|
ليس غريبا على عالم الأدب أن يعرف توقفا وجمودا تارة، وحركية
وانفعالا تارة أخرى. حركية تكون مخاضا لولادات جديدة سهلة أحيانا،
وعسيرة أحيانا أخرى كثيرة. فتاريخ الآداب في العالم أجمع حافل
بالنزاعات الأدبية والمواجهات التي كان بعضها ساخنا جدا وأفضى إلى
ميلاد مدارس جديدة.
لقد توقف قطار التفاعل مع حركية الأدب في العالم العربي منذ
الخمسينات، ربما لأن الجميع، أو أغلب المتعاملين مع الأدب، اقتنعوا
وترسخ في اعتقادهم أنه لا يوجد ولن يوجد شيء بعد ما سمي ب
"الحداثة". هناك حقا من تحدث عن "ما بعد الحداثة" لكن لم يكن هناك
جديد غير الاسم. وفي الوقت الذي بقي شكل الكتابة على ما هو عليه
ولم تتطور المضامين، ظهرت صراعات "جلية" ليس إلا.
شخصيا، لا أومن بأن العالم العربي عرف ما يمكن تسميته بالحداثة في
أدبه، خصوصا عندما أتموقع في دائرة العروبة وليس العروبية. لماذا؟
لأن الحداثة هي أن تعيش حاضرك بملء إرادتك وباختياراتك الخاصة التي
تصنعها لنفسك انطلاقا من ماض ذاتي وبآليات غير مستوردة. وكما أشار
بوزيان حجوط في إحدى شذراته: "جميل أن تصنع قدرك، وإن لم تستطع
فأثره على الأقل".
وما شهده الأدب العربي الحديث (تاريخيا) ليس سوى استيراد لرؤى
تكونت في الغرب ونضجت هناك، لكنها لم تهضم ما فيه الكفاية حتى
يتسنى لها أن تندمج في الخارطة الأدبية العربية. وهذا في اعتقادنا
ما يفسر ابتعاد المتلقي عن الشعر أو بعابرة أخرى وجود هوة بين
الشاعر والمتلقي، وميلاد أزمة التواصل والحديث عن إشكالية التلقي
(ليس بمفهومها العلمي الذي تكون هو أيضا في الغرب، ولكن بمدلولها
التواصلي المطروح عندنا بكثرة).
سيجيبنا البعض بأنه لا بأس من استيراد أفكار جديدة يمكن أن تفيد أو
من الضروري أن ننفتح على العالم وأن نأخذ منه ويأخذ منا!
نعم، سنجيب، ولكن هذا لا يمكن أن يساهم في طمس ثقافتنا ورفضها، كما
فعل البعض، أو أن يجعلنا تابعين في انتظار جديد يأتي دائما من
الخارج.
لهذا فمحاولتنا الارتباط بالواقع أكثر، ارتباطا مباشرا ينطلق من
المجتمع ليعود إليه في صيغ وخطاب ولغة يفهمها المجتمع. جميل أن
نتلاعب باللغة وأن نلاعبها، لكن الأجمل منه هو أن لا نجعلها تلعب
بنا وأن تبعدنا عن الوضوح. جميل أيضا أن نخلق صورا شعرية وبلاغية،
ولكن أجمل من ذلك أن ترتبط هذه الصور بواقع الإنسان الذي كتبت من
أجله، وأن تركب بشكل يوافق تركيبة العقل العربي الذي طالما تحدث
عنه فلاسفتنا المحدثون، وللأسف بشكل سلبي.
نداء الواقعة الجديدة، إذن، هو العودة إلى الموروث العربي للانطلاق
منه نحو آفاق مستقبلية محلية أولا ثم عالمية ثانيا. فلم لا نجعل
العالم يفكر مثلنا بعدما جعلنا لعقود كثيرة نفكر مثله؟ ندعو مرة
أخرى للبساطة العربية وللوضوح العربي، وللمباشرة العربية، مباشرة
أي نعم لا تزيل عن الشعر جماليته بل تعطيه جمالا أكثر وضوحا
وقابلية للاستيعاب. فما كل صورة غامضة بصورة شعرية.. والعرب من
قالوا: "السهل الممتنع".. وإلى واقعية جديدة.
|