Site hosted by Angelfire.com: Build your free website today!

مظفر النواب.. غاب الشاعر وبقي خطيب المناسبات الماضية

محمد عفيف احمد

 

نشأت وأنا أعشق شعر مظفر النواب، وعندما تناهى إلينا صوته أوائل السبعينيات، بدا ان أفقا جديدا فتح او يكاد، في الشعر وفي الحياة معاً، وعندما تستعاد ملامح تلك الفترة الصاخبة، فلا شك بأن مظفرا، بشعره، وبسيرة حياته، وبطريقة إلقائه الشعر، تلك الطريقة المبتكرة، وبالطبع بما يتضمن شعره من تلك الصور الفنية الرائعة، وموسيقاها الجميلة، ومفرداتها الشديدة الخصوصية، خاصة في مقام القذع والهجاء، وبالأخص في ذلك الكم من الشتائم الحارة التي كانت تصدم بادئ ذي بدء، ثم تحصد الإعجاب لجرأتها في توصيف الواقع ولجرأتها البالغة في التحدي والمضي به.
أقول عندما تستعاد تلك الفترة الصاخبة، فإن النواب (مجتمعا) علامة فارقة فيها، بذلك المزيج من الحزن الكربلائي وأناشيد الثورة العربية، وصعود اليسار، والهزائم المتتالية، وحس التمرد الرومانسي، وعندما أوغل النواب في دمه، وفي شعره معاً، صارت قصائده المخبأة والمهربة، وكاسيتات شعره، ملازمة لجيل عريض في المشرق العربي خاصة، بل تهمة تحاسب عليها اجهزة الامن، في اكثر من قطر عربي، هذا ولم يكن الكثير يعرف وجه شاعره المفضل ولا حتى قرأ ديوانا له، وهو المحاصر والمطارد والشريد والممنوع، لا بل باتت قصة حياته، التي هي الى حد كبير، احد موارد الإلهام الكبرى في شعره، جزءا من اهتمام معجبيه الذي لا ينفصل عن الاهتمام بشعره وقصائده. ومع الوقت، في ظل القمع، وفي ظل الهزائم، وفي ظل الآمال الضائعة والاحلام المنكسرة ازداد مظفر النواب تألقا وازدادت شعبيته تصاعدا، ومع كل قصيدة جديدة، كان حزب مظفر النواب، بذلك الخليط الخاص من معجبيه والتسمية هنا بالطبع رمزية ينمو ويكبر. 

 

ظلم نفسه


ظلم النواب نفسه كثيرا، وظلمه جمهوره كثيرا. له ان يقول انه وسط حقبة الهزائم، والحصار، والمطاردة، وضياع فلسطين، والخيانات المتكررة، كانت الحاجة الى صوت يحرض على القتال، ويحرض ضد الخيانة، ويحاول منع المذبحة، وكانت وظيفته شاعرا تماما، مثل وظيفة المقاتل الذي يعلم ان انسحابه سيؤدي الى المزيد من الهزائم، وأن استشهاده يوقظ، وقد يفلح في استعادة جناح سنونوة، او عرف وردة، وله ان يقول ان غياب الآخرين كان مدويا، لا بل كانت الساحة تستعد للمزيد من القتل والقمع والهزائم، له ان يقول ايضا ان ذلك ليس تعارضا مع الشعر، ولا انتقاصا من الشاعرية، ألم يكن ذلك سيرة اسلافه العظماء من الجاهلية الاولى وصولا الى حسان والمتنبي وأبي تمام، ألم تكن وظيفة الشعر في سيرة العرب، استثارة الحمية، والتفاخر بالفروسية والفداء، والدعوة الى الثورة والتغيير والانقلاب، والحق يقال ان مظفرا حيث أراد ما أراد، أفلح في ذلك أيما فلاح، أفلح في التحذير وأفلح في قتال الردة، وأفلح في هجاء الواقع المرير خاصة، حتى عده البعض سمياً للبحتري أهجى العرب.
ووسط هذا الدور ضاعت او ذوت شاعرية مظفر النواب، ضاعت الوتريرات الليلية والقصائد السرية لإمام المغنين ومرينا بيك أم حمد وتلك الصورة الرائعة المبتكرة والخلاقة وتلك القدرة الهائلة على ابتكار المفردات ودوزنة القوافي واستحضاره المتقن والفريد للتاريخ، وأطل بدلاً منها الخطيب، الثائر، المحرض، الشتام وليس هذا دورا مرذولا بالطبع المنفس للأوجاع العربية ولأمراض النفس العربية، وهذا هو بالضبط ما أحبه جمهوره العريض، وحزبه الواسع، على امتداد العالم العربي، ورسخت في الاذهان وما تزال "أولاد القحبة" و"أبول عليهم فوق المناضد والبرلمانات والوزراء" وغير ذلك كثير كثير، وعندما كانت تمتلئ القاعات لحضور امسياته حيث أطل خاصة في بيروت ودمشق وعندما كانت الأيدي لا تتوقف عن التصفيق، ويصعد المعجبون الى المسرح لتحيته والسلام عليه، كانت هذه المعاني بالضبط والتعميم هنا لا يخلّ بالتخصيص هي التي تحضر ويحضر الخطيب المفوّه ويغيب الشاعر المبدع. وهذا هو أقسى الظلم الذي مارسه جمهور مظفر النواب عليه. وزاد من الظلم الذي مارسه الشاعر بحق نفسه، استسلامه لهذا الدور حتى لا أقول إعجابه به او تماهيه معه واستسلامه للرتابة وعدم التجديد في المضمون وفي الشكل معاً، حتى باتت الامسيات التي يدعى إليها نسخة عن سابقاتها لولا صنوف الزمن وبعض أحداثه الحافلة وما تقتضيه من قصائد المناسبات التي اجاد فيها، ورغم ذلك، والحق يقال، ان الصفير المرحب والتصفيق المدوي ما زال حاضرا وإن بقدر أقل من الحماسة والاشتياق. 

 

التغيّب


عندما التقيت مظفر النواب أواسط الثمانينات، كان في نيتي، اضافة الى التعبير عن اعجابي به مثلي مثل سائر هذا الجمهور العريض ان أعرفه على مسيرة لم تكن ملامحها قد اكتملت بعد، وعلى جيل من الثوار والمناضلين لم يكن قد تم اكتشافه كفاية، ولم يُبدِ حينها كثيرا من الاهتمام، رغم انه في فترة لاحقة تعرف الى السيد عباس الموسوي الأمين العام السابق لحزب الله في لقاء مطوّل أبدى خلاله السيد إعجاباً خاصاً بالشاعر وبشعره.
وكنت سألت الشاعر حفيا في لقاءين تاليين ان كانت آلهة الشعر أوحت إليه شيئا، وكان السيد عباس الموسوي قد استشهد وكنت أعتقد ان مثل هذه الشهادة المضيئة ستفعل فعلها الانساني في نفس الشاعر الثائر، وكان قد سبقه الى نفس المصير، بضع مئات من الشهداء، وأجابني في حينها، انه لا يستطيع ان يكتب في حدث وانه يحتاج الى وقت كي يتفاعل مع العناصر الانسانية الضرورية لقصيدته، وانه بالتالي ليس شاعر مناسبات، وأعلم ان هذا ليس فقط طبيعيا بل هو حق من حقوق الشاعر البديهية رغم ان الكثير من الشعراء المجيدين شعراء مناسبات (والنواب بالمناسبة في الطليعة منهم والشواهد كثيرة) ولهم فيها قصائد هامة ولا يعيبهم هذا اطلاقا، يستوي في ذلك المتقدم منهم والمتأخر.
وفي هذه الاثناء، كانت صورة المقاومة الاسلامية في لبنان، الخفية في بداية الثمانينات، والتي تتعرض لامتحان قاسٍ في جديتها، وفي جدواها، وفي هويتها أواخر الثمانينات، وبداية التسعينات، قد بدأت تكشف وجهها الحقيقي تدريجا، بذلك الكم الهائل من الإرادة، والتضحيات، وإرث عاشوراء، وانكسارات الحقبة الماضية وانتصاراتها، وبضعة آلاف من الشهداء والجرحى والأسرى، والوفاء الصادق لتراث رائع وجميل وحزين.
خلال ذلك، لم تحظَ هذه المقاومة، وما تزال، من محيطها الطبيعي، بعمل فني، يواكبها، إلا ما ندر، لا بلوحة ولا بقصيدة ولا مقطوعة نثرية، بل كان حظها على الاغلب الجفاء في وسط المثقفين إن لم يكن احيانا التندر المشوب بالحسد، وأضافت النزاعات المحلية الى ذلك الكثير من الكراهية والتباعد، وعندما أثار أحمد بزون في صحيفة "السفير" ذات يوم بعد الانتصار مسؤولية المثقفين عن المقاومة والسبيل الى إنصافها والاعتراف بالتقصير عن هذا الاهمال المتعمد، ووجه بالانتقاد، وبرر العامل الفني التغييب المسيّس، ثم ما لبث ان طوي هذا السجال الضروري سريعا.
وعندما غُيّب الانتصار الطري الرائع البهاء، والاول عن جدارة، بعد خمسين عاما من النكبة الكبرى، وغاب معه عشرون عاما من الدماء والفداء، عن الامسية الاخيرة للنواب في قاعة الاونيسكو، أدركت كم ان هذا التغيب كان متعمدا، وربما مطلوبا، وأدركت ان حكاية التفاعل الإنساني الضروري واستحضار الحدث بإحساس الفنان لا بصراخ الخطيب ليست سوى مبررات هذا التغييب الذي تمخض عن القناعات المسبقة وآنية السياسة وعللها الدائمة، وهنا كان الشاعر يمارس قناعاته بحرية واختيار، ولكن كم كان ذلك ينتقص من الشعارات المرفوعة منذ نحو ثلاثين عاما والتي لم تتجدد، ولم تعد قراءة التاريخ، ولا نظريات التغيير، او لم ترد ان ترى ان هذا النصر ممكن من غير البوابة القديمة الوحيدة إليه.
في الاونيسكو كان هناك جيلان: الاول يريد استعادة الحلم والتعبير عن الذات الضائعة فلم يجد لدى النواب سوى قصائد حقبة الهزيمة، والآخر الذي دعاه ولم يكن يفهم مظفر النواب ولم يكن يعرف فيه سوى شهرته العريقة وأغلب الظن انه لا يزال كذلك، وبينهما بعض الرفاق العتشاق الذين استمتعوا بإلقائه وبقصائده المكررة القديمة.

 

.المصدر: جريدة السفير –14 ديسمبر 2000 – بيروت.