|
إذا كنا نريد إن نعتبر أنفسنا مثقفين
فعلا- لا حسب رأي كرامشي أو غيره ، بل حسب ذواتنا
الخاصة- يجب علينا أن نتفق على شيء جوهري و هو
ضرورة الاختلاف ، اختلاف فير ظل الوحدة طبعا،
اختلاف يبني ولا يهدم ، اختلاف الرحمة الذي يؤسس
لعلاقات التواصل و التلاقـح. فما عاب الممارسة
الثقافية في العالم العربي هو سعي كل المثقفين
العرب لحمل كل الأفكار على السعي في اتجاه واحد،
وبذلك ظل الصراع الفكري أفقيا محضا واعتمد على
الاستقطاب من جهة، وعلى الدحض من جهة أخرى، وبذلك
أصبح النشاط الفكري بعيدا عن المساهمة في تطور
المجتمعات العربية أو حتى التأثير فيه.
وكما كانت صدمة " الحداثة " في أواسط القرن ،
صارت صدمة انهيار جدار برلين وسقوط الأنظمة
الشيوعية في أوروبا الشرقية ثم مؤخرا أطوار مسلسل
السلام الذي أصبح أطول من المسلسلات المكسيكية.
أمام هذه المتغيرات التي لم يكن مثقفونا يضعونها
ضمن احتمالاتهم و قف المثقف العربي مشدوها لا
يدري هل يحافظ على توجهات هجرت في مواطنها الأصلية
، أم ينخرط في التيارات التي طالما رفضوها جملة
وتفصيلا أم يبحثون عن مخرج ثالث ليبقوا كعادتهم
خارج التاريخ.
ولأن النشاط الفكري لم يكن فاعلا في المجتمع ،
ولأن النشاط الفكري كان هامشيا فقد اقتصر المثقفون
على اقتفاء أثر الأحداث.
وكان الشعر تابعا .
وكانت أصوات الشعراء وجع سدى.
فديوان الشعر العربي الحديث، كالممارسة الأدبية و
الفكرية كان وصفيا وتسجيليا ولم يكن تحريضيا .
وكان خبريا لا إنشائيا كما تقسم البلاغة العربية
الكلام . ولهذا نجد ثقافة رد الفعل في جميع أنحاء
الوطن العربي .
منذ 1948 والشعر العربي مسترسل في الدفاع عن قضايا
القومية والثورة والوحدة، ولست أدري كيف أغفل
مثقفونا بأن الثورة الحقيقية – وليس الانقلاب- لا
تأتي إلا إذا توفرت لها الظروف والشروط الموضوعية،
ولست أدري كيف أغفل مثقفونا موضوع مهم جدا وهو أن
الوحدة العربية وتحرير فلسطين لا يمكن أن يتحققا
إلا بوجود ديموقراطيات محلية في كل الدول القطرية
– حسب المنظور القومي – فكيف يمكن أن توحد دولتان
بتوجهات سياسية واقتصادية مختلفة؟ بل، كيف يمكن أن
توجد بين أقطار يريد كل حاكم فيها أن تكون له
الكلمة العليا، ويريد كل شخص أن يكون أحسن من
الآخر؟ وقد صدق محمود درويش حيث قال: " في كل
مئذنة حاو ومغتصب / يدعو لأندلس إن حوصرت حلب".
ألم يكن حلم الوحدة وهما إذا اتبعنا هذا المنطق ؟
والتاريخ شاهد : فأين الوحدة بين سوريا ومصر بين
العراق وسوريا ، بين المغرب وليبيا ؟ هذا لا ينفي
أننا نطمح إلى تحقيق الوحدة العربية ، لكنه يؤكد
على أن الاختيارات الفكرية طيلة النصف الثاني من
القرن العشرين في العالم العربي كانت ماضية في
اتجاه غير صحيح. وهذا لا يعني أيضا أننا نمتلك
الفكرة الصحيحة ، ولكننا نؤمن بنسبية الفكر، وبأن
لا أحد يملك الحقيقة المطلقة كيفما كان حجمه
الثقافي والفكري والسياسي.
ولقد كان تأثير هذه الخيارات على الشعر كبيرا.
يقول أحمد المعداوي :" بتأملنا للرسالة الشعرية
التي يحاول الشاعر العربي الحديث توصيلها إلى
قرائه ، نجدها تعاني من انحباس شبه كلي في الموضوع
الواحد الذي يتراوح بين تحرير الوطن وتحرير
الإنسان عبر القضية الفلسطينية ". ويضيف: تبدو بعض
القصائد الحديثة كما لو أنها خارجة عما أسميناه
بالموضوع واحد أما الذي اختلف فهو طريقة التناول ".
وللأسف فالخروج من هذه القوقعة لم يكن إلا لأخرى
أخذت منحيين : الأول تجلى في الهروب نحو الذات
بإسراف ، والثاني يمكن تسميته بالشعر من أجل
الشعر. ويكفي أن نبحث في ديوان الشعر المغربي في
العقود الثلاثة الأخيرة لنجد هذا التوزيع ، وإن
كنا نعتقد بأن الكتابة الشعرية ، أو الإبداع بصفة
عامة هي وليدة بيئتها وزمانها ، سواء كانت تعبيرا
عن هما أو رد فعل إزاءهما أو حتى رفضهما ، فإننا
نؤكد حرصنا على أن لا تبقى العلاقة منحصرة بين
الإبداع والمبدع ، بل نريدها أن تكون علاقة ثلاثية
الأضلاع بين الإبداع والمبدع والآخر. و سوسيولوجيا،
لا غرابة في زماننا الراهن أن يغرق المبدعون في
دواتهم ، ألا يقول الكل : " أنا ومن بعدي
الطوفان"؟ وليس المبدع إلا " أنا" من بين
الأنات
التي تعيش حوله وفي محيطه.
لكننا نقول بأن الإغراق في الأنا عند المبدع
سيساهم لا محالة في تكريس الأنانية وفي محو صورة
المجتمع من الأذهان، وهذا ليس هو الدور الذي
نتصوره للأدب والفكر.
أما ما سميناه بالشعر من أجل السعر فهو هروب آخر،
هروب من الموضوع عند البعض، وهروب من الصمت عند
البعض الآخر.فالرقابة الذاتية ملتصقة بنا حتى
النخاع.لذلك يفضل البعض الغوص في متاهات اللغة
بحثا عن تعبير لا يمكن أن يحسب عليه أمام
الرقابة.ثم إن هناك من يخاف أن يموت الشاعر فيه،
فلا يجد بدا من تنفيق الكلمات لمواصلة مشوار
الكتابة. ويستوقفني هنا ما قالته الشاعرة والكاتبة
الجزائرية أحلام مستغانمي: " لم نكتب أيها الشعراء
في هذا الزمن المضاد للشعر ؟ ليس هذا زمنا للغزل
.....ولا زمنا للمدح.....ولا زمنا للحماسة، إنه
زمن للذهول فقط. فما أصعب أن نكون شعراء في
الأعوام الأخيرة من القرن العشرين(......) من منا
لم يخن الشعر بطريقة أو بأخرى ....فكيف لا يخوننا
الشعر بدوره....".
فهذا موقف صريح وشجاع من امرأة تؤكد على أنها
امرأة قبل أن تكون شاعرة. موقف يؤكد على أن
المجتمع خالف توجهات الشعراء والمفكرين وذلك راجع
، كما قلنا في بداية مقالنا ، لكون هؤلاء الشعراء
والمفكرين كانوا تابعين لتطور المجتمع ، أو عاشوا
على هامشه، بدل أن يساهموا في بنائه وتوجيهه.
كما أسلفنا إذا ، فالسعر العربي الحديث مر بمراحل
ثلاث : مرحلة المواضيع الكبرى ، ومرحلة اللغة
ومرحلة الذات .وكلها مراحل كان فيها الشاعر بعيدا
عن الواقع اليومي الذي يصنع التغيير ويصنعه
التغيير. ويرجع أحمد المعداوي سبب هذا الابتعاد
إلى كون "معظم ما يكتب من شعر اليوم ينطلق من أساس
تنظيري ، لا من تجربة متميزة تستبصر برؤية متفردة"
.ونجد
تفسيرا آخر للهروب إلى ملاعبة اللغة في ما يسمى
بالتقريرية أو الإسفاف . فالشاعر يضع نصب عينيه
قبل وإبان الكتابة وبعدها ما سيقوله النقد وما
ذهبت إليه التنظبرات الشعرية مما يجعله يضحي
بالموضوع في سبيل اللغة وصورها. ويدفعه إلى ذلك
مثل ما قال إدريس الناقوري: " فالشعراء أنفسهم لم
يستطيعوا لأسباب تختلف من شاعر لآخر أن يعبروا عن
الواقع بنوع من الوضوح الفكري دون السقوط في
الإسفاف و الارتجال والسوقية ".
فالخوف من هذا الإسفاف وهذه التقريرية يجعل الشاعر
يلهث وراء بناء عالم جديد لا يتسع إلا له" ولذلك،
يضيف الناقوري، عندما نطرح مسألة العزلة نضيف أن
الشاعر مسؤول عن عزلته، فهو الذي أراد أن يتقوقع
داخل عالمه الخاص. فهو يكتب لنفسه، يختار وموزه
ولغته الخاصة، ولا يتجاوب إلا مع مجموعة قليلة
ومحدودة جدا من متلقينا ربما أغلبهم من الشعراء أو
المثقفين المعدودين على رؤوس الأصابع " .
في ظل هذا الواقع اجتمعنا على الواقعية الجديدة.
ونعتقد أن اتجاهنا يمكن أن يكون المرحلة الرابعة
في الكتابة الإبداعية بالمغرب والعالم العربي.نريد
أن نكون قريبين جدا من الواقع، اقترابا يجعل
الكتاب الشعري في متناول القارئ العادي من
جهة،ويجعلها ميدانا خصبا للتناول النقدي من جهة
ثانية، ومن جهة ثالثة يمكنها أن تلعب دورها في
الإصلاح الاجتماعي والتغيير بكل مستوياته. طموح
كبير يهدف أساسا إلى تخليق الحياة العامة بوضع
الأصبع على الظواهر الشاذة في المجتمع، لمناقشتها
وتحليلها أو على الأقل الدعوة إلى تحليلها
ودراستها عبر الأعمال النقدية تقنيا أو عبر
القراءات الاستنباطية بالنسبة للإنسان العادي.
وما أحوجنا فعلا إلى تخليق الحياة العامة.ولا يمكن
أن يكون ذلك إلا بربط العملية الثقافية بالحياة
اليومية.فالإصلاح الغير مباشر كان دائما وأبدا ذا
تأثير أعمق في المجتمعات، ثم إن الإعلام بتلفزاته
وصحفه لا يهمه من الحياة اليومية للمواطنين في
العالم العربي بطوله وعرضه إلا ما يرتبط بالسياسة
بمفهومها" الحكمي" .أو ما يرتبط بالذات الحسية
للإنسان. وإذا كانت المساهمة في التغيير سواء من
خلال التعبير عن الواقع أو الدعوة إلى إعادة
تشكيله في متناول أجناس أدبية كالمسرح والرواية
والقصة والمقالة، فإنها في الشعر تبدو أصعب، لكنها
مغامرة لابد من الإقبال عليها. فالشعر يجب أن يبقى
ديوان العرب. وفي منظورنا يجب أن تضاف إلى دوره
التاريخي مساهمته في بلورة الرؤى الاجتماعية
والسياسية للأمة. ومن هنا تصبح " الكتابة أضعف
الإيمان في تغيير المنكر" حسب تعبير أحمد الطريبق.
وإذا أضفنا شيئا جديدا إلى رسالة الشعر، وهذا
قصدنا، فعلينا أن نقتنع بوجوب التفكير في شكل هذا
الشعر. ونخشى- كما سبقنا إلى ذلك محمد النويهي في
كتابة قضية الشعر الجديد- أن يعزل الشعر عن قضايا
الإنسان العربي فيستمر ابتعاد الإنسان العربي عن
الشعر فتكون عاقبته الاندثار أو يأخذ مكانه الزجل
فيستمر انقراض اللغة العربية. وبشأن شكل الكتابة
الشعرية، فقد أشرنا في البيان التأسيسي لشعراء
الواقعية الجديدة إلى مجموعة من الأنماط التي
نرفضها في ما يخص الكتاب، وأصبح من واجبنا أن نأتي
الآن بنظرتنا الخاصة بالتركيب والتأليف الشعريين.
وهذا ما سنتعرض له انطلاقا من مقالاتنا القادمة.
وإلى واقعية جديدة .
|