
الباب الثالث
سيرة الحسين عليه السلام في كربلاء
27- عراقيل على المسير
لا ريب أنّ تخلّص الحسين عليه السلام من مسألة البيعة ، وخروجه بهذا الشكل المتخفي من المدينة ، لم يُرضِ الدولة ولا أجهزتها ، فلذلك تصدّوا للموقف بمحاولة اغتيال الحسين عليه السلام في مكّة، وفي زحام الموسم ، وقد جاء في بعض المصادر: أنّ يزيد بثَّ مَنْ يغتال الإمام ولو كان متعلّقاً بأستار الكعبة , وعلى أبعد احتمال كان الحسينُ عليه السلام يُجَرُ إلى المواجهة المسلّحة مع رجال الدولة في منطقة الحرم ، ذلك الأمرُ الذي لا يريدُهُ الحسينُ عليه السلام ، بل يربؤ بنفسه أنْ يقعَ فيه،كما عرفناه في الفقرة [22] فلذلك عزمَ على الخروج من مكّة [ ص205] فخرجَ متوجّهاً إلى العراق ، في أهل بيته ، وستّين شيخاً من أهل الكوفة ، وذلك يوم الاثنين في عشر ذي الحجّة سنة ستّين .
ولا بُدّ أنّ أجهزة الدولة كانت تلاحقُ الحسين وتراقبُ تحرّكاته ، وتحاول صدّه عن ما يريدُ ، و بالخصوص توجّهه إلى منطقة الكوفة في العراق التي تعتبر عند حكّام الشام أرضَ المعارضة الشيعيّة العلويّة ، وإذا أفلتَ الحسينُ عليه السلام منهم في المدينة ، فلا بُدّ من وضع العراقيل في طريقه حتّى يتراجعَ ، ولا يخرج إلى العراق .
ومن الملاحظ في طريق الحسين عليه السلام كثرة عدد الناصحين له عليه السلام بعدم الخروج إلى العراق ، وتكاد كلمتهم تتّفقُ على السبب ، وهو أنَ أهل العراق أهل غدرٍ وخيانةٍ ، وأنّهم قتلوا أباه وطعنوا أخاه.
ومن الغريب أنْ نجدَ في الناصحين : القريب والغريب ، والشيخ والشابّ ، والرجل والمرأة ، ثمّ نجدُ الصحابيّ ، والتابعيّ ، والصديق ، والعدوّ . ومن جهة أُخرى : نجد إجابة الإمام الحسين عليه السلام لكلّ واحدٍ تختلفُ عن إجابته للآَخر ، ولكنّ الحقيقةَ واحدةٌ . وسكتَ عن إجابة البعض .
وأمّا تفصيل الأمر:
جاءه أبو سعيد الخُدْري ، فقال [ ص197]: يا أبا عبد الله ، إنّي لكم ناصحٌ ، وإنّي عليكم مشفقٌ ، وقد بلغني أنّه كاتبك قومٌ من شيعتكم بالكوفة يدعونك إلى الخروج إليهم ، فلا تخرجْ ، فإنّي سمعتُ أباك ، يقول بالكوفة : والله لقد مللتُهم وأبغضتُهم وملّوني وأبغضوني ، وما بلوتُ منهم وفاءً ومن فازَ بهم فازَ بالسهم الأخيب , والله ما لهم ثباتٌ ، ولا عزمُ أمرٍ ، ولا صبرٌ على سيفٍ.ولم يذكروا جواب الإمام الحسين عليه السلام لأبي سعيد ، الصحابيّ الكبير ، ولعلّ الإمام تغافلَ عن جوابه ، احتراماً لكبر سنّه ، أو تعجّباً منه لعدم تعمقّه في الأُمور ، وعدم تفكيره في ما أصابَ الإسلام وما يهدّده من أخطار ، بقدر ما كان يفكرُ في سلامة الحسين عليه السلام ؟
وقال عبد الله بن عيّاش بن أبي ربيعة : [ ص201] أينَ تريدُ يابن فاطمة ? إنّي كارهٌ لوجهك هذا ، تخرجُ إلى قومٍ قتلوا أباك وطعنوا أخاك ، حتّى تركهم سخطةً وملّةً لهم . أُذكّرك اللهَ أنْ تغرّرَ بنفسك( 110) ولم يذكروا جواب الإمام هنا أيضا .
وقال أبو واقد الليثي [ ص201]: بلغني خروج حسين ، فأدركته بِمَلَلٍ , فناشدته الله أنْ لا يخرجَ ، فإنّه يخرجُ في غير وجه خروج ، إنّما يقتلُ نفسه . وقد ذكر جواب الحسين عليه السلام لهذا أنّه قال :لا أرجع(111).
وكتب إليه المِسْوَرُ بن مخرمة : [ ص202] إيّاك أنْ تغترّ بكتب أهل العراق . . . إيّاك أنْ تبرحَ الحرمَ ، فإنّهم إنْ كانت لهم بك حاجةٌ فسيضربون إليك آباط الإبل حتّى يوافوك ، فتخرجَ في قوّةٍ وعدّة (112) .
ويبدو أنّ المِسْوَر كان يعرفُ السبب الأساسيّ لتوجّه الحسين عليه السلام وخروجه ، وهذا يدلّ على مزيد الارتباط والتداخُل مع قضيّة الحسين عليه السلام ، لكنّه - لجهله بمقام إمامة الحسين - يتصدّى بهذه اللهجة لتحذيره ، ولعدم وجود سوء نيّةٍ عنده ، يذكرُ خيانة أهل العراق ، ويقترحُ على الحسين عليه السلام مخرجاً ، وهو أنْ يترك العراقيّين ليُقْدِموا بأنفسهم على الخروج إلى الحسين عليه السلام ، وهذه نصيحةُ مشفقٍ ، متفهّمٍ لجوانب من الحقيقة ، وإن خفي عليه لبّها وجوهرها .
ولذلك نجد إن الحسين عليه السلام كان ليّناً في جوابه : فجزّاه خيراً ، وقال : أستخير الله في ذلك(113)
وكتبت إليه عَمْرةُ بنت عبد الرحمن ، تعظّمُ عليه ما يريدُ أنْ يصنعَ ، وتأمُرُهُ ! بالطاعة ولزوم الجماعة!! وتخبرهُ أنَه إنّما يُساقُ الى مصرعه ، وتخبره ، وتقول : [ص202] أشهدُ لحدّثتني عائشة أنّها سمعتْ رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم يقول : يُقتلُ حسينٌ بأرض بابل(114).
إنّ تدخّلَ هذه المرأة في الأمر غريبٌ ، والنساءُ - الأكبر منها قدراً والأكثر منها معرفةً وحديثاً - حاضراتٌ ، والأغربُ أنّها تأمر الإمام بالطاعة ولزوم الجماعة , وهذه اللغة ، إنّما هي لغة الدولة ورجالها والمندفعين لها ، ولا أستبعد أنْ يكون وراء تحريك هذه المرأة - وهي ربيبةُ عائشة والراوية لحديثها - أيدٍ عميلة للدولة .
وقد كان جواب الإمام لها إلزامها بما رَوَتْ ، فلما قَرأ كتابها قال : فلا بُدّ لي - إذَنْ - من مَصْرعي , ومضى عليه السلام .
وأتاه أبو بكر ابن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، فقال : [ ص202] إنّ الرحم تُصارّني (115) عليك ، وما أدري كيف أنا عندك في النصيحة لك ؟
قال عليه السلام : يا أبا بكر : ما أنت ممّن يُستغشَ ولا يُتَهم ، فقل .
قال : قد رأيتَ ما صنعَ أهلُ العراق بأبيك وبأخيك ، وأنت تريدُ أنْ تسيرَ إليهم ، وهم عبيدُ الدنيا ، فيقاتلُك مَنْ قد وعدك أنْ ينصرك ، ويخذلُك من أنتَ أحبُّ إليه ممّن ينصرُ . فأذكّرك الَله في نفسك(116).إنّ أبا بكر ، حسب النصّ عن الحسين ليس متّهماً ولا يتوقّعُ منه الغشُّ ، كما يُتّهم غيره من الناصحين , ثمّ يبدو أنّه إنسانٌ بعيدُ النظر حيثُ تنبّأ بأُمور ، أصبحت حقيقةً ، فيبدو أنّه كان مخلصاً في نصحه . ولذلك كان جواب الإمام الحسين عليه السلام له ، أن قال: [ ص202]جزاك اللهُ - يابن عمّ - خيراً ، فقد اجتهدتَ رأيك ومهما يقضِ اللهُ من أمرٍ يكنْ .
وكتب إليه عبدُ الله بن جعفر بن أبي طالب كتاباً يحذّره أهلَ الكوفة ، ويُناشده الله أنْ يشخصَ إليهم .
فكتب إليه الحسين عليه السلام : [ ص202] إنّي رأيتُ رؤيا ، ورأيتُ فيها رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم ، وأمرني بأمرٍ أنا ماضٍ له ، ولستُ بمخبرٍ بها أحداً حتّى أُلاقي عملي(117)وكتب إليه عمرو بن سعيد بن العاص : [ ص202 - 203] إنّي أسألُ الله أنْ يُلهمك رُشدك ، وأنْ يصرفك عمّا يُرديك، بلغني أنّك قد اعتزمت على الشخوص إلى العراق، فإنّي أُعيذك بالله من الشقاق. فإنْ كنتَ خائفاً فأقْبِلْ إليّ ، فلكَ عندي الأمانُ والبرّ والصلة .
وعمرو هذا من الأُمراء الأقوياء ، في فلك الحكّام ، وذو عدّةٍ وعَدَدٍ ، ويبدو من كتابه أنّه على ثقةٍ من نفسه ، وأنّه إنّما كتب الكتاب مستقلاًّ ، وأمّا نيّته فلا يبعدُ أن يكون قد فكّر في التخلّص من الحسين عليه السلام وحركته بنحو سلميّ ، لأنّه كان ممّن يرشَحُ نفسه للحكم ، أو هو محسوبٌ على الدولة ، ولا يُحِبّ أنْ يتورّط في مواجهةٍ مع الحسين عليه السلام ، ومع هذا فهو جاهلٌ بكلّ الموازين والمصطلحات الإسلاميّة ، فهو يحذّر الإمام من الشقاق ثمّ هو يُحاولُ أن يُطمعَ الحسين في الأمان والبرّ والصلة .
وقد كتب إليه الحسينُ عليه السلام جواباً مُناسباً هذا نصّه : [ ص203] إنْ كنتَ أردتَ بكتابكَ إليَ برّي وصلتي ، فجُزيتَ خيراً في الدنيا و الآَخرة . وإنّه لم يُشاققْ مَنْ دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنّني من المسلمين , وخيرُ الأمانِ أمانُ الله ، ولم يؤمِنِ الله من لم يَخَفْهُ في الدنيا ، فنسألُ اللهَ مخافةً في الدنيا توجبُ لنا أمانَ الآَخرة عنده(118).
ومن العِبَرِ أنّ عمراً - هذا - اغترّ بأمان خلفاء بني أُميّة فغدروا به ، وقطّعوه بالسيوف ، ولم ينفعه أهله وعشيرته ، فخسر أمان الدنيا وأمان الآَخرة
ويبقى من الناصحين العبادلة : ابن عبّاس ، وابن عمرو ، وابن الزُبير ، وابن عمر :
أمّا ابن عبّاس : فلو صحّت الرواية فإنّ يزيد بن معاوية ، دفعه على التحرّك في هذا المجال ، وكتبَ إليه يخبره بخروج الحسين إلى مكّة ، وقال له : [203] وأنتَ كبيرُ أهل بيتك والمنظور إليه ، فاكْفُفْهُ عن السعي في الفُرقة .وتقول الرواية : إنّ ابن عبّاس أجاب يزيد ، فكتب إليه : إنّي لأرجو أنْ لا يكون خروجُ الحسين لأمرٍ تكرهه ، ولستُ أدعُ النصيحة له في كلّ ما يجمعُ اللهُ به الأُلفة وتُطفأ به النائرة .
وتقول الرواية : ودخل عبدُ الله بن العبّاس على الحسين ، فكلّمه ليلاً طويلاً ، [ص204] وقال : أنشدك اللهَ أنْ تهلكَ غداً بحال مضيعة ، لا تأتِ العراقَ ، وإن كنتَ لابُدّ فاعلاً ، فأقم حتّى ينقضي الموسم وتلقى النّاسَ ، وتعلم على ما يُصدرون ? ثمّ ترى رأيك .وتحدّد الرواية تاريخ هذا الحديث في عشر ذي الحجّة سنة ستّين.
وتقول الرواية : فأبى الحسين إلاّ أنْ يمضي إلى العراق ، وقال لابن عبّاس : يابن العبّاس ، إنّك شيخ قد كبُرتَ(119) ثمّ خرج عبدُ الله من عند الإمام عليه السلام ، وهو مغضب .ولو صحّت الروايةُ ، فإنّ إقدام ابن عبّاس على هذا العمل ، وانبعاثه ببعث يزيد ، وأُطروحته بتأخير الحركة ، وسائر كلامه يدلّ على تناسي ابن عبّاس لمقام الحسين عليه السلام في العلم والإمامة ، وعلى بُعده عن الأحداث .فكان جواب الحسين عليه السلام بأنّه شيخ قد كبر تعبيراً هادئاً عن فقده للذاكرة ، وقوّة الحدس ، وما اتصّف به ابن عبّاس من الذكاء طول حياته الماضية ، والتي كشفتْ عنها مواقفُه السامية .
مع انّ الإمام الحسين عليه السلام ذكر لابن عبّاس أمراً جعله يهدأ، وهو قوله له: [ ص204] لأن أُقتلَ بمكان كذا وكذا ، أحبُّ إليَّ أنْ تستحلّ بي - يعني مكّة- فبَكى ابن عبّاس ، وكان يقول : فذاك الذي سلا بنفسي عنه(120).
وهذا ما يُبعدُ كلَّ ما احتوته تلك الرواية ، ولعلّ الرواة خلطوا بين ابن الزبير وابن عبّاس.
ولو كان يزيد قد تمكّنَ من تحريك شيخ بني هاشم في تنفيذ ما يُريد ، فكيف بغيره من البُلهاء والمغفَلين ، أو البسطاء والمستأجرين
وأمّا ابن عمرو بن العاص فلم تُؤثر عنه كلمة في الناصحين إلاّ أنّه قال - لمّا سُئِلَ عن الحسين ومخرجه -: [ ص206] أما إنّه لا يَحِيْكُ فيه السلاحُ (121)ومعنى كلامه : أنّه لا يضرّه القتلُ مع سوابقه في الإسلام ، لكنّ الفرزدقَ الشاعرَ استشعرَ من الكلام دلالةً أُخرى ، ولعلّه عدّها تشجيعاً على الخروج وتأييداً وحثّاً عليه ، حتّى عَدَّ ذلك من ابن العاص نفاقاً وخبثاً
وأمّا ابن الزبير فقد حشرهُ بعض المؤرّخين في الناصحين وإنْ صحّت الرواية بذلك ، فهو بلا ريبٍ ممّن يُستغشُّ في نُصحه ، لأنّه هو الذي شبَّ على عداء أهل البيت النبويّ ، ودفع أباه في أتون حرب الجمل ، ووقفَ مع عائشة خالته في وجه العدالة ، ولقد أبدى حقده وسريرة نفسه ، لمّا استولى على الحكم في مكّة ، فكان يترك الصلاة على النبيّ صلّى الله عليه واَله وسلّم حسداً لآله , وقد جمع آل أبي طالب في الشِعْب ، مهدّداً بالإحراق عليهم ، لمّا أبوا أنْ يُبايعوه ويعترفوا بإمارته . وقد كان يكيدُ للإمام زين العابدين في المدينة(122) هذا الرجل لم يُحاول نصح الحسين عليه السلام بعدم الخروج خوفاً عليه من قتلة أبيه وأخيه ، بل لا يذكر ذلك إلاّ شماتةّ , وقد أجابه الإمام الحسين عليه السلام - كما في الرواية - متُناسياً هذا الماضي الأسود ، لكن مذكّراً إيّاه بمستقبل مشؤومٍ [248] فقال له : لأنْ أُقتلَ بمكان كذا وكذا أحبُّ إليَ من أنْ تستحلَّ بي - يعني مكّة - متنبئاً بتسبّبه في انتهاك حرمة البيت والحرم ، عندما يُعلنُ طغيانه في داخل مكّة ويستولي عليها ، ممّا يفتحُ يد جيش الشام لانتهاك حرمتها ، بل رميهم للكعبة وهدمها ,بينما الحسين عليه السلام خَرج من مكّة رعايةً لهذه الحُرمة أنْ تهتكَ . وهكذا كان أهلُ البيت يُحافظون على هذه الحرمة كما قرأناه في الفقرة [22] .
وهُناك نُقولٌ وأحاديثُ كثيرة تؤكّدُ أنّ ابن الزبير لم يكن إلاّ من المشجّعين للحسين عليه السلام على الخروج إلى العراق ، صرّحَ بذلك سعيد بن المسيّب( 123) واتّهمه بذلك بشدّة المِسْوَر بن مخرمة(124) وأمّا ابن عبّاس فقد واجه ابن الزبير بذلك ، حين قال له: [ ص204] يابن الزبير، قد أتى ما أحببتَ ، قرّتْ عينُك ، هذا أبو عبد الله يخرج ، ويتركك والحجاز ، وتمثّل :
يالك من قُبَرةٍ بمعمر ِ * خلا لَك الجوّ فبيضي واصفري
ونقّري ما شئتِ أنْ تنقّريْ(125) .وأمّا ابن عمر : ذلك المتظاهر بالورع المُظْلم ، الذي لم يميّز به الحقَّ ولم يبتعدْ عن الباطل ، يُحاولُ - بزعمه - الانعزال عن الفِتنة ، رغبةً في العفّة عن الدماء , وهو يتمرّغ في الأشدّ منها نجاسةً.
فإنّه كانَ أصغرَ قدراً من أن يجدَ الحلَّ المناسب للخروج عمّا يدخلُ فيه ، إنْ أحْسَنَ أنْ يدخُلَ في شيءٍ , فهو على أساسٍ من نظرته الضعيفة والملتوية امتنعَ عن مبايعة الإمام عليٍّ أمير المؤمنين عليه السلام المجمع على إمامته ، لكنّه يقصدُ الحجّاجَ الملحدَ ليُبايعه , زاعماً أنّه سمعَ رسولَ الله صلّى الله عليه واَله وسلّم يقول : مَنْ باتَ وليس في عُنقه بيعة ماتَ ميتةً جاهليّة (126) فمدّ الحجّاجُ إليه رجله يُبايعه بها ، وحاجَجَهُ في امتناعه عن بيعة عليّ عليه السلام بأنّه لمَا ترك بيعته أما كانَ يخافُ أنْ يموتَ في بعض تلك الليالي ,فكان الحجّاجُ المُلحدُ ، أبصَرَ في ذلك من ابن عمر المتزهّد .
وهكذا يجرُّ الخذلانُ بعضَ الناس إلى العمى عن رؤية ما بين يديه ، وهو يدّعي أنّه يرى الأُفقَ البعيدَ ، وبعد هذه المواقف الهزيلة ، يأتي ابنُ عمر إلى الحسين عليه السلام ليحشرَ نفسه في الناصحين له بعدم الخُروج إلى العراق ، زاعماً : [245] إنّ أهلَ العراق قومٌ مناكيرُ ، وقد قتلوا أباك وضربوا أخاك ، وفعلوا ، وفعلوا .
ولمّا أبى الإمام - بما سيأتي نقله - قال ابن عمر : [246] أستودعك الله من قتيل, لكن كلّ ما ذكره ابن عمر ، لم يكن ليخفى على الحسين نفسه ، لأنّه عليه السلام كان أعرفَ بأهل الكوفة ، وما فعلوه ، حيث كان فعلُهم بمنظرٍ منه ومسمعٍ ، وبغياب ابن عمر عن ساحة الجهاد ذلك اليوم ، فليس إلى تنبُّؤات ابن عمر حاجة ! و إذا كانتْ نظرةُ ابن عمر عدم التدخّل في السياسة ، والانعزال عن الفتن ، فليس تدخلُه اليوم ، ومحاولته منع الحسين من الخروج منبعثاً عن ذات نفسه ، وإنّما أمثاله من البُلْه يندفعون دائماً مع إرادات الظالمين ، ولو من وراء الكواليس ، أُولئك الّذين كان ابن عُمر يُغازلهم ويتقرّبُ إليهم مثل معاوية ، ويزيد ، والحجّاج .
وما أجابَ به الإمامُ الحسينُ عليه السلام هؤلاء الناصحين ، قد اختلفَ حَسَبَ الأشخاص ، وأهوائهم ، وأغراضهم ، ومواقعهم ، وقناعاتهم ، وقربهم ، وبُعدهم ، كما رأينا , وأمّا الجواب الحاسم ، والأساسيّ ، فهو الذي ذكره الإمام في جواب الأمير الأُمويّ عمرو بن سعيد ، فقال : [ص203]. . . إنّه لم يُشاققْ مَنْ دعا إلى الله ، وعمل صالحاً ، وقال : إنّني من المسلمين (127) .
فإذا كان الحسينُ عليه السلام خارجاً لأداء واجب الدعوة إلى الله ، فلا يكونُ خروجُه لغواً ، ولا يحقّ لأحدٍ أنْ يُعاتبه عليه ، لأنّهُ إنّما يؤدّي بإقدامه واجباً إلاهيّاً ، وضعه اللهُ على الأنبياء وعلى الأئمّة ، من قبل الحسين وبعده .
وإذا أحرز الإمامُ تحقّقَ شروط ذلك ، وتمَتْ عنده العدّةُ للخروج ، من خلال العهود والمواثيق ومجموعة الرسائل والكتب التي وصلتْ إليه . فهو لا محالةَ خارجٌ ، ولا تقفُ أمامه العراقيلُ المنظورةُ له والواضحة ، فضلاً عن تلك المحتملة والقائمة على الفرض والتخمين ، مثل الغدر به وهلاكه ، ذلك الذي عرضه الناصحون ، فكيف لو كان المنظور هو الشهادة والقتل في سبيل الله ، التي هيَ من أفضلِ النتائج المتوقّعة ، والمترقَّبة ، والمطلوبة لمن يدخلُ هذا السبيل . مع أنّها مَقْضِيّةٌ ، ومأمورٌ بها ، وتحتاجُ إلى توفيقٍ عظيمٍ لنيلها ، فهي إذنْ من صميم الأهداف التي يضَعها الإمامُ أمامَ وجهه ، لا أنّها موانعُ لإقدامه.
وأمّا أهل العراق وسيرتهم ، وأنّهم أهلُ النفاق والشقاق ، وعادتهم الغدرُ والخيانة . فتلك أُمورٌ لا تُعرقلُ خُطّةَ الإمام في قيامه بواجبه ، وإنّما فيها الضررُ المتصوّرُ على حياة الإمام وتمسُّ راحته ، وليس هذا مهمّاً في حيال أمر القيادة الإسلاميّة ، وأداء واجب الإمامة ، حتّى يتركها من أجل ذلك ، ولذلك لم يترك الإمامُ عليٌّ عليه السلام أهلَ الكوفة ، بالرغم من استيائه منهم إلى حدّ الملل والسأم ، لكن لا يجوزُ له - شرعاً - أنْ يتركَ موقعَ القيادة ، وواجب الإمامة من أجل أخلاقهم المؤذية لشخصه .
وكذلك الواجب الذي أُلقي على عاتق الإمام الحسين عليه السلام بدعوة أهل العراق ، وأهل الكوفة ، بالخروج إليهم ، والقيام بأمر قيادتهم ، وهدايتهم إلى الإسلام ، لم يتأدَّ إلاّ بالخروج ، ولم يسقطْ هذا الواجبُ بمجرّد احتمال العصيان غير المتحقّق في ظاهر الأمر , فكيف يرفعُ اليد عنه ? وما هو عذره عن الحجّة التي تمّتْ عليه بدعوتهم له ? ولم يَبْدُ منهم نكثٌ وغدرٌ بعدُ ؟
فلابُدّ أنْ يمضيَ الإمام في طريق أداء واجبه ، حتّى تكونَ له الحجّةُ عليهم إذا خانوا وغدروا ، كما حدثَ في كربلاء ، ولو على حساب وجوده الشريف .
وقد كان الإمام يُعلنُ ، ويُصرّحُ ، ويُشيرُ - باستمرارٍ - إلي كتب القوم ورسائلهم عندما يُسألُ عن وَجْه مسيره . ليدلّ المعترضين على خروجه ، إلى هذا الوجه الرصين المحكم ، وهذا الواجب الإلهيّ المستقرّ على الإمام عليه السلام .
وبهذا أسكتَ الإمامُ اعتراضَ ابن عمر فقال له مكرّراً : [246] هذه كتبهم وبيعتهم (128) وكلّ مسلمٍ يعلم أنّ الحّجة إذا تمّتْ على الإمام - بحضور الحاضر ووجود الناصر - فقد أخذَ اللهُ عليه أن يقومَ بالأمر عند انعدام العذر الظاهر ، ولا تصدُّه احتمالاتُ الخِذلان ، ولا يردعُه خَوفُ القتل عن ترك واجبه ، أو التقصير في ما فُرض عليه .
بل لابُدّ من أنْ يسيرَ على ما ألزمه اللهُ ظاهراً ، من القيام بالأمر وطلب الصلاح والإصلاح في الأُمّة ، حتّى تنقطعَ الحّجة ، ولا يبقى لمعتذرٍ عذرٌ. وهكذا كانَ يعملُ الأنبياء من قبلُ.
وهاهو الحسين عليه السلام ،وارثُ كلّ الأنبياء, و إمامُ عصره ، وسيّد المسلمين في زمانه ، يجدُ المخطّط الأُمويّ لعودة الناس إلى الجاهليّة يُطبَقُ ، والإسلام بكلّ شرائعه وشرائحه يُهدّدُ بالاندثار والإبادة ، ويجدُ أمامه هذه الكثرة من كُتُب القوم ، ودعواتهم ، وبيعتهم ، و إظهارهم للاستعداد ، فأيُّ عذرٍ له في تركهم ? وعدم الاستجابة لهم ؟
وهل المحافظة على النفس ، والرغبة في عدم إراقة الدماء ، والخوف من القتل ، أُمورٌ تمنعُ من أداء الواجب ، وتعرقلُ مسيرة المسؤوليّة الكبرى ، وهي المحافظة على الإسلام و حرماته ? وإتمام الحجّة على الأُمّة بعد دعواتها المتتالية ? واستنجادها المتتابع ؟ ثمَ هَلْ تُعْقَلُ المحافظة على النفس ، بعد قطع تلك المراحل النضاليّة والتي كان أقلُّ نتائجها المنظورة القتلُ ، حيثُ إنّ يزيد صمّمَ على الفتك بالإمام عليه السلام الذي كان يجده السدّ الوحيدَ أمامَ استثمار جهود أبيه في سبيل الملك الأُمويّ العَضوض فلابدّ من أنْ يزيحه عن هذا الطريق ، وتتمنّى الدولة الأُمويّةُ لو أنَّ الحسينَ عليه السلام يقفُ هادئاً ولو للحظةٍ واحدةٍ حتّى يركّزَ في استهدافه ويقتله , وحبّذا لو كان قتل الحسين بصورة اغتيال حتّى يضيعَ دمُهُ وتهدرُ قضيتُهُ, وقد أعلنَ الحسينُ عليه السلام عن رغبتهم في أنْ يقتلوه هكذا ، و أنّهم مصمِّمون على ذلك حتّى لو وجدوه في جُحْرٍ , وأشارَ يزيد إلى جلاوزته أنْ يُحاولوا قتل الحسين أينما وجدوه ولو كان متعلّقاً بأستار الكعبة ، فلماذا لا يُبادرالإمام عليه السلام إلى انتخاب أفضل زمان ، وأفضل مكان ، وأفضل شكلٍ للقتل
الزمان : يوم عاشوراء , المسجّل في عالم الغيب ، والمثبَت في الصحف الأُولى ، وما تلاها من أنباء الغيب التي سنستعرضها .
وكذا المكان :كربلاء , الأرض التي ذكر اسمُها على الألسن منذ عصر الأنبياء .
أما الشكل الذي اختاره للقتل : فهو النضالُ المستميت الذي ظلّ صداهُ مُدَويّاً في اُذُن التأريخ ، يقضُّ مضاجع الظالمين والمزوّرين .
إنّ الإمام وبمثل ما قام به من الإقدام ، خلّد ذكره ومقتله على صفحات التاريخ ، حتّى لا تناله خيانات المنحرفين ، وجحود المنكرين ، وتزييف المزورين ، ويخلد في الخالدين(129)
وسيأتي حديثٌ عن علم الإمام بمقتله من الغيب ، وإقدامه على ذلك في الفقرة التالية[28]. .
(110)(111)(112) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور (7 /139)
(113)(114)مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7 /0 14 ) .
(115)في مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور : تظارني .
(116)مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7 /140) .
(116)(117)مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7/ 141 ) .
(118)مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7 /141)
(119)(120)مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور . (7 /142).
(121)مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7 / 144 ) .
(122)لاحظ كتابنا جهاد الإمام السجاد عليه السلام ( ص283 ) .
(123)كما في ( ص201 ) من تاريخ دمشق ، ترجمة الإمام الحسين عليه السلام.
(124)كما في ( ص202 ) من المصدر السابق ، وكذلك الحديث ( 331 ) منه .
(125)بل اعتبر ابن عبّاس تعزية ابن الزبير له بمقتل الحسين عليه السلام شماتة كما في الحديث (330)مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (7 /144)
(126)رواه مسلم في صحيحه ( 12./240 )
(127)مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظو ( 7 /141) .
(128)مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور(7/ 135).
(129)انظر مقال: علم الأئمة بالغيب , ص 58 - 69 .