Site hosted by Angelfire.com: Build your free website today!

مظفر النواب وحرارة الشاعر

بقلم الأستاذ الشاعر: عبدالكريم الناعم

 

الكلام عن مظفر النواب سهل بقدر ما هو صعب، سهل لإتساع المساحة، وصعب لاتساعها أيضاً، وإذا أردنا الخروج مما يقترب من مناخات الشعر لمناخات الالتفات الى التفاصيل في اللوحة، فإننا نتوقف أولاً عند مسألة الشهرة والشعر.

في هذه المسألة، وكما هو معروف، ثمة شعراء كانت لهم من الشهرة ما هو أكبر من حجم ما لهم من الموهبة، وثمة مغبونون، عندهم من الشعر أضعاف أضعاف ما لهم من الشهرة، حتى لكأننا أمام حقيقة أن الشهرة حظ، أما مظفر النواب، فقد نال من الشهرة مجداً يغبطه، أو يحسده عليه الآخرون، بيد ان في شهرته ما هو دون بنائية شعره، ووهج ذلك الشعر، وروحيته، إذ أن شهرته، في قسم منها، انبنت في الغالب، على ارتفاع الموج للخطاب السياسي، وللموقف النضالي المعروف في حياة النواب، ولا غضّ، ولا استصغار، غير أن ذلك طغى، او سمح بإخفاء ما هو أكثر ألقاً، وحيويةً، وإبداعاً.

شهرة لم يقترب من ذروتها إلا القليل، من حدود ازدحام الجمهور في الطرقات لسماع (إنشاده).. وحتى تملك شريط الكاسيت، ولئن كان قد أخذ على عاتقه، بإحساس جمعي غامر أن ينطق سياسياً وطبقياً وعروبياً باسم الملايين الكادحة المظلومة المنتجة، بطريقة وأسلوب خاصين،.. ولئن كان حضوره على المسرح في الإلقاء، أو في شريط الكاسيت ذا روعة نادرة. فإن هذا ليؤكد صميمية التفاعل، والتعبير، والتحمّس حتى (الشتم)، وهو في هذا وفي غيره، لا يساير الجمهور بل يحمل مرارة أحاسيسه بصدق عال، وقليلون جداً هم الذين دفعوا الثمن الذي دفعه من أجل مبادئه التي يحمل.

كثيرون هم الذين يحملون الأفكار والمبادئ التي آمن بها مظفر النواب، غير أنه وحده وقف فوق تلك الذروة، مما يؤكد أن لطريق القول، والصياغة الفنية بمجملها، إضافة الى حياته، سحراً خاصاً طافحاً بالإبهار، وبالفريد المتميز.

يتوقف الكثيرون عند محطة الصراخ من الألم، أو رفع نبرة الصوت بغرض التعرية، كعملية تفاعل، أما عشاق الشعر، عشاق الإبداع، فإنهم يتوقفون عند الصياغة الجميلة العالية، صورةً، وشفافيةً، وتعبيراً، وغنائية، في القصائد الحاملة لهمّ هذا الوطن والأمة، وفي تلك التي لا تقال إلا بمرافقة وتريّات الروح، وعلى كأس يختصر الأمداء، والنبض، والتوق بقدر ما يوقف صاحبه على حد سكين.

هنا، لا البوح بالاسم، ولا المجاهرة بالجرح هما ضفتا الطريق، بل ثمة شيء أعمق في الروح/ الغنائية/الذوبان/الإحتراق/ المشبع بحنين صوفي من نوع خاص/الملامح المبثوثة في الألوان، في المفردة، في الصورة، والعشق الجارف حتى التماهي/المقطوع حتى الإفتراق.

عوالم من الخلق ينشأ بعضها إثر بعض بعكوسات فيضية تأخذ شكل العناقيد الكثيرة المدلاة في شجرة الكرمة، مع محافظة على بذاخة الإيقاع الشعري (الوزن القوي)، ترافقها اختراقات محمولة على طبق الوعي من غير لواذ بمسوّغات غير بصيرة، تتراوح -في محطة التدقيق- بين المباشرة التي تتخلى عن ثياب الفنية لصالح مضمون الخطاب التحريضي، و: تحطيم إيقاعية الوزن، و: صياغة عوالم لغوية خاصة.

كلمة أخيرة في هذه الشهادة العجلى، أقولها باختصار أن مظفر النواب واحد من أهمّ شعراء الحداثة، ومما يتوقف عنده أن الاهتمام بدراسة شعره لم يقترب قط من حدود شهرته، ولسنا ندري متى يُنصف مع غيره، بعيداً عن تجمعات التطويب والتكوكب الذي يحتاج الى كثير من النزاهة وجرأة الضمير.

 

 

. المصدر:

        كتاب "مظفر النواب شاعر المعارضة السياسية"

       المؤلفان: عبدالقادر الحصني وهاني الخيِّر

       دار المنارة-دمشق

       الطبعة الأولى 1994م