غروب
على
وتر الريح
صار الخطو ينأى
وحيدا...بعيدا...
يشق خطاه,
يغرس ظلاله،
يعبر صفحة الوادي،
يرتل على صخب الموج
بوح الحنايا
يكنس من الذاكرة ذكراه...
*********************
كان الخطو
على هدي من خطا،
صار الخطو ينأى
وحيدا...بعيدا...
ينأى عن خطاه...
********************
تسربل الظل قرمزيا
كتقاسيم
المسا،
ندية انسكبت
من جحرها
تهاويل
السماء...
********************
ما أثقل الخطو
حين ينأى بعيدا...
ما أشرس الصمت
حين يعرج الظل
وحيدا...إلى مثواه...
1-
الانتقال من الماضي إلى المضارع
من جمالية الشعر ، أنه يستطيع صناعة المحال، و
بناء الأضداد على مستويات متشعبة و مهولة أحيانا.
هذا ما نجده في قصيدة .... للشاعرة الرقيقة أسمهان
الزعيم.
فالزمن يختال في القصيدة متمكنا من صناعة هذا
المحال عبر الانتقال بين ضفافه من الماضي إلى
الحاضر جيئة و ذهابا. تبدأ القصيدة بفعل يؤسس
للماضي من حيث المعنى و من حيث الصرف و من حيث
الضمير.فالصيرورة تنبني على وجود حالة جديدة تحيل
حالة قديمة على الانتهاء. و الفعل مصرف في ضمير
الغائب و في الماضي.
و فعل "صار"
يأْتِي نَاقصا بمعنى: رَجَعَ وتحوَّلَ و هو مِنْ
أخَـواتِ "كانَ". وقدْ يأتي تامّا فيحتاجُ
إلى
فاعلٍ وذلك إذا كان بمعنى انتَقَل نحو "صارَ
الأمر إليك" أي انْتَقَل. و في القصيدة يمكن أن
نجد المعنيين:
- فمن جهة، نجد الخطو يتحول من حالة التشارك و
التكامل إلى حالة الوحدة و البعد "وحيدا .. بعيدا"
- و من جهة أخرى نجد هذا الخطو ينتقل من وضعية
القرب إلى وضعية البعد: "ينأى"
و بالتالي يمكن إعراب " الخطو" كاسم ل"صار" أو
كفاعل لهذا الفعل. وكونه ناقصا في قراءة و تاما في
أخرى يساعد على تأويل هذه الصيرورة في اتجاه عمق
قساوة ما سيقال فيما بعد و من ذلك صعوبة البعد و
الوحدة.
و يستمر الانتقال من الماضي إلى المستقبل عبر
تصريف الأفعال اللاحقة في الزمن المضارع: ينأى،
يغرس، يعبر، يرتل، يكنس.
2-
وحدة الموضوع:
انقسمت القصيدة إلى أربعة مقاطع. و نلاحظ أن كلمة
"الخطو" التي هي الكلمة الأساسية
في القصيدة تكررت في ثلاثة مقاطع وغابت في المقطع
الرابع. و في كل مرة يظهر هذا "الخطو" بصيغة
مختلفة. فنجده أولا ككينونة ماضية: فهو في الماضي،
كان في وضعية ايجابية بالنسبة للشاعرة التي تقول
أنه " كان على هدي من خطاه". و هذا توصيف يبرز
وجود إتلاف بينهما، مما يدفعنا للتساؤل عن
الكينونة الحقيقية لهذا "الخطو" : هل هو خطو فعلا؟
أم هو مجرد كناية عن كينونة أخرى غير معلنة؟
ثم نجده ثانيا في حالة حاضره يتحرك و يشكل حوله
عوالمه في ارتباط وثيق مع الطبيعة: " ظلال ،
الوادي، صخب الموج، الظل". فهو"
ينأى،
يشق، يغرس، يعبر، يرتل
،يكنس"
ليكون في حركة تجعل منه كائنا حيا بكل المقاييس.
و نجده أخيرا كنتيجة لواقع كان هو السبب في إيجاده.
فيصير في الأخير موصوفا بالثقل و تصحبه الشراسة.
ويصير إلى "مثواه"، و هي كلمة لا يمكن أن ننزع
عنها حمولة الموت.
و
يأتي المقطع الثالث من القصيدة ليكسر
الظهور المباشر للظل، و يبدله بنائب عنه هو "الظل" .
وفي القصيدة فالظل هو نتاج الخطو: " يغرس ظلاله".
3-
الحركة و الحركية:
يتميز الجو العام للقصيدة بسيطرة الحركة .و هي
حركة تتخذ شكلين :
أ- حركة في اتجاه الحياة:
و تتشكل في المقطعين الأول و الثالث. حيث نرى
الخطو يتحرك لكي يبني عوالمه الإيجابية
.
فهو:
"يشق خطاه,
يغرس ظلاله,
يعبر صفحة الوادي,
يرتل على صخب الموج
بوح الحنايا"
يتحرك
مرة كفلاح و مرة كملاح و في كلتي الحالتين فهو
يعمل لينتج شيئا ايجابيا. ثم يفوض صلاحياته لأحد
منتوجاته ليواصل الظهور بشكل ايجابي دائما:
"تسربل الظل قرمزيا
كتقاسيم
المساء,
ندية انسكبت
من جحرها
تهاويل
السماء"
ب-
حركة في اتجاه الموت:
و تتموضع في المقطعين الثاني و الرابع.فالخطو
"كان" ثم "صار" أي "لم يعد" و "لم يبق" كما كان. و
صيرورته هي في اتجاه الوحدة و البعد لدرجة أنه لم
يعد هو هو ذاته كما كان ، لأنه صار "
ينآى عن خطاه" بعدما فقد هداه.
"كان
الخطو
على هدي من خطاه,
صار الخطو ينأى
وحيدا...بعيدا...
ينأى عن خطاه..."
و نراه في نهاية القصيدة يتجه و قد أصبح ثقيلا نحو
عوالم "الصمت الشرسة" ليستقر وحيدا في "مثواه"
"ما أثقل الخطو
حين ينأى بعيدا...
ما أشرس الصمت
حين يعرج الظل
وحيدا...إلى مثواه..."
4-
الوحدة و التعب الروحي
يسيطر جو رهيب من الوحدة و التعب الروحي على
القصيدة. و تتخذ الوحدة هنا وجهان: وجه أول يشكله
غياب وجود "أي آخر" في المحيط الزمكاني للشاعرة/
الخطو؛ فلا وجود في القصيدة لكائن حي. الشيء الذي
لا ينفي وجود حياة متحركة، داخل فضاء القصيدة، لكن
في اتجاه الموت و العدم. و وجه ثان يشكله البعد و
التباعد الذي يمارسه الخطو على ذاته و على نفسه.
فكلمتي " وحيدا" و"بعيدا" تكررتا ثلاث مرات في
القصيدة. و ما يثير الانتباه و يعمق الشعور
بالوحدة كونهما ترافقتا في المقطعين الأول و
الثاني بنفس الترتيب لتبتعدا عن بعضهما ولتغيرا
ترتيب ظهورهما في المقطع الأخير. مما يجعل القصيدة
تبدأ و تنتهي بالوحدة التي تضم بين ثناياها البعد
و التباعد.
و ينضاف الى الوحدة شعور بالتعب الروحي يؤكده "بوح
الحنايا" و "تهاويل السماء". و يقوي التعبير عنه
استعمال اسم التفضيل مرتين، مسبوقا في كل مرة
ب"ما" التعجبية: " ما أثقل الخطو" و "ما أشرس
الصمت". و يكفي معنى كلمتي "الثقل" و "الشراسة"
للتعبير عن قوة هذا التعب الروحي و الداخلي.
5-
الموسيقى الداخلية
اعتمدت القصيدة على بناء سلس تناسجت فيه التركيبة
النحوية للجمل الفعلية بأصوات الحروف لتشكل كلا
متماسكا. فكل الأفعال المستعملة في القصيدة تعبر
عن حركة و عن حركية منسجمة و هادئة: " يشق، يغرس،
يعبر، يرتل، يكنس، ينأى، تسربل، انسكبت، يعرج"؛
فباستثناء فعل "شق" الذي فقد قوته باستعماله
مجازيا في "شق خطاه"، كل الأفعال تعبر عن حركة
هادئة. و جلها (7/9) يبتدئ بالياء – الحرف الرخو-
مما يجعل الموسيقى التي تخلقها الجمل القصيرة
التي تأخذ طابعا هادئا و لكنه حزين.
و تتشكل الموسيقى كنغمات متجددة و متواصلة يربطها
استعمال القافية ب"اه" في "خطاه" و "ذكراه" ثم
"خطاه" مرتين ف"مثواه". و يسيطر على الموسيقى
الداخلية للنص صوت "السين" و الصاد" اللذان تكررا
ثلاثة عشر مرة، بالإضافة إلى صوتي الياء و الهاء
اللذان تكررا معا اثنان وعشرين مرة.
6-
خلاصة
يمكن اعتبار قصيدة أسمهان الزعيم "
على وتر الريح"
صرخة هادئة، أو أنينا مسموعا يعزف في صمته الهادر
الحان الرحيل و الابتعاد. هي أيضا شكوى مبحوحة أو
لنقل أيضا مقبورة لا تريدها الشاعرة أن تكون واضحة
المعالم حول حالة نفسية ( شخصية) أو اجتماعية
(عامة). فالخطو يتشكل ككائن تسري عليه قوانين
الحياة من حضور و رحيل و غياب. فهل يكون الخطو
كائنا بشريا..؟
|