Site hosted by Angelfire.com: Build your free website today!

 

موقـع المبدع و النــاقد خليفــة بباهـــــواري

موقــع متنــوع و شـــــــامل


 

 
 

الرئيسية

 صاحب الموقع

الإسلامي

FRANCAIS

واحة الأصدقاء

 


شعر

قصة

رواية
نــقد
دراسات
فلسفة
حوارات
مقالة
مسرح
دين

فنون

تراث









 



 سعدي يوسف و علال الحجام أمام جدارية فائق حسن


 

 

 

أن تكون قارئا متأنيا يعني أنك لا محالة ستتورط في حفر مكان دائم لقراءاتك المختلفة، ويعني أيضا أنك مدعو شئت أم أبيت إلى القيام بعملية مراجعة دائمة للسابق كلما وقفت على نص يحيل إلى معلومة مخزنة لديك. فالتناص لا يشمل فقط الإنتاج ولكنه يصل أيضا إلى مستوى التلقي. وليس الناقد وحده المحكوم بهذه العمل عند قراءتي لديوان احتمالات للشاعر المغربي علال الحجام استوقفتني قصيدة" في ساحة التحرير أمام جدارية فائق حسن "وعنوانها بالخصوص الذي أيقظ في ذهني علامة سبق أن سجلتها. وعدت إلى خزانتي ابحث عن هذا العنوان الذي كنت متيقنا من قراءتي له قبلا, فوجدت قصيدة الشاعر العراقي سعدي يوسف التي نشرت في" أعماله الشعرية"تحت عنوان"قصيدة للجبهة: تحت جدارية فائق حسن".

  دفعني هذا التقارب في العنوان إلى قراءة القصيدتين قراءة متفحصة. ولأننا ندفع دفعا لممارسة النقد كما يدفع الأديب لممارسة الكتابة,فقد وجدتني أتفاعل مع نظريات الأدب المقارن لأحاول مقاربة القصيدتين بشكل يؤطرهما داخل دراسة واحدة.غير أن دارسي الأدب المقارن يرفضون أن ينسب إليه- الأدب المقارن- دراسة نصين أو عملين من لغة واحدة,رغم أن هناك أصواتا من داخل هذا المجال بدأت ترتفع لترفض هذا الموقف.لكن هذا ليس مهما بقدر ما هو الأمر بالنسبة للنصين الذين دفعت إلى إنتاجهما جدارية فائق حسن.فمن هو فائق حسن وما هي هذه الجدارية؟

  "الفنان فائق حسن ,أحد أبرز رواد الفن التشكيلي العربي المعاصر,ولد في بغداد عام1914.  تخرج في البوزار عام 1938, وأسس فرع الرسم في معهد الفنون الجميلة ببغداد عام 1939-1940. أسس جماعة الرواد عام 1950. أقام وشارك في عدة معارض فنية إقليمية وعالمية لفترة تقارب النصف قرن. تتلمذت على يديه أجيال من الفنانين أثبتت عطائها الفني على مستويات عدة. نال عدة جوائز فنية ومنها الجائزة الذهبية لأحسن فنان عراقي في عام 1964، وكرمته الدولة عام 1979.

  "أما جدارية فائق حسن والتي أصبحت تحمل هذا الاسم بعدما اتخذها سعدي يوسف موضوعا لواحدة من أهم قصائده، فتسمى أيضا "جدارية الثورة"، وتطل على "ساحة الطيرانّ في بغداد، منتصبة في أحد جانبي "حديقة الأمة"، في حين يطل على الجانب الآخر من تلك الحديقة "نصب الحرية" الشهير للفنان الراحل جواد سليم. أقيمت هذه الجدارية الضخمة من "الموزاييكّ لتخلد ثورة 14 تموز / يوليوز 1958 مصورة مختلف فئات الشعب متجمعة ضمن وحدة أضفت عليها هارمونية اللون وجمالية التكوين وتناسقه أبعادا فنية جميلة ومتميزة. وعلى الرغم من توظيف بعض الاتجاهات الفنية الأوروبية المعاصرة في التكوين (كبعض اللمسات التكعيبية) فإن الارتباط بالبيئة والأرض يبقى فارضا نفسه من خلال عمق الترابط بين شكل اللوحة ومضمونها" (فراس عبد المجيد: جريدة الميثاق الوطني المغربية).

 هذه الجدارية لم تجبر شاعرين من حجم سعدي يوسف وعلال الحجام على الوقوف أمامها مجانا. فهي تحمل نفس الهم الذي يحمله الشاعران، هم ذو بعدين وطني وقومي. فدعوتها للمساواة والعدل توازي دعوتهما إلى تمتيع المواطن العربي بكل حقوقه بما فيها التقليص من سلطات الحاكم وحق الوحدة.

  وإذا كان كل من الشاعرين قد انزاح إلى بعد معين فهما يتفقان على مجموعة من النقاط كما يختلفان في مجموعة أخرى. وهذا الاتفاق والاختلاف هما موضوع دراستنا.

        1 - الكتابة الشعرية: المنطلق والتوجهات.

   ينطلق كل من سعدي يوسف وعلال الحجام من كون التجربة الشعرية تجربة إنسانية منطلقها الإنسان وهدفها الإنسان. إلا أنهما يختلفان في صيغة تقديم هذه التجربة، فسعدي يوسف يدعو إلى واقعية تربطه بالطبقات الشعبية أكثر فأكثر، وهذا أثر على شعره بالطبع سواء من حيث اختيار الموضوع أو من حيث طريقة تناوله، ومن ذلك اللغة والمعجم الذي يمتح منه كلمات قصائده. في المقابل يتوجه علال الحجام إلى النخبة معتبرا أن الكتابة الشعرية لم تعد- كما كانت في السابق- موجهة نحو العموم. ولذلك نراه يعتمد في كتابته الشعرية على معجم متجدر في تراثية اللغة العربية، وعلى الأسطورة قديمها وحديثها. ورغم هذا وذاك فقصيدتي "جدارية فائق حسن" هما تعبير واضح على التزام الرجلين بقضايا الأمة في بعديها الأهلي والقومي".

    2- عناصر متوازية (عناصر الالتقاء).

                -                  العنوان:

            بين "قصيدة للجبهة: تحت جدارية فائق حسن" و "في ساحة التحرير أمام جدارية فائق حسن" تقف الجدارية شامخة. لكن لكل شاعر زاوية للنظر ومكان للمقاربة. إذا وضع سعدي يوسف قصيدته تحت الجدارية فعلال الحجام وضعها أمامها. وفي كلتا الحالتين فالجدارية شاهدة على ما تقوله وما تقدمه وما ترويه القصيدتان. ولظرفي المكان "تحت" و" أمام " دور مهم في توجيه القراءة. ف "تحت " عند سعدي يوسف تفيد بأن الجدارية هي غطاء "للأحداث المروية" في القصيدة، وهي بذلك شاهدة على مأساة الإنسان. فتحت شعار الثورة، ضاع أهم حلم للثورة وهو المساواة والعدل وعدم الاستغلال. الاستغلال الذي عاد ويمثله المقاول. و"تحت" هنا تجعل من الشاعر مشاركا اعتبارا أنه من أهل البلد الذي ضاعت فيه أحلام الثورة. أما "أمام" عند علال الحجام، فتفيد أن الجدارية أصبحت تلعب دورا آخر وهو تفرجها على ما آلت إليه الأوضاع بعد خيانة الفكر الثوري والتطلعات القومية.

                -                  بناء القصيدة:

        كلتا القصيدتين مقسمة إلى خمسة أقسام مرقمة من 1 إلى 5. أقسام لا يعنونها سعدي يوسف، الشيء الذي يفعله علال الحجام ليأتي بالعناوين التالية: 1- المدينة العاشقة، 2-أمام جدارية فائق حسن، 3-أمام تمثال بدر شاكر السياب، 4- ردة بسطام في مراعي نفطويه، 5- رؤيا جلجامش. في حين يبدأ كل مقطع من قصيدة سعدي يوسف بنفس الجملة "تطير الحمامات في ساحة الطيران" ماعدا المقطع الرابع حيث تتحول اللازمة إلى "تطير الحمامات مذبوحة".

        عند علال الحجام يشكل كل قسم جزءا مستقلا عن الباقي والرابط بين الأجزاء هو روح القصيدة المتمثل في إدانة حالة الضعف العربي الذي يسببه الإنسان العربي ذاته. أما عند سعدي يوسف فالمقاطع كلها تتبع نفس الموضوع الذي هو معاناة المواطن داخل وطنه معانة سببها مواطن من "درجة مخالفة" يريد أن يسيطر على إمكانيات الوطن لصالحه.

        -                  النهاية المتفائلة:

        رغم السوداوية التي تسيطر على القصيدتين نتيجة للظروف التي يعيشها المواطن العربي محليا وقوميا، فهما تنتهيان نهاية متفائلة وهذا يميز كل القصائد العربية التي يسكنها البعد القومي أو الوطني. يختتم سعدي يوسف قصيدته قائلا:

  تطير الحمامات في ساحة الطيران. ارتفعنا معا..

 في سماء الحمائم. قلنا لسعف النخيل وللسنبل الرطب

          هذا أوان الدموع التي تضحك الشمس فيها، وهذا

 أوان الرحيل إلى المدن الفاضلة.

 يقول المناضل: إننا سنبني المدينة.

        تقول الحمامة: لكنني في المدينة.

 تقول المسيرة: دربي إلى شرفات المدينة

 وينهي علال الحجام قصيدته قائلا:

           ( خذل الرمح المغاوير

             فما أتعس عبسا...

             غير أني سأسميك غزالا

            خارجا من صف خرفان القطيع

            وأسمي وعدك الشامخة شمسا

             أدفأتنا في دهاليز الصقيع). 

            الشاعران يأتيان بالشمس كرمز للنور والتفاؤل والانتصار على الواقع المظلم وعلى أسبابه.

       -                  الوقوف أمام الظلم:

   كما أراد فائق حسن أن يؤرخ لثورة يوليو/ تموز وأن يبرز التحام الطبقات والقضاء على الصراع المبني على الظلم جاء سعدي يوسف وعلال الحجام للوقوف أمام نفس الظلم الذي عاود الظهور مخترقا طموحات الشعوب العربية ومتسربا عبر فئات عفنة اجتماعيا وسياسيا هدفها إذلال بقية الطبقات الكادحة بشتى الوسائل ومن بينها الاستغلال الاقتصادي. وتتحالف القصيدتان للتعبير عن حالة الظلم هاته. وهما تؤرخان معا، رغم انتمائهما لزمنين متباعدين نسبيا لحالة الصراع التي يعيشها الإنسان العربي في إطار ضعفه المعلن والخفي. يفتتح سعدي يوسف قصيدته قائلا: 

 تطير الحمامات في ساحة الطيران.البنادق تتبعها,

وتطير الحمامات. تسقط دافئة فوق أذرع من جلسوا        

 في الرصيف يبيعون أذرعهم. للحمامة وجهان:

 وجه الصبي الذي ليس يؤكل ميتا, ووجه النبي

 الذي تتأكله خطوة في السماء الغريبة.                

 

    ويفتتح علال الحجام قصيدته قائلا:

         بغتة أغلق باب الدار دوني

         وبقيت داخل الوحشة أرتاد متاهات جنوني

        خذلتني المدن الكبرى.

       وقادتني الرياح السود يوما لهواها

              تغرب الشمس مع الفجر.

   بداية تعلن عن واقع مشؤوم فيه وحشة و قتل وموت؛فيه صراع مفتوح بين ضعيف وقوي, بين مستغل ومستغل, بين حمامات وبنادق, بين مخذول وخاذل.

    وهكذا تصبح القصيدة,والكتابة بصفة عامة, متنفسا وسلاحا في نفس الوقت. وفي الآن الذي تحارب فيه الظلم والظالم فهي تعطي للشاعر والمتلقي إمكانية الترويح عن النفس واستجماع الهمة لمواصلة المواجهة. ولذلك فهي تنتهي كما أشرنا سابقا نهاية متفائلة.

           -  استحضار علامات مشتركة:

  لماذا يتحدث الشاعران عن النخيل وعن سعف النخيل؟ عن الطفولة؟عن النبوة؟ عن الشمس؟ عن الموت؟

   عن النخيل يكرر سعدي يوسف:

     * و قلنا لسعف النخيل وللسنبل الرطب:هذا أوان

        الدموع التي تضحك الشمس فيه

 مرتين,في المقطعين الثالث والرابع. ويقول الحجام:

         * لم يزل هذا النخيل الغض مشبوب الذوائب

            غير أن السعف أخضر

         * غير أن البلح الموفور مجروحا يغني للصبايا

                      أغنيات الفجر نشوان ويفخر،

 النخل رمز بلاد العروبة، والصحراء رمز للصمود. وقد اتفق الشاعران على أن يشخصا النخل أو البلح (وهو منه) ويجعلاه يسمع ويغني مما يجعله يتجاوز حياة الكينونة إلى حياة الفعل، وهو ما يضيف إلى القصيدتين روحا من المقاومة والحركية كما أشرنا .

 وبالإضافة إلى النخيل تحضر نباتات أخرى، وصيغ أخرى من الحياة الخضراء. يقول سعدي يوسف:

    *    (...) ثم يدور المحرك، ينفث في ساحة

    الطيران دخانا ثقيلا.. ويترك بين الحمائم والشجر

     المتيبس رائحة من شواء غريبة

   * تطير الحمامات في ساحة الطيران. تريد جدارا لها

       ليس تبلغ منه البنادق. أو شجرا للهديل القديم

  *(...) قد بنينا ملاذا لنا، وغصونا تنامين فيها ونحن هنا في

                  الرصيف – (...)

    *         (...) يا بلاد البنادق

        إن الحمامات مذبوحة، والجدار الذي قد بنيناه

           بيننا وغصنا، ينز دما أسودا، ويهز يدا مثقلة.

   بينما يقول علال الحجام

       * ويصافي النسمة الحمقاء في دجلة موالا يرق

         - هل ترى يا فائق الآن نواقيس تدق !؟

         - سفنا تطعن بحاث النوارس

                 والحساسين على الأغصان شوق.

      *      من ينجي رحمة "نصب الشهيد"

       وأبا نواس مذعورا يناغي وردة طاردها الموت

                            على "جسر الرشيد"

  تلعب عناصر الطبيعة عند الشاعرين دورا مزدوجا: فهي تشكل نوعا من الحماية والأمل؛ وفي نفس الوقت تحديا للمعتدي، وهو في كلتا الحالتين عدو من الداخل. وتوازي هذه العناصر قيما بناءة وبانية تهيئ لنغمة التفاؤل التي تنتهي بها القصيدتان.

  ويتفق الشاعران أيضا على تقديم الشمس كعلامة ضوء واستمرار رغم أنها مرتبطة في غالب الأحيان بالغروب. يقول سعدي يوسف:

   * وقلنا لسعف النخيل وللسنبل الرطب: هذا أوان

     الدمـوع التي تضحك الشمس فيها، وهذا أوان

               الرحيل إلى المدن المقبلة.

      * (...) قلنا لسعف النخيل وللسنبل الرطب:

     هذا أوان الدموع التي تضحك الشمس فيها، وهذا

             أوان الرحيل إلى المدن الفاضلة.

   ويقول علال الحجام:

      * تغرب الشمس مع الفجر،

                ويشتد الوداد

         * وأسمي وعدك الشامخة شمسا

              أدفأتنا في دهاليز الصقيع.

  إذا كان العنصر السابق للشمس سلبيا (الدموع، تغرب) فإنها محاطة بالضحك والمدن الفاضلة والفجر والوداد والشموخ والدفئ، وكلها عناصر إيجابية تؤكد مرة أخرى فكرة المقاومة والصمود حتى حلول النجاح والانتصار.

   ويستمر الشاعران في توظيف نفس العلامات ومنها الطفولة. يقول سعدي يوسف:

         *       (...) للحمامة وجهان:

    وجه الصبي الذي ليس يؤكل ميتا، ووجه النبي

           الذي تتأكله خطوة في السماء الغربية.

     * ولكننا يا بلاد البنادق كنا صغارا، فلم نلتفت

      لإلاه الجنود، ولم نلتفت للحقائب مثقلة... نحن

   كنا صغارا... أقمنا جدارا ونمنا على مضض،

  *       (...) وطني، زهرة للقتيل، وأخرى

     لطفل القتيل، وثالثة للمقيمين تحت الجدار.

  ويقول علال الحجام:

      * غير أن البلح الموفور مجروحا يغني للصبايا

         أغنيات الفجر نشوان ويفخر

                  فتحييه أياد في المراكب.

          * فلماذا تنهش العقبان جذلى

          طفلة تقرأ في دفترها النازف آيات السلامة ؟!

          ولماذا ينهش الوحش الخرافي

              ولدا يعشق شعرا،

             ومواويل نداها لا يجف،

                  ومدامه؟!    

   الشاعران يصوران الطفولة كضحية يستعد جلادها للفتك بها مما يؤكد على أن هذا الجلاد يمارس عنفه إلى أبعد الحدود وإلى درجة لا يحترم فيها حتى براءة الطفولة.  

    وعن الموت يقول سعدي يوسف:

       *       (...) للحمامة وجهان:

          وجه الصبي الذي ليس يأكل ميتا، ووجه النبي

            الذي تتأكله خطوة في السماء الغريبة.

      * (...) وتهوى على الوطن مقصلة

  * تطير الحمامات مذبوحة، دمها الأسود النزر يسقط

   فوق الجدار الذي قد بنيناه، يسقط مختلطا بالرصاص،

* تعبنا: زمانا نلم دماء الحمائم، نرسم في السر أجنحة،

       ثم نطلقها في القرى (...)

      *     (...) وطني :زهرة القتيل, وأخرى

        لطفل القتيل، وثالثة للمقيمين تحت الجدار

      ويقول علال الحجام:

    * من يعادي شهقة حمراء في سوح المدارس

             تتغنى باحتمالات الصبايا

                   في "بلاط الشهداء"!؟

             من ينجي رحمة "نصب الشهيد"

   وأبا نواس مذعورا يناغي وردة طاردها الموت

                           على "جسر الرشيد"

       * قبل أن يبدو سمت العودة اغتالوا الدليل

                            قاتلا صرت،

          وقتل الورد والريحان يا بسطام ردة

              كيف تخشى أيها الذئب ملامه ؟!

             حاملا قاموسك الوردي من بيت لبيت

                 تئد الفرحة تغتال الكؤوسا

  المقاطع التي تتحدث عن الموت تفوق في كثافتها كل المقاطع المخصصة للعلامات الأخرى. ويمكن أن نقول بأن الموت هو الدافع الحقيقي لكتابة القصيدتين، الموت بكل معانيه الحقيقية والمجازية. موت الأفراد وموت الجماعات، موت الكرامة وموت النخوة، موت الوطن وموت الأمة. غير أن الموت يأخذ طابعا إيجابيا عندما يربطه الشاعران بالشهادة أي الموت من أجل شيء مهم، من أجل قضية.

   3- خصوصيات القصيدتين:

  رغم التقائهما في الكثير من النقاط كما أشرنا إلى الفقرات السابقة فإن لكل قصيدة خصوصية تفردها وتجعلها مختلفة عن الأخرى سواء من حيث المضمون أو من حيث الشكل.

 ونستطيع أن نقول أن قصيدة علال الحجام تمتد أطول بقليل من قصيدة سعدي يوسف على مستويات عدة. فعلال الحجام يتحدث عن أزمة الإنسان العربي، بصفة عامة، وعن ضعف الوطن العربي وعن مشاكل هذا الوطن السياسية والاقتصادية. ونعتقد أنه أنتج قصيدته كرد فعل على ما وقع بعد حرب الخليج الثانية التي زادت من تمزيق الوطن العربي ودمرت العراق شعبا وحضارة وتراثا. بينما يتوقف سعدي يوسف عند مأساة الإنسان في العراق: يتحدث عن استغلاله، وعن هدر حقوقه كإنسان وكمواطن، يتحدث عن موت الحلم الذي وحد المواطنين وأعطاهم جميعا نفس الحقوق ونفس الواجبات هذا الحلم الذي تشهد عليه "جدارية الثورة"، "جدارية فائق حسن" التي تشهد أيضا على عودة المستغلين في شخص المقاول وفي شخص البنادق وفي شخص إلاه الجنود.

  وللتجربتين ما يفسرهما. فسعدي يوسف كالكثير من المبدعين الذي غادروا العراق بحثا عن متنفسات لهم في أراض تضمن لهم حرية أكثر وكرامة أكثر، وباعتباره واقعيا اشتراكيا يربط نفسه أولا بما يقع في العراق محاولا المساهمة في تصحيح الأوضاع ورد الاعتبار للفكر الاشتراكي الحقيقي الذي تم استغلاله من طرف الحاكم آنذاك للاستفادة أكثر من الإفادة. أما علال الحجام فيحاول التأكيد على قربه الروحي من مكان الأحداث رغم بعده الجغرافي أو الجسدي. وهو يظهر كباقي المثقفين العرب الذين حاولوا ويحاولون الدفاع عن قضية الأمة العربية أينما كانت. وبعده هذا عن مكان الحدث هو الذي سمح له بتناول الموضوع في إطار شامل. ويتأكد ذلك جيدا عندما نجد سعدي يوسف يكرر كلمة الوطن والبلاد ويتحدث عن المدينة أكثر من مرة، وهي إشارات لم يتوقف عندها علال الحجام.

 هناك اختلاف آخر تؤطره نوعية التجربة الشعرية. فالشاعران ينتميان لمدرستين مختلفتين. فباعتباره ينتمي لأسلوب الواقعية الاشتراكية، يتناول سعدي يوسف موضوعه بصفة مباشرة تقريبا. مما يجعل قصيدته تتبنى منطق السرد ليورد حكاية المأساة؛ فهو يستغل كل مقومات النص السردي في قصيدته: فنراه مثلا يعطي الكلمة لشخصياته إنسية كانت أو غير إنسية، وهو يحكي الأحداث في تسلسل زمني واضح، ويبرز عناصر الصراع بين الحمائم والوطن (ومن يمثله) من جهة وبين المقاول وإلاه الجنود (ومن معهم) من جهة أخرى. وقد أثر النهج السردي حسب اعتقادي على اختيار التفعيلة التي بنيت عليها القصيدة وهي فعولن التي يصيبها الكثير من التغييرات (القبض، الحذف، الخرم) لإعطاء الفرصة للنفس الحكائي كي لا يتوقف. وأثرت التجربة على اختيار اللغة وعلى مستويات بناء الصورة الشعرية. فجاءت اللغة عادية تستعمل معجما بسيطا ومتداولا. أما الصورة الشعرية فكانت واضحة المعالم منفتحة على تجربة القارئ العادي، أي يمكن تناولها دون اللجوء إلى تأويلات معقدة.

 أما علال الحجام الذي يلح على كونه يكتب للنخبة – بمعناها الإيجابي- فقد جاءت قصيدته أيضا مطابقة لتوجهه. فالقصيدة تستعمل معجما يتجاوز اللغة المتداولة. معجم غني بالمفردات القليلة الاستعمال والتداول. لكنها مفردات تعبر بقوة عن التجربة وعن المضمون الذي يبحث عنه الشاعر. ويتماشى مع هذا الاستعمال ضبط التفعيلة فاعلاتن التي جاءت في غالب الأحيان خلية من أي تغييرات. وكما قلنا بأن قصر التفعيلة الخماسية التي استعملها سعدي يوسف يتماشى مع نفس القصيدة السردي، فيمكننا أن نقدم نفس الملاحظة ولكن في اتجاه آخر: فالتفعيلة السباعية تجد نفس الامتداد في القصيدة، امتداد المسافة النصية، وامتداد المساحة الجغرافية بين موطن الشاعر و "موطن" موضوع قصيدته، وامتداد اللغة في عمق الأصالة العربية.

 أما الصورة الشعرية فتبدو أكثر عمقا وتتطلب تقنيات متعددة لتحليلها. ويعتمد علال الحجام أكثر من سعدي يوسف على توظيف القافية والأسطورة والتاريخ، التزاما بأسلوب الكتابة الذي اختاره لنفسه. فالقافية حاضرة بقوة كما يحضر الحديث عن الشعر في القصيدة. ويمتد استعمال الأسطورة والتاريخ من فائق حسن إلى بدر شاكر السياب, إلى أبي نواس , إلى جيكور, إلى بابل وجلجاميش.

     من خلال ما عرضناه يبدو أن ما يجمع القصيدتين "قصيدة للجبهة: تحت جدارية فائق حسن"     و "في ساحة التحرير أمام جدارية فائق حسن" أكبر مما يميزهما عن بعضهما. فالرغبة في تسجيل الموقف والتعبير عن الرأي أمام مشكلة الإنسان في العالم العربي قد جمعت الشاعران على نفس المائدة/ الألم، ومنحتهما نفس الرغبة في البوح للوقوف كصوت ذي أصداء وذي مصداقية أمام الظلم والجور والتعسف. ونستطيع أن نقول بأن قيمة التجربة الأدبية لا تقف فقط عند أدبيتها ولا عند إشعاعها بل تتعداها إلى الصدى الذي يمكن أن تخلقه عند القارئ المتميز، القارئ الذي ينتج بدوره خطابا سواء كان موازيا أو مخالفا للخطاب الذي تتبناه التجربة الأدبية.

 

 

 

 


 

 

 



عنوان المراسلة

kababama@gmail.com

kababama@yahoo.fr



 

 

 


إصدارات
 






مناقشات




ورشات
 


همسات