ماتياس تشوكه - ترجمة نبيل جبريل بينو - «هذه الرحلة التي قام بها الكاتب السويسري ماتياس تشوكه إلى الاردن في عام 2004 ضمن مشروع التبادل الثقافي بين الفنانين والأدباء في الأردن وسويسرا والتي نشرت في جريدة (Tages - Anzeiger) السويسرية باللغة الألمانية ضمن مشروع المدعوم ماديا ومعنويا من مجلس الفنون والثقافة السويسري ومؤسسة «بروهلفتيسيا» ليقدم بانوراما كاملة، بعين الأديب والفنان والسائح والانسان قد لا يروق لنا بعض أفكاره، وقد نقع على ما نقدر أنه مغالطات، ولكن تلك الرحلة تستحق أن تقرأ كاملة، كونها تعكس صورتنا في أعين الآخرين، وتكشف عن المناطق التي لفرط اعتيادنا عليها لم نعد نتحسس الادهاش فيها، على مدى أربعة مقالات سنتجول برفقة «تشوكه» في عمان، والعقبة والبترا والبحر الميت، سنرى ما نعرفه من الناصية التي لم ننظر منها سابقاً».
قبل الشروع في الرحلة الى الاردن قصدت احدى المكتبات في مدينتي لشراء دليل سفر عن الاردن، ولكنه ببساطة لم يكن متوفرا في المكتبة. هذا الامر اكبر هذا البلد في عيني: انه لا يسعى الى الدعاية لنفسه. وكذلك البحث عن عروض اللحظة الاخيرة لرحلات جوية الى عمان لم يجد نفعا. والعروض التي يعلن عنها في قاعة المغادرة، مثل «بسعر مغر جدا»، «سعر لقطة» او «بأجرة التاكسي الى الشمس»... كلها تفقد بريقها.
شيء خبرته جيدا بعد ايام قليلة من وصولي الى العالم العربي: اهمية النقود تختلف هنا عنها في اوروبا الغربية. معظم الناس الذين نلتقي بهم لا يملكون الا القليل. ولكنهم لا يركضون جاهدين لكسب ما ينقصهم. اوراق النقد لزجة ومتجعدة، رطبة من العرق ومغبرة من الرمل. ذات رائحة كريهة في الغالب. تتناقلها الايدي برحابة صدر وكل واحد مسرور اذا لم يضطر الى لمسها كثيرا او الى حمل الكثير منها معه. يفضل سائق التاكسي ان يخفض الاجرة الى المبلغ الادنى بدل ان يكلف نفسه عناء البحث عن فكة يعيدها للزبون. او انه يسامح الزبون بكامل الاجرة اذا كان ذاهبا في ذلك الاتجاه على اية حال. والندلاء يستغنون عن البقشيش ليوفروا على انفسهم عناء ارجاع المبلغ الزائد للزبون. العزة والكرامة تحتلان المرتبة الاولى، ثم يأتي الحساب البنكي (ربما كان لذلك علاقة بالقرآن الذي يحرم الربا: الامر الذي يجعل المال عديم الاهمية).
لا نجد في وسط عمان بضائع فاخرة، وهذا يتناسب مع القوة الشرائية المتواضعة للعملة. نجد هنا خليطا من الناس والحوانيت الصغيرة والبيوت الآيلة الى السقوط والمباني الجديدة والبازارات المسقوفة وغير المسقوفة لبيع المأكولات والملابس والذهب والفضة. ليست اسواقا مثل التي نعرفها من صورالروزنامات الشرقية، وانما هي لوحة فسيفساء عصرية من عروض صغيرة باقل الاسعار. اذا شعرت بالعطش تشتري من بائع متجول كوب ماء او شاي بالنعناع او عصير قصب سكر طازج. واذا رغبت ان تأكل حبة صبر او حبة جوافة، او ان تتذوق الفستق الحلبي المحمص او حبة دراق (مفلطحة مثل القرص، ليست جميلة الشكل، مجعدة، لا تفي بالمعايير الاوروبية، ولكنها بالمقابل ذات مذاق لا يعلى عليه)، واذا شعرت برغبة في تدخين سيجارة او اردت ان تخيط زرا او تقصر بنطالك او تلمع حذائك او تستنسخ او تطبع وثيقة، او اردت ان تكبس بضعة اوراق مع بعضها بعضا (يقوم بذلك رجال يرتدون دشاديش طويلة يجلسون امام طاولات صغيرة قابلة للطي، ليس عليها شيء سوى مكبس لهذا الغرض)، اذا كنت بحاجة الى مسمار او جوارب قديمة او اردت ان تصلح ساعة المطبخ او ساعة جدك الصدئة ـ كل هذا يمكنك ان تحصل عليه مقابل مبالغ زهيدة.
بين بسطات اسواق الخضار يقف رجال يحملون سلات كبيرة يضع فيها المشترون مشترياتهم فيمشي الحمال خلف الزبون الذي يريح يديه من الحمل. اذا رغب شخص ما ان يرفع قدميه في المقهى سيجد بالتأكيد شخصا متخصصا بذلك، يحضر له كرسيا بالارتفاع المناسب. تتوفر هنا حلول لكل ما يجعل الحياة اليومية مريحة، حلول بفروق دقيقة جدا في التنفيذ. ايجاد هذه الحلول له الاولوية الكبرى حتى عند اشد الناس فقرا. انها خدمات على اعلى مستوى.
هناك ازقة للإسكافيين، يجلسون امام ماكينات قديمة جدا لخياطة الجلد، تدور بواسطة القشط، يصلحون بها احذية نكون نحن قد القينا بها في القمامة منذ زمن طويل. بموازاة ذلك الزقاق هناك بازار مسقوف فيه اعداد كبيرة من الخياطين الجالسين امام ماكينات خياطة من نوع سنجر، يقصون ويخيطون اي لباس يريده الزبون. وهناك ايضا عالم تحت الارض للسباكين والحدادين هو عبارة عن ممر معتم في قبو تحت عمارتين محروقتين، مقسم الى حجرات خشبية، يقوم فيها الحرفيون بالطرق والبرد والشحذ. واذا رغبت ان تعرف وزنك ستجد رجلا واقفا على الرصيف وامامه ميزان كالذي نستعمله في الحمام.
بالرغم من ان عمان مدينة في ريعان الشباب فان فيها مقهى عريقا جدا اسمه «مقهى الجامعة العربية» يقع في وسط البلد وفي الطابق الاول من عمارة مقابل الجامع المركزي. لا نجد مدخله بسهولة، وهذا لا يعني شيئا، فكل شيء هنا يصعب العثور عليه. تكاد لا توجد اسماء للشوارع، وهذا في مدينة تعداد سكانها مليونان! ليس هناك عناوين ـ لا شيء. على المرء ان يجد طريقه كما يفعل البدوي في الصحراء مستعينا بالريح والرائحة والشمس وعلامات مميزة. فنجد على الكروت الشخصية مثلا عبارات مثل: «بين الدوار الخامس والسادس، مقابل بناية بنك HSBC». وانا اعرف هذا العنوان بالصدفة لأن هناك يقع احد المطاعم المفضلة عندي اسمه «مطعم عمان»، يقدم عددا محدودا من الاكلات الطازجة المشوية على الفحم.
تمتد المدينة فوق تلال، وهي اكبر بكثير مما يتوقعه المرء. بيوتها مبنية من الحجر الكلسي الابيض (وهذا لحسن الحظ قانون متبع بدقة حتى اليوم، الامر الذي يجعل هذا البحر من العمارات ذا شكل متناسق لطيف). اينما يقف المرء يخالجه شعور بأن موجات من الغبار الاصفر تتدحرج نحوه (يستطيع من اي مكان ان يمد بصره بعيدا ويرى على الاقل واحدا من التلال المجاورة). بفضل هذه الطبوغرافية تهب دائما ريح خفيفة تذهب بالغازات العادمة وتبقي الهواء نظيفا. تعلو فوق هذا الجمع اكبر راية رأيتها في حياتي مثبتة على رأس صارية بيضاء ذات علو شاهق. تلك راية المملكة الاردنية ـ ترفرف في ريح الصحراء الحارة، يغمر المرء شعور مثير بالنظر اليها.
كل المخاوف التي يحملها معه الزائر من المتدينين المتعصببين ومن صعوبة التفاهم لغويا وحضاريا تتطاير في الاثير بمجرد وصوله الى هنا. بل يشعر المرء ان كل همومه ذابت في المناخ الحار الجاف واصبح محاطا بالحماية والرعاية، سواء كان رجلا او امرأة. بأي لغة يتفاهم الزائر؟ بالانجليزية. الا ان هذه اجابة غير دقيقة. ففي كثير من المواقف يبقى المرء صامتا متوترا، يئن ويتلوى، مثل الابكم، مصدرا اصواتا غريبة، وحركات يائسة مبالغا فيها. صحيح ان المرء يشعر بالتوتر حيال كل هذا، مثل «الفرد بيولك» الذي يصرخ في برنامجه التلفزيوني «هممممممم» ويقلب عينيه عندما يعجبه طعم اكلة يعدها في حلقة الطبخ. ولكن الامور تسير بشكل او بآخر، والشيء اللطيف الذي يلفت النظر من اول يوم هو عدم وجود المتسولين الذين يحرجون المرء، كما ان عدد الذين يستغلون السواح قليل، وليس هناك ادلاء يفرضون انفسهم على السواح. لا احد يضايق الاجنبي، بل يعتني به.
نزلت في برج فندقي ذي موقع مركزي، هو عبارة عن مبنى حديث مكيف بالكامل ومحكم الاغلاق مثل الاكواريوم. الغرف والاجنحة واسعة جدا ونوافذها عالية علو الجدار. فيكون نصف المدينة عند قدمي المرء. ولكن ليت هناك ولو كوة صغيرة تفتح ليدخل قليل من الهواء المنعش الدافئ.
تصمم معظم الفنادق من قبل انصار التكييف الكامل، تشبه العنابر. والا تكون من الدرجة المتواضعة جدا. لا جدوى من البحث عن سفينة سياحية قديمة جانحة من العهد الاستعماري ذات قاعات عالية مظللة ومراوح مثبتة في السقف ومدخل مسيج باشجار النخيل. لا وجود لماض من هذا القبيل.
صاحب الفندق سعودي. الاثاث ذو طابع اميركي، وعلى الطاولة بجانب السرير سهم يشير الى اتجاه القبلة. في التلفاز برامج عربية. لا تقدم المشروبات الروحية. يصدح من السماعات المثبتة في السقف وفي المدخل تغريد الطيور وصوت الامواج، يقطعه النداء الخافت للمؤذن في اوقات الصلاة، يسمعه الضيف ايضا في غرفته المعزولة عن الاصوات الخارجية. عند الاستقبال يقوم رجال في بدلات انيقة بلقاء الضيف ويعتنون به وعلى وجوههم تعبير فاتر يكاد يكون رافضا (قرأت في كتاب ما ان الابتسام يعني الضعف عند العرب. لا اعرف ان كان ذلك صحيحا. الحقيقة هي انني شعرت عند الاستقبال مثل تلميذ يقف امام مدرس متشدد جدا يحاسبني على اهمال واجبي المدرسي).
كل العاملين في الفندق من الرجال، حتى في المطبخ وفي خدمات الغرف. بدت لي الغرفة قذرة قليلا في الليلتين الاوليين (ربما كان ذلك حكما متحيزا حملته معي من بلادي). احضرت في اليوم الثالث شراشف نظيفة تفوح منها رائحة قوية. اما منشفة الاستحمام فلم ارد حتى ان ألمسها، اذ كانت تفوح منها رائحة العفن والخل، فأدرت عيار المكيف على ثلاثين درجة مئوية وجففت جسمي بالهواء. كانت رائحة الزنخ تفوح من كل انحاء الغرفة. بقيت مستلقيا على السرير فوق اللحاف في ارق، متنفسا ببطء بقدر ما استطعت. وفي صباح اليوم التالي بدأت احزم حقائبي، ولكنني خشيت ان اهرب من «تحت الدلف الى تحت المزراب»، فأعدت كل شيء الى الخزانة.
اخيرا تذكرت صديقا لي عمل في صباه في الفنادق، كان اذا نزل في فندق يعطي منظفي الغرف بقشيشا كل يوم، لأن رواتبهم متدنية جدا تكاد لا تكفي لسد حاجات المعيشة. لذا القيت الشراشف النتنة في زاوية الغرفة ووضعت دينارا على الفرشة العارية. وعندما رجعت الى الغرفة في المساء وجدت الفراش مغطى بشرشف ناصع البياض وعلقت في الحمام مناشف ذات رائحة عطرة. اصبحت منذ ذلك اليوم اضع دينارا على الطاولة، وهكذا اجد الغرفة نظيفة والشراشف مبدلة كل مساء، الامر الذي اجده مبالغا فيه خاصة وان الاردن يعاني من شح شديد في مصادر المياه، وانا لذلك ما كنت لأمانع ان استعمل نفس الشرشف ليومين او ثلاثة ايام. من المؤسف انني لا استطيع ان اشرح ذلك لعمال التنظيف. التقي بهم احيانا في الممر واحاول ذلك، فيبتسمون لي، وفي المساء اجد منشفة اضافية نظيفة على الطاولة. وصل عدد المناشف الآن الى خمسة. لا اعرف كيف اوقف هذه العملية. كل شيء ينال اعجابي حتى الآن، مع ان هناك في الواقع القليل مما يثير الاعجاب. صحيح ان للمدينة تاريخا قديما، ولكنها ظلت مختفية من على وجه الارض عقودا طويلة ولم تنهض مرة اخرى الا منذ عهد قريب. انها تنمو بسرعة فائقة. اقدم بيوت فيها بُني قبل تسعين سنة. ولكن لم يبق منها الا القليل، واغلبها مخبأ خلف جدران عالية، مثل دارة الفنون، احد اجمل المباني في وسط البلد، تتكون من فيلات كبيرة ذات حدائق على عدة مستويات ومطلة على المدينة القديمة. لا يكاد الزائر يتخطى احد الابواب الثلاثة للسور حتى يأسره جمال المبنى. كل ما فيه بسيط وفيه ذلك الذوق الذي لا يلاحظه المرء. فيه مقهى بسيط للزوار وقاعات مضيئة ذات اسقف عالية تقام فيها المعارض وامسيات ادبية وعروض موسيقية صغيرة. في الجزء السفلي من الحديقة صفان من الاعمدة تذكران ان معبدا رومانيا كان هنا في يوم من الايام. انه مكان ساحر لإقامة حفلات موسيقية في الهواء الطلق (سمعت هنا غناء المطربة الفلسطينية العنيدة الساحرة كاميليا جبران، التي لن ادع حفلة من حفلاتها تفوتني في المستقبل اينما اقامتها. تذكروا اسمها: كاميليا جبران).
بغض النظر عن دارة الفنون فإن المتاحف ودور السينما والمسارح شيء نادر. كما لا توجد مقاهٍ من الطراز الراقي كما نعهدها في المدن الكبيرة ولا مطاعم ذات عراقة. الطابع الاجمالي للمدينة ذو خشونة، ولكنه بالمقابل يتسم بالبساطة والانفتاح بما يجعله قريبا الى النفس. وبمجرد ان تنعطف الى داخل احد الشوارع الفرعية، وخاصة على التلال الغربية، حتى تكتشف نوعية الحياة الرفيعة. هنا توجد العمارات المقامة على مساحات كبيرة من الارض تحيط بها حدائق من اشجار الصنوبر والنخيل، يخدمها بستانيون وخادمات من الفلبين، تنعم في نور الشمس والهدوء والامان. وعلى تقاطعات الطرق الجديدة والميادين التي تنشأ باستمرار هناك المقاهي والمطاعم على نمط اوروبي. يشعر الزائر المتجول بشيء من الضياع والغربة بين هذه المباني الجديدة الجرداء، ولكن يبدو ان هذا لا يردع السكان المحليين. واذا ذهبت في المساء الى الصويفية مثلا وجلست في «بلانيت دونت» تحت الاقواس لتشرب كوبا من عصير برتقال طازج (من دون ثلج) وانتظرت مدة كافية ستجد نفسك مغمورا بنشوة متوسطية، فمن كل الجهات ينسل الناس، وبشكل خاص نساء شابات (على غير ما هو عليه في وسط البلد حيث يندر ان ترى النساء في الاسواق) وشبان وآباء وامهات وعائلات كاملة. المتاجر مفتوحة. يتفحصون الملابس والاحذية والحقائب. افضل محلات الحلويات من لبنان وسورية والعراق لها فروع هنا، ونكتشف مخبزا في ممر ملتو من ابراج الصفيح يسير من بينها الزبائن في صفوف ملتوية. هنا تجد الخبز الساخن برائحته الزكية بأحجام مختلفة، منه ما هو مطعم بالتين والتمر والجوز والزيتون، منه الاسمر والابيض، عليه الجبن والتوابل. كل زبون يخدم نفسه بنفسه، تفرغ صواني الصفيح وتحل محلها صوان اخرى من بيت النار... انه الفردوس. وترى في كل مكان اولادا يلحقون بوالديهم، فيشعر الواحد منا برغبة في ان يحيط به على الاقل ستة منهم يتراكضون حوله. كل هذه المتعة المسائية نعيشها في حي جديد دون ملامح معينة، الا انه، نظرا الى السرعة الكبيرة التي تنمو بها المدينة، اصبح في الوسط.
اما بالنسبة لحركة المرور فيتطلب الامر التحلي بفضائل مثل الشجاعة والجرأة وخفة الحركة. فالسائقون الذين يدوسون على الفرامل امام الاشارة الحمراء او يلقون نظرة في المرآة عندما ينعطفون الى دوار ذي ستة مسارب، ليتأكدوا ان كان احد قادم من الجهة اليسرى، نادرون، بل يعتبر مجرد النظر في المرآة، او حتى وجود المرآة، علامة من علامات الجبن. على الراجل ان لا يتردد وان يندفع الى خضم حركة المرور برباطة جأش، وسيصل بالتأكيد الى شاطئ السلامة على الجهة المقابلة. انه عقاب للمرء ان يكون هنا من المشاة. فالارصفة غير معبدة ولا تصلح للمشي عليها، ولذلك يتجنبها المشاة ويمشون على الشارع، ويزاحمون السيارات. المرافق العامة لا تغري بارتيادها. الاماكن التي يمكن للمرء ان يجلس فيها ليرتاح قليلة جدا، وليست هناك حدائق، لا شيء. هناك فقط مقاهٍ للرجال للتدخين ولعب الورق في الاقبية او الطوابق الاولى، يصعب رؤيتها من الشارع. وفي المساء بعد ان تغيب الشمس ويحل الليل، وهذا شيء يحدث بسرعة مذهلة هنا، نشاهد نساء ورجالا واطفالا يمسكون بثيابهم ويركضون عبر الشوارع ذات المسارب المتعددة ليصلوا الى الجزر غير المضاءة الموجودة بين الشوارع ليستريحوا على المقاعد ويتبادلوا الاحاديث. ليست هناك امكانية اخرى.
ومع ذلك يشعر المرء براحة كبيرة من دون سيارة خاصة به. ولكن عليه ان يتجنب الذهاب مشيا على الاقدام. ليس هناك وسيلة نقل افضل من سيارات التاكسي اليابانية التي تجوب الشوارع بالآلاف بشبابيك مفتوحة وستائر مرفرفة بالوانها الصفراء والبيضاء. الصفراء منها هي كما هي عندنا في اوروبا. عليك فقط ان ترفع يدك قليلا دون حركات كثيرة تجعلك اضحوكة، فيتوقف لك التاكسي. يتوقع من الضيوف ان يكونوا وقورين وانيقين. تتوقف السيارة بفرملة حادة فتركب وتذهب اينما شئت (لا تكلف الرحلة اكثر من دينار).
عندما اشعر بالملل استقل التاكسي واذهب الى احد التلال التي لم اصلها بعد وانزل هناك واتجول قليلا ثم استقل سيارة اخرى واواصل السير. يمكن ان تتحول طريقة الانتقال هذه الى نوع من الادمان. هكذا اتخيل ركوب الحصان من دون سرج. تشق السيارة طريقها في الشوراع المزدحمة وتتاح للضيف الفرصة ليرى الكثير من المدينة والهواء يهب في وجهه والموسيقى العربية تملأ اذنيه. انه شيء جميل. قليل من السواقين يغشون. معظم السواقين يشغل العداد دون نقاش ويأخذ ما يسجله العداد. سبعمائة فلس او ما يقارب ذلك. اذا اضاف الزبون شيئا يعد ذلك كرما منه واذا لم يفعل فلديه اسبابه او ربما لم يكن وضعه المالي جيدا. انها رفاهية كبيرة للغاية للسائح: يتمشى حيث يشاء، وعندما يشعر بالتعب يستقل التاكسي ويكمل المشوار. وهناك سيارات التاكسي البيضاء التي تسير على خط محدد. وهذه ايضا يوقفها المرء برفع اليد حيثما كان، واذا كان فيها مكان شاغر يتوقف السائق فيصعد الراكب ويعطي السائق مائة فلس ويذهب معه مسافة ما. انه اكثر نظم المواصلات القريبة التي عرفتها راحة.
رغم ان كثيرا من النساء متحجبات، فإننا لا نشعر بجو خانق او مكبوت. هناك ايضا نساء في ملابس اوروبية يتجولن ليلا ونهارا في كل مكان بحرية تامة ( الا انهن لا يستطعن ان يجلسن). ينادي المؤذن بصوت رقيق، ليس فيه رعب ديني، وانما تأمل روحي وتسامح. بمجرد ما يعلو نداء احدهم يسارع سائقو التاكسي واصحاب محلات العصير والدكاكين بخفض صوت المذياع فيخيم على المدينة هدوء الريف، ثم تعلو الاصوات الاخرى مرة اخرى تتخللها فترات وجيزة واصداء بعيدة. تتكرر هذه اللحظات الساحرة خمس مرات في اليوم: الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء. اولها يكون في الصباح قبل شروق الشمس حيث يعلو النداء برقة خاصة. (ملاحظة على الهامش: يكتسب الوقت صفة اخرى عندما لا يحسب بالثواني وانما بحركة الشمس والقمر. تصبح الايام ارق وتنساب بنعومة، لكل منها وجهه الخاص به، احدها سمين والآخر انحف قليلا، وايام الاعياد تكون مرة قصيرة ومرة طويلة. شهر رمضان ايضا يتجول خلال فصول السنة).
لنعد الى مقهى الجامعة العربية. قاعة مظللة مطلية دون زخرفة، تنضح بجاذبية قاعة مصنع معطلة وتنبعث منها رائحة الانحطاط والشوق بأثاثها الملخلخ. انها صورة للجنوح. يجلس المرء فيها وينظر من خلال الشبابيك المفتوحة الى السماء البعيدة ذات الزرقة الباهتة. ولأن المقهى يقع في الطابق الاول لا يرى المرء شيئا سوى حواف بعض الاسطح المستوية دون ان يراه احد. ويمر الوقت، وتدور المراوح الكبيرة المثبتة في السقف، حفنة من الرجال يلعبون الورق (الزبائن هنا من الرجال فقط). بعضهم يتفرج وآخرون يقرؤون الصحف (انها عملية جادة هامة: لا تقلب الصحف هنا بسرعة كما هو الحال عندنا، وانما تمسك بحذر وتقرأ الصفحات المكتوبة بخط جميل صفحة صفحة ويتمعن فيها كأنها صور. تتطلب القراءة كل جهد المرء). وبعضهم يجلس ويفكر وبعضهم الآخر يدخن النرجيلة او يشرب القهوة وتسود الجو كآبة رائعة. يتجول النادل من حين لآخر في القاعة، وظيفته الوحيدة ان يملأ النرجيلات بالتبغ ويوقدها ويحضرها، واذا اقتضى الامر يمدها بجمرات من الفحم المتأجج. يحصل مقابل ذلك على خمسين او مائة فلس من كل مدخن، يغطي نفقات عيشه منها. بفضله يرتاح المدخنون من عناء حمل التبغ والكبريت في جيوبهم. انه عيش رغد لطيف. يجلس المرء ويطلب النرجيلة ويبدأ بسحب الدخان الى جوفه ناسيا نفسه. وتستمر العملية الى ما لا نهاية، فالنرجيلة لا تنطفئ، واذا ضعفت ينادي عامل النرجيلة ويطلب منه ان يسحب منها نفسا بقوة لتأجج مرة اخرى (عامل النرجيلة هزيل الجسم وشاحب اللون من كثرة التدخين).
يشرب المرء معها حليبا ساخنا (الحليب البارد له طعم الطفولة. كنت اشربه دائما قبل النوم عندما امرض). يجلس المرء ويمص الحليب والنرجيلة، فتسمع الفرقعة المسكنة لفقاعات النرجيلة ويتخدر الرأس (ينفث المدخن سحابات هائلة من الدخان دون وعي). لا حديث ولا قراءة ولا انشغال. مجرد جلوس. بعد حوالي عشر دقائق يشعر المرء بدوار خفيف ويستمر بالتدخين ويرى المدخنين الآخرين غارقين في السبات والأحلام، فيغفو، ثم يسحب كرسيا ليضع عليه ساعده المثقل ويفكر، ثم يسحب كرسيا آخر ويضع عليه ساعده الآخر، ويمر الوقت، وتستمر مراوح السقف بالدوران وتصعد ضجة الشارع من اسفل الى اعلى....
وفي وقت ما يعود المرء الى الشارع (دينار ونصف كان ثمن القهوة والحليب والنرجيلة واجرة خادم النرجيلة)، يعود المرء الى الشارع متخدرا نوعا ما، يوقف سيارة اجرة ويذهب بها فوق التلال على انغام اغان سورية (جورج وسوف) وشبابيك مفتوحة، قابعا في ظل قطعة من الكرتون محشورة في الباب، مخترقا الضياء الحاد، جالسا الى جانب سائق صامت منغمس في احلامه.
علمت فيما بعد ان النرجيلة محشوة بتبغ صاف قوي، تأتي افضل انواعه من البحرين، والكمية تعادل علبة سجائر كاملة. فمن الطبيعي ان يتخدر المرء منه، وهذا هو الغرض المنشود.

