Site hosted by Angelfire.com: Build your free website today!

متى تنتهي المنافي؟

مظفر النواب شاعر أرهقه التحديق

 

بقلم: كرم نعمة - طرابلس

 

هو أحد أولئك الذين يذرفون الدموع بلا رادع..! لأن حياته منطق المأساة العراقية "عبرنا المأساة الإغريقية منذ ان أفرغت الشاحنات حمولتها الزائدة دون أن تعيد الدموع الى مآقيها" كلما أرهقه -وأرهقنا- التحديق في تلك الأبهة الضائعة.

في بروكسل أهدر مظفر النواب دموعه في مساء بارد، حينما أهداه نصير شمة مقطوعة موسيقية مليئة بالأحاسيس المتفجرة، وفي مساء اليوم الذي لم ينته بعد..!؟ اتشحت القصيدة برداء الأحزان العظيمة، فصرخ النواب:

عند الفجر

صاح غراب البين

ثلاثين بأذني

او ما تكفيك

غراب البين

ثلاثين!؟

وهذه "الثلاثين" في شعره سر مربك ووضوح أخاذ، إلتياع، تكرار لا يتكرر، فهو لم يزل يحتمي بقوة الكلمات وهيام الجغرافيا، وفي شكل يعبث بمقاييس الأشياء لكي تبدو بلا قناع مثل كل الشعراء.. الشعراء، آه من الثلاثين في شعره..!

عمر وأتعدى الثلاثين

لا يفلان

عمر واتعدى واتعديت

لا طارش كذب وديت

وفي دمشق إنهارت دموعه أيضاً "أدى نشر خبر صغير في إحدى الصحف عن أمسية الى ازدحام في الصالة دفعني للبكاء أمام الجمهور"، وفي ألمانيا حيث يوجد عدد كبير من الجالية العربية، اضطر مدير دار الثقافات الى النزول الى المسرح والتمني على الجمهور الذي لم يجد مكاناً له العودة في اليوم الثاني، وذلك بعد ان طلب منه إحياء أمسية إستثنائية أضيفت على جدول الدار، وكان الألمان مذهولين بحق مما جرى في تلك الأمسية.

فمتى يكف هذا الطائر النائح عن البكاء؟

ولم نطلب ذلك! أليس هو من بين أولئك الذين يطرقون بوابة الدموع، بوابة بغداد؟

منذ كنا صغاراً، كنا نهمس بقصائد هذا الشاعر ونجهل سر تكوينه، غير أنا نشدو مع صدى المواويل التي لا تكتمل إلا بعد أن يضعضع السكر روحها، كذل هي ترانيمنا المقدسة الحزينة آنذاك "كم بقي منها؟" ليل البنفسج، الريل وحمد، زرازير البراري.. متشعة بصدى القطارات والليالي المقمرة.

في جانب آخر كنا نحن الصغار نردد "وترياته الليلية" بخوف في بلاد ما كنا نعرف أنها لم تعد تعرف السلم مرة أخرى، إلا بعد أن تغرق في لجة الدماء البريئة.

وقصائد مظفر النواب تنم عن طراز غير هياب من أن يظهر منها شيء من الحمق والسخرية وهو ينزع سلاح الإختيار، كان قادراً على أن يدرك جوهر الحياة في مواجهة الهزيمة قبل مواجهة الموت "لا يسعني إلا أن أكون ساخراً في كتاباتي، ذلك ان السخرية هي واحدة من أدوات تعدية الأشياء وفضحها على حقيقتها، أستعمل في قصيدتي كل المواد التي تخدم الموضوع، فالقصة والسخرية والشحن وإثارة العواطف.. كلها أدوات أوظفها في بناء هندسي محكم للقصيدة".

مع أن ثمة تساؤلاً طالما يتردد عن شتائم لاذعة تكتشف قصائد النواب، هل فقد الشعر أصدته بالروح لينساق الى الغضب والتجريح، ومظفر النواب لم يقل بأن الشتائم أفضل لغة سياسية:

-قلت الشتائم هي احدى الأدوات التي يمكن استعمالها، لكن بدقة، ذلك انها تستعمل عبر صورة مبنية جداً بهدف محارة البذاءة، وليس لترويجها، في التاريخ العربي القديم والمعاصر، هناك أقوال وأشعار مقذعة جداً كان قد استخدمها قادة عالميون، أجهل سبب التخوف من استعمال مثل هذه المفردات التي من شأنها ان تخدمني كثيراً في إيصال رسائلي الى من أشاء وبالطريقة التي أريد، في المقابل، أعلم جيداً أن هناك بعض الأوساط التي تسعى الى ترويج فكرة انني شاعر ذو لسان بذيء، أو شاعر لا أخلاقي، وهنا المفارقة إذ تحاربونني بالكلمات نفسها التي أحارب بها أمثالهم.

مع ذلك تبقى نصوصه في كل الأحوال مغامرات لها صلة خفية وغير قابلة للفهم دائماً، بما عانيناه في الحياة وما ساورنا من أحلام اغتيلت بقسوة، وكيف انقلب كل شيء آخر الأمر الى أوهام حزينة، لا ندري أمن الصواب أن نعاود إجترارها، أم نتعقل ونرجع القهقرى، وبالنسبة له يعتقد ان الشعر الحقيقي المؤثر هو الذي يستند الى تجربة كبيرة، وعندما يفكر في العطاء، إنما يلمس جرحه الذي هو ذاته جرح كل مواطن عربي، فالتوحد في الأحاسيس بين الشاعر والجمهور أمر ضروري جداً "من المؤسف ان هذا الأمر بات يتقلص يوماً بعد يوم عند كثير من الشعراء، ويتجه بالتالي نحو الأنانية والفردية والإنكماش".

لاشك في أن الإحباط العام المسيطر على الشعوب العربية -يقول النواب- له تأثير في تردي الحالة، وهذا الإحباط دفع بالشاعر الى الانكماش نحو ذاته، حتى أن عدداً كبيراً من الشعراء بات يعاني اليوم عقدة النرجسية، انها خطوات متسلسلة الواحدة منها تؤدي الى الثانية.

-أهكذا تقع تصفي الحساب مع الزمن الذي فاتنا دون أن نحياه..! فمظفر النواب يلعب لعبة المسافر في المكان "صحيح أنني تغربت عن العراق، الا انني كنت أنقل وطني معي الى أي مكان أحل ضيفاً فيه".

وكل من إلتقاهم وسألهم عن عراقه؟ قالوا: لا تسأل أبداً عن العراق، لو عدت إليه اليوم لن تعرفه أبداً، كل شيء فيه تبدل، تغيرت المدن والناس والأخلاق والعادات والأمكنة. وفي كل مرة يسمع عن مأساة جديدة في العراق ينتابه احساس شديد بالإختناق، فيصب جام غضبه في قالب شعري يولد من صلب المعاناة.

المكان يحتفي بمظفر النواب، في طرابلس حيث يؤمها كثيراً، لن يمر شهر دون أن تعيد اليوميات الصحافية وبرغبة أشد "وترياته الليلية"، يرددها الناس هنا منذ عشرين عاماً، رغم أن مثقفي البلد يأخذون عليه بشدة عدم إلمامه بالمشهد الثقافي الليبي، وفي دمشق التف حوله المغتربون الجدد، فكتب مسرحيته المتساءلة "العربانة".

لكن الى متى تتوقع ان تستمر في ترحالك؟ -تسأله رولا عبدالله- : أنا لست رجلاً حزبياً لأغوص كثيراً في قراءة الأحداث، ولكن حدسي يخبرني أن ثمة شيئاً كبيراً وخطراً يتم التحضير له، أجله شخصياً هذا الشيء، الا أنني على ثقة بأن شعبنا قوي وقادر على أن يؤسس لحركة تغيير في المجتمع تأخذه مكانها، حينها تنتهي المنافي ويعود كل مشرد الى دياره.

ولم تنتابه يوماً لحظة تشاؤم، على الرغم من التجارب القاسية التي مر بها، عنده ثقة بأن الأوضاع يمكن أن تنقلب في لحظة من وضع الى آخر، مع أنه يتعجب كيف أننا مهووسون بالديمقراطية!

بينما الحقيقة تخبرنا أنه لا يوجد أي بلد عربي ديمقراطي بالمعنى الفعلي للكلمة، هناك شكلية ديمقراطية تصبح هشة عندما يغضب "المسؤول"، وينتج الغضب تطاير رؤوس معظمها من الأبرياء والشرفاء.

ويظل مظفر النواب شاعر الفقراء لأنه لا يلتفت لجوائز الشيوخ العشوائية ولا يتمناها، لأنها ليست إلا بهرجة ومباهاة تقدمها هيئات غير معنية بالأدب، وحصل مراراً ان رفض تكريم هيئات رسمية، إلا أنه يعتبر تكريمه الأخير من قبل المؤتمر الدائم لمقاومة التطبيع الأكثر صدقا لأنه نابع من الشعب كعرفان جميل لما قدم.

 

حاشية: آراء الشاعر استلت من حوارات صحفية منشورة.

 

.المصدر:

جريدة الزمان - لندن

العدد 359

يوم السبت - 26/06/1999