُ عليه السلام هو السابع عشر , والّذين خرجوا من المعركة أحياء هم اثنان فقط ، أحدهما : عليّ زين العابدين ، والآَخر : الحسنُ المثنّى ، اللذان ارتُثّا (145) في المعركة ، واُخذا مَعَ الأسْرى.
وأمّا العدد الإجماليّ لمجموع الّذين حضروا مع الإمام في كربلاء , فقد جاء في الحديث [ ص205] فخرجَ متوجّهاً إلى العراق في أهل بيته ، وستّين شيخاً من أهل الكوفة(146) وجاء في بعض المصادر المتخصّصة ذكر من حَضَر مع الحسين في كربلاء وعددهم يتجاوز المائة بقليل .
أمّا الّذين قتلوا معه ، فقد أُحصوا بدقّة ، وسجّلتْ أسماؤهم في كتب الأنساب والمقاتل (147) والمشهور أنّ مجموع من قُتل معه هم ( 72 ) شهيداً(148)
وأمّا نوعية أنصار الحسين ، كيْفاً:
فقد مثّلوا كلّ شرائح المجتمع البارزة ، ذلك اليوم ، بالإضافة إلى عِيْنة الأُمّة أهل البيت . ففيهم من صحابة الرسول صلّى الله عليه واَله وسلّم : أنس بن الحارث بن نبيه الأسدي ، الكوفي .وهو الذي روى عن رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم ، قوله :[283] إنّ ابني هذا - يعني الحسين - يقتلُ بأرض يقالُ لها :كربلاء ,فمن شَهِدَ ذلك منكم فلينصره
قالوا : فخرج أنَسُ بن الحارث إلى كربلاء ، وقتلَ بها مع الحسين .
لكنّ حديث النبي وإخباره عن مقتل ابنه في كربلاء ، لم ينحصر سماعه بهذا
الصحابيّ العظيم . فأينَ كان سائر الصحابة الّذين عاصروا معركة كربلاء ؟
ولماذا لم يحضروا ، ولم ينصروا ؟إنّ وجود العدّة القليلة من الصحابة الكرام في معركة كربلاء كافٍ لتمثيل جيل الصحابة الّذين كانتْ لهم عند الناس حرمةٌ وكرامةٌ بصحبة رسول الله ، وقد تمّتْ بوجودهم الحجّةُ ، إذْ يمثّلون الاستمرار العينيّ لوجود سُنّة الرسول صلّى الله عليه واَله وسلّم وحديثه وأمره ، في جانب الحسين عليه السلام.
وكان مع الحسين من أصحاب الإمام عليّ أمير المؤمنين عليه السلام : عمّار ابن أبي سلامة بن عبد الله الهمْداني ، الدالاني ، وغيره ، ممّن شاهدوا عليّاً وهو يُواسي الحسين في هذه الأرض بنداءاته المدوّية في فَضائه : صبراً أبا عبد الله ! وكانوا يمثّلون بحضورهم وجود عليّ عليه السلام وصرخاته وتشجيعاته للحسين وأصحابه .
وقد اشترك في معركة كربلاء إلى جانب الحسين عليه السلام أُناسٌ كانوا قبل قليل من أعدائه ، كالحرّ بن يزيد الرياحي .
وكان فيهم ممّن يكنّ أبلغ الحقد والعداء للإمام ، ومن المحكّمة الخوارج ، فانحازوا إلى الإمام لمّا سمعوا منه الحقّ ، وشاهدوا ما عليه من المظلومية ، وما كان عليه أعداؤه من الباطل والقساوة والتجاوز .
وحتّىكان في جيش الحسين عليه السلام ، ذي العدد الضئيل ، جنودٌ مجهولون ، لم تحرِّ كهم إلاّ أنْباء كربلاء ، التي بلغتْهم ، فبلغتْ إلى عقولهم ، وبلغتْ بهم قمم الشهادة ، فالخلود .
[269] قال العربان بن الهيثم :كان أبي يَتَبدى (149) فينزل قريباً من الموضع الذي كان فيه معركة الحسين ، فكنّا لا نبدو إلاّ وجدنا رجلاً من بني أسَدٍ هناك ، فقال له أبي : أراك ملازماً هذا المكان ؟
قال : بلغني أنَّ حُسَيْناً يُقتلُ هاهنا ، فأنا أخرج إلى هذا المكان ، لعلّي أُصادفه فأُقْتَلَ معه
قال الراوي : فلّما قُتِلَ الحسين ، قال أبي: انطلقوا ننظر , هل الأسديُّ في مَنْ قُتِلَ ? فأتينا المعركةَ , وطوّفنا ، فإذا الأسديُّ مقتولٌ(150)ولئنْ خان الجيشُ الكوفيّ بعهوده ، واستهترَ برسائله وكتبه ووعوده ، فإنّ أصحابَ الحسين عليه السلام - على قلّة العدد - ضربوا أروع الأمثلة في الوفاء ، والفداء ، وكانوا أكبرَ من جيش الكوفة في الشجاعة والبطولة والإقدام ، وقد مجّد الإمام الحسين عليه السلام بموقفهم العظيم في كلماته وخطبه في يوم عاشوراء.
أمّا هُمْ ، فكانوا يقفون ذلك الموقف عن بصائر نافذة ، وعن خبرة وعلم اليقين بالمصير ، ولقد أصبحَ إيثارهم بأرواحهم لسيّدهم الإمام الحسين عليه السلام عينَ اليقين ، للتاريخ ، ومضرب الأمثال للأجيال .
ومثالٌ واحدٌ ذكره ابن عساكر عن محمّد بن بشير الحضرميّ الذي لازمَ الحسينَ وكان معه في كربلاء : [200] إذْ جاءه نبأُ ابنه أنّه اُسِرَ بثغر الريّ ، فقال : عند الله أحتسبُه ونفسي ، ما كنتُ أُحبُّ أن يُؤسَرَ ، ولا أنْ أبقى بعده .
فسمع الحسينُ كلامه ، فقال له : رحمك الله ، وأنت في حلٍّ من!قال : أكَلَتْني السباعُ حَيّاً إنْ فارقتُكَ !
بيعتي ، فاعملْ في فكاك ابْنِك فقال له الحسين : فأعْطِ ابنك هذه الأثواب البُرود ، يستعِنْ بها في فداء أخيه . فأعطاه خمسة أثواب ، قيمتها ألف دينار(151)إنّ الكلمة لتقصُر عن التعبير في وصف موقف هؤلاء ، كما أنّ الذهن ليعجز عن تصوير ما في قلوبهم من الودّ والإخلاص لإمامهم . إلاّ بتكرار عباراتهم نفسها وبهذه النفوس الكبيرة ، والعقول البالغة الرشيدة ، والقلوب المليئة بالولاء ، والمفعمة بالإخلاص ، وعلم اليقين بالموقف والمصير ، وبالشجاعة والجرأة والبطولة النادرة والثبات على الطريق ، دخل الحسين عليه السلام معركته الفاصِلة في كربلاء .
(143)مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7 / 143 )
(144)مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7 / 148 ) .
(145)ارثُتّ: أي قاتل وجرح في المعركة ، فاُخرج منها وبه رَمَق .
(146)مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7 / 143 ) .
(147)من ذلك كتاب تسميةُ من قُتِلَ مع الحسين عليه السلام من أهله وأولاده وشيعته للفُضَيْل بن الزُبَيْر بن درهم الأسدي الرسّان الكوفي ، من أصحاب الباقر عليه السلام . وقد حقّقتُه ونشرته في مجلّة تراثنا الفصليّة التي تصدر في قم ، ( العدد الثاني ) ( 1406 ) .
وقد حاولتُ إعادة النظر فيه ، والاستدراك عليه ، والتقديم له بشكلٍ موسّع وأسأل الله التوفيق لنشره ثانيةً .
وهناك كتب متخصّصة لذكر أنصار الإمام الحسين الّذين كانوا معه في كربلاء ، من أشهرها إبصار العين في أنصار الحسين ,للشيخ محمّد السماوي .
(148)أُسد الغابة ، لابن الأثير ( 2 / 22 ) .
(149)أي يخرج إلى البادية .
(150)مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7 / 145) .
(151)مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7 / 129 - 130 ) ولقد تحدّثنا عن المواقف الأُخرى للشهداء ، تلك المليئة بالوفاء والإيثار في مقال بعنوان : شهداء حقّاً , نشر في مجلة ذكريات المعصومين ، الكربلائيّة عام 1385 هجريّة ,عدد محرم .