Site hosted by Angelfire.com: Build your free website today!

مفهوم الوقف التربوي في الإسلام ورعاية العلماء

 

من معاني الوقف في اللغة: الحبس، وفي المعجم الوسيط: وقف الدار ونحوها: حبسها في سبيل الله، ويقال: وقفها على فلان وله.

وفي الإصطلاح: حبس العين الموقوفة على ملك الله تعالى والتصدق بمنفعتها. وجاء في المعجم الوسيط: والوقف عند الفقهاء حبس العين على ملك الواقف أو على ملك الله.

وقد عمل الوقف على إثراء المجتمع الإسلامي بمؤسسات علمية وثقافية مختلفة الأشكال والصيغ والمناهج، مما كان لها أثر كبير في بناء الحضارة الإسلامية وازدهارها وتنميتها.

المتتبع للأوقاف الإسلامية منذ بداياتها يجد أنها شملت الإنفاق على المصالح العامة والقيام بأمر ذوي الحاجة من أبناء الأمة، ثم توسّعت رقعة تلك المؤسسة لتشمل دور العلم والعناية بها وإنشاء المساجد والمكتبات العلمية المتخصصة.

وعليه لا بد من الإشارة هنا إلى أن المؤسسة الوقفية كان لها أثر كبير في إنشاء المراكز العلمية في بلاد المسلمين، فلم تخل مدرسة من تلك المدارس ولا معهد من المعاهد، ولا مكتبة علمية إلا وكان لها وقف خاص يتم الاتفاق عليها من ريعه وعوائده وبذلك غدت المساجد الإسلامية معاهد تشد إليها الرحال للدراسة والتدريس، كما كان العلماء يسعون إلى أن ينالوا حيزاً في تلك المساجد لمكانتها العلمية، وكان من عادة الواقفين أن يجعلوا كتباً موقوفة للمطالعة والدرس والاستنساخ والمراجعة والاستشهاد، وكان لخزائن تلك الكتب قوّام يتولون خزنها ومناولتها وترتيبها. وبهذا فقد أسهم الوقف في إرساء دعائم ثقافية متنوعة في المجتمعات الإسلامية على مدى قرون طويلة من تاريخنا الإسلامي من خلال: تشييد المدارس وتعيين المدرسين فيها والإنفاق على طلبة العلم، الاستفادة من المساجد في تطوير حلقات التعليم والتربية، العناية بالمكتبات العلمية العامة المتخصصة.

وقد شارك في تمويل هذه المؤسسة الوقفية ودعمها طبقات مختلفة في المجتمع من العلماء والأمراء والحكام وعامة الناس وخاصتهم، حيث كان هناك تسابق كبير بين وجهاء الأمة لإنشاء المدارس الوقفية التي انتشرت في كل بقعة من بقاع العالم الإسلامي.

ولم تكن تلك المدارس التي كانت تدار من ريع الوقف وعوائده مجرد أبنية تقام أو قاعات ترتب أو مجموعة من الطلاب يتلقون العلوم، وإنما كان أكثرها عبارة عن مؤسسات ومراكز راقية لها أنظمتها الخاصة وتقاليدها التي تسير عليها ومواردها المالية المستقلة التي تعطيها دعماً كبيراً في أداء وتحقيق رسالتها الثقافية والتربوية.

يقول أحد الباحثين:  "إن من المؤكد أن جميع المدارس والمراكز العلمية التي تم إنشاؤها في التاريخ الإسلامي إنما كان يعتمد في تمويلها وإدارتها على مؤسسة الأوقاف رغم تنوع مهام تلك المدارس من حيث الحجم والتخصص والإمكانات، وقد كان التعليم فيها مجاناً شاملاً لجميع قطاعات المجتمع، فلم يكن التعليم فيها محصوراً بفئة من أبناء الأمة دون فئة، بل كانت فرصة التعليم فيها متوفرة لجميع طبقات المجتمع بفضل عوائد المؤسسة الوقفية التي تديرها وتعمل على تسهيل أداء مهامها وتحقيق رسالتها".

وقد روى الرحالة "ابن جبير" أنه شاهد في بغداد نحو ثلاثين مدرسة كل واحدة منها في  قصر وبناية كبيرة أشهرها وأكبرها المدرسة النظامية التي تخرج منها أكابر العلماء وأشهرهم أمثال الشيرازي والغزالي وكمال الدين الأنباري وغيرهم، وقد كان لتلك المدارس أوقاف وعقارات للإنفاق عليها وعلى العلماء والدارسين فيها.

وتكميلاً لأغراض الوقف العلمية والثقافية تنوعت صيغ الأوقاف –كما ذكرنا- فشملت كتباً ومكتبات خاصة وعامة حتى انتشرت خزائن الكتب الوقفية في أرجاء العالم الإسلامي لدرجة أننا لا نجد مدينة إسلامية تخلو من مكتبة أو مجموعة كتب موقوفة تعين أهل العلم على التزود بالمعرفة وتوفر لهم فرصة مواكبة الأفكار والآراء الجديدة والإطلاع عليها.

وإذا ما عدنا إلى المراجع الفقهية فإننا سنجد أن الفقهاء أجازوا الوقف على طلبة العلم وعلى المدارس التي يتلقون فيها علمهم، والمصادر العلمية التي يعتمدون عليها، فقد ذهب الإمام محمد بن الحسين الشيباني إلى جواز وقف المنقول إذا جرى العرف به كالمصاحف والكتب وأثاث المسجد تأسيساً على أن هذا مما تعامل به المسلمون ورأوه حسناً فهو حسن، وإن الثابت بالعرف كالثابت بالنص، كما نص الأحناف على جواز الوقف على طلاب العلم.

وقد ذكر الفقهاء أن من أهم شروط الجهة الموقوف عليها، هو أنها جهة بر وخير يتقرب فيها العبد إلى الله تعالى، ومن هنا أجاز الكثير منهم الوقف على المستشفيات والملاجئ والمدارس ونحو ذلك مما هو نفع عام.

وهكذا فإن إنشاء المدارس والنفقة على طلاب العلم يعادل النفقة في سبيل الله فهذا ينفق على ما يدل الناس على ما جاءت به الرسل، وذلك ينفق على من يجاهد بنفسه وسيفه للدفاع عما جاءت به الرسل، وكان لهذا المعنى أثر كبير في نفوس أهل الخير والفضل في أن ينفقوا أموالهم في رفد الحركة العلمية والوقف عليها أموالاً وغلات ومكتبات.

ولا بد من الإشارة هنا إلى أنه بدون مؤسسة الأوقاف ما كان يمكن أن تقوم قائمة للمدرسة في البلدان الإسلامية، فقد ذكر المقريزي أن هناك عدداً من المدارس تم إنشاؤها وتأسيسها ولكنها عجزت عن أن تزاول مهامها التعليمية لعدم وجود أوقاف ينفق عليها من ريعها وعوائدها. وهو مما يؤكد أهمية المؤسسة الوقفية في أداء المدرسة رسالتها التعليمية والتربوية في الأمة. ويؤكد هذه الأهمية بالنسبة لتثبيت أركان المدرسة والعمل على استمرارها ما ذكره المقريزي وهو يتحدث عن المدارس وطبيعة سير العمل فيها، إذ يقول عن المدرسة الناصرية في مصر "لولا ما يتناوله الفقهاء من العلوم بها لخربت"، ويقول عن المدرسة القمحية "وقد أحاط بها الخراب ولولا ما يتحصل منها للفقهاء لدثرت"، ويشير إلى المدرسة الصاحبية البهائية التي انهارت بعد وفاة زعيمها محمد بن الصاحب، ويعلل المقريزي ذلك بأن أخذ الوقوف منها وعدم إنفاقه عليها أدى إلى تعطيل مهمتها من ذكر الله وإقامة الصلاة وتدريس العلوم والمعارف ولم تلبث أن هدمت واندثرت بعد أن كانت من أعظم المدارس وأجلها.

وهذا بغير شك يؤكد لنا أن عوائد الأوقاف تعد المصدر المالي الأساس والوحيد لغالبية مدارس التعليم في العصور الإسلامية المتقدمة، وبالتالي فإن الحركة العلمية الواسعة التي شهدتها الأمصار والبلدان الإسلامية والتي تدين بوجودها إلى كثرة المدارس واستمرار التعليم فيها، إنما هي في الحقيقة نتاج طبيعي لازدهار الأوقاف وكثرتها وديمومة عوائدها الخيرية. ولم يقتصر أثر الأوقاف على التعليم في كونها المصدر الأساس والوحيد الذي يمده مالياً، إنما تعدى الأمر إلى تدخل الأوقاف في تنظيم كافة الجوانب العلمية والتعليمية، حتى  اعتبرت الوثائق الوقفية بمثابة لائحة أساسية تنظم شؤون التعليم وتصنع الأسس التربوية.

والشروط التي يجب أن تتوافر في القائمين عليه ومواعيد الدراسة وشكلها وغير ذلك.

وانطلاقاً من هذه المفاهيم وتأسيساً على هذه المعطيات المتقدمة، فإن الباحث يرى أن مؤسسة الأوقاف اليوم مؤهلة أكثر من أي وقت مضى لأن تقوم بالأعمال نفسها التي قامت بها في العصور السابقة فيما يتعلق بإنشاء المراكز العلمية وتنميتها والاهتمام بها.

ومن أجل أن يواكب هذا الأمر المعطيات المعاصرة فإنه ينبغي على الأوقاف أن تقوم بإنشاء جامعة علمية تعنى بتدريس العلوم الإنسانية والتطبيقية على حد سواء، بحيث تتم إنشائها وفق أحد الخيارات التالية:

1- أن يخصص لها جانب كبير من عوائد الوقف المعد أصلاً للإنفاق على العلم والعلماء.

2- أن تقوم مؤ سسة الأوقاف بطرح حجج وقفية جديدة لتغطية تكاليف إنشائها وتنظيم سير العمل فيها.

3- أن يقوم أحد الواقفين بإنشاء تلك الجامعة مع تجهيزها بما تحتاجه من الوسائل الدراسية والمصادر المعرفية.

إن الأمة الإسلامية اليوم بحاجة إلى تجديد وظيفة الوقف الإسلامي ليشمل صيغاً معاصرة تعالج قضايا الأمة وتهتم بشؤونها لتواكب تطلعات هذه الأمة في بنائها الحضاري المنشود، ولعل ما تقوم به مؤسسة الأمير سلطان بن عبد العزيز آل سعود الخيرية من مشاريع وبرامج متعددة للمجتمع ومنها ما يبرز كوقف تعليمي فعلى سبيل المثال لا الحصر: دعم للبرامج التعليمية الصحية بجامعة الملك سعود، ودعم برنامج الدراسات الخاصة بجامعة الخليج العربي، ومركز الدراسات العربية-الاسلامية بجامعة بيركلي في أميركا من خلال برنامج الابتعاث، وحجز منحتين لدراسة التفوق والتخلُّف لمن ترشّحهم المؤسسة، وكذلك الأمر لمركز الملك سعود للدراسات الإسلامية في جامعة بولونيا – إيطاليا وهذه البرامج الثلاثة ترتبط بوقف لدعم الدراسات والأبحاث وكذلك الابتعاث وتغطية نفقات الدراسة أو الزمالة كما تعرف باللغة الأكاديمية. فهذه الجهود تقدم خير مثال لما يحتاجه واقع الأمة الاسلامية في الوقت الراهن للنهوض به من وهدة التخلُّف والتبعية.