<bGSOUND SRC="S001.wav" LOOP=INFINITE>
Site hosted by Angelfire.com: Build your free website today!

 

 3. منزلة العقل في الإسلام:

‎‎ إن الإسلام كرم العقل أيما تكريم، كرمه حين جعله مناط التكليف عند الإنسان، والذي به فضله الله على كثير ممن خلق تفضيلا، وكرمه حين وجهه إلى النظر والتفكير في النفس، والكون، والآفاق: اتعاظاً واعتباراً، وتسخيراً لنعم الله واستفادة منها، وكرمه حين وجهه إلى الإمساك من الولوج فيما لايحسنه، ولايهتدي فيه إلى سبيل ما، رحمة به وإبقاء على قوته وجهده. وتفصيل هذه الجمل في الآتي: ‏

1. خص الله أصحاب العقول بالمعرفة لمقاصد العبادة، والوقوف على بعض حكم التشريع، فقال سبحانه  بعد أن ذكر جملة أحكام الحج {واتقون يا أولي الألباب } ‏

‏[البقرة: 197]. ‏

‎‎ وقال عقب ذكر أحكام القصاص: {ولكم في القصاص حياة يا أولى الألباب } ‏

‏[البقرة: 179]. ‏

2. قصر سبحانه وتعالى الانتفاع بالذكر والموعظة على أصحاب العقول، فقال عز وجل: {ومايذكر إلا أولوا الألباب } [البقرة: 269]. ‏

‎‎ وقال عز وجل: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب } [يوسف: 111]. وقال ‏

عز وجل: {ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون } [العنكبوت: 35]. ‏

3. ذكر الله أصحاب العقول، وجمع لهم النظر في ملكوته، والتفكير في آلائه، مع دوام ذكره ومراقبته وعبادته، قال تعالى: {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض } إلى قـوله عـز وجل: {إنك لاتخلف الميعاد } ‏

‏[آل عمران: 190-194]. ‏

‎‎ وهذا بخلاف ما عليه أصحاب المذاهب الضالة في العقل، فمنهم من اعتمد العقل طريقاً إلى الحق واليقين، مع إعراضه عن الوحي بالكلية كما هو حال الفلاسفة، أو إسقاط حكم الوحي عند التعارض -المفترَى - كما هو حال المتكلمين، ومنهم من جعل الحق والصواب فيما تشرق به نفسه، و تفيض به روحه، وإن خالف هذا النتاج أحكام العقل الصريحة، أو نصوص الوحي الصحيحة، كما هو حال غلاة الصوفية.‏

‎‎ أما أهل العلم والإيمان فينظرون في ملكوت خالقهم، نظراً يستحضر عندهم قوة التذكر والاتعاظ، وصدق التوجه إلى الخالق البارئ سبحانه، من غير أن يخطر ببال أحدهم ثمة تعارض بين خلق الله وبين كلامه، قال عز وجل: {ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين } [الأعراف: 54]. ‏

4. ذم الله عز وجل المقلدين لآبائهم، وذلك حين ألغوا عقولهم وتنكروا لأحكامها رضاً بما كان يصنع الآباء والأجداد، قال عز وجل: {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنآ أو لو كان آباؤهم لايعقلون شيئاً ولايهتدون ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون } [البقرة: 170-171]. ‏

5. حرم الإسلام الاعتداء على العقل بحيث يعطله عن إدراك منافعه. ‏

‎‎ - فمثلاً: حرم على المسلم شراب المسكر والمفتر وكل مايخامر العقل ويفسده، قال عز وجل: {ياأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون } [المائدة: 90]. ‏

‎‎ وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ وَمُفَتِّرٍ ) رواه أبوداود، وصححه الحافظ العراقي. ‏

6. وجعل الإسلام الدية كاملة في الاعتداء على العقل وتضييع منفعته بضرب ونحوه، قال عبدالله بن الإمام أحمد: "سمعت أبي يقول: في العقل دية، يعني إذا ضرب فذهب عقله " قال ابن قدامة: "لانعلم في هذا خلافاً ". ‏

7. شدد الإسلام في النهي عن تعاطي ماتنكره العقول وتنفر منه، كالتطير والتشاؤم بشهر صَفَر ونحوه، واعتقاد التأثير في العدوى والأنواء وغيرها، وكذا حرم إتيان الكهان وغيرهم من أدعياء علم الغيب، وحرم تعليق التمائم وغيرها من الحروز. ‏

‎‎ فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلىالله عليه وسلم قال: (لاعدوى ولاطيرة ) رواه البخاري. ‏

‎‎ الطيرة: التشاؤم بالشيء.‏

‎‎ وفي رواية عن جابر رضي الله عنه: (لاعدوى ولاغول ولاصفر ) رواه مسلم. ‏

‎‎ غول: جنس من الجن والشياطين، كانت العرب تزعم أن الغول في الفلاة تتراءى للناس، وتضلهم عن الطريق، فنفاه النبي صلى الله عليه وسلم.‏

‎‎ صفر: كانت العرب تزعم أن في البطن حية يقال لها الصفر تصيب الإنسان إذا جاع وتؤذيه، فأبطل الإسلام ذلك.‏

‎‎ وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلىالله عليه وسلم: (مَنْ اقْتَبَسَ عِلْمًا مِنْ النُّجُومِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنْ السِّحْرِ زَادَ مَا زَاد ) رواه أبوداود وابن ماجه، وصححه الحافظ العراقي، والنووي. ‏

‎‎ والمراد: النهي عن اعتقاد أن للنجوم ـ في سيرها واجتماعها وتفرقها ـ تأثيراً على الحوادث الأرضية، وهو ما يسمى بعلم التأثير، أما علم التسيير وهو الاستدلال ـ عن طريق المشاهدة ـ بسير النجوم على جهة القبلة ونحو ذلك فلا شيء فيه. ‏

‎‎ وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ) رواه مسلم. ‏

‎‎ وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ وَالتِّوَلَةَ شِرْكٌ . قَالَتْ: قُلْتُ لِمَ تَقُولُ هَذَا، وَاللَّهِ لَقَدْ كَانَتْ عَيْنِي تَقْذِفُ وَكُنْتُ أَخْتَلِفُ إِلَى فُلَانٍ الْيَهُودِيِّ يَرْقِينِي، فَإِذَا رَقَانِي سَكَنَتْ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّمَا ذَاكَ عَمَلُ الشَّيْطَانِ، كَانَ يَنْخُسُهَا بِيَدِهِ، فَإِذَا رَقَاهَا كَفَّ عَنْهَا، إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكِ أَنْ تَقُولِي كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: أَذْهِبْ الْبَأْسَ رَبَّ النَّاسِ اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا ) رواه أبوداود، وصححه السيوطي والألباني. ‏

‎‎ التولة: ضرب من السحر يحبب المرأة إلى زوجها، جعله من الشرك لاعتقادهم أن ذلك يفعل خلاف ما قدر الله.‏

‎‎ هذا مع أمر الشارع العبد أن يأخذ بالأسباب ويتوكل على خالق الأسباب، كما قال صلى الله عليه وسلم: (الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَان ) رواه مسلم. ‏

‎‎ لقد جاءت الأدلة العقلية في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على إثبات وجود الله وربوبيته، وهي كثيرة ومتنوعة وسهلة وواضحة؛ لأن الناس أحوج ما يكونون إلى معرفة ربهم وخالقهم، وحاجتهم إلى معرفته أشد من حاجتهم للماء والهواء والطعام والشراب. ‏

‎‎ ويمكننا أن نقول ابتداء: إن كل شيء يدل على وجود الله سبحانه وتعالى، إذ مامن شيء إلا وهو أثر من آثار قدرته سبحانه، وما ثم إلا خالق ومخلوق، وقد نبه القرآن الكريم إلى دلالة كل شيء على الله تعالى، كما في قوله عز وجل: {قل أغير الله أبغي رباً وهو رب كل شيء }

[الأنعام: 164]. ‏

‎‎ وفي كل شيء له آية                  تدل على أنه واحد.

‎‎ وقد سئل أحد الأعراب سؤالاً موجهاً إلى فطرته السليمة، فقيل له: كيف عرفت ربك؟ فقال: البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير ، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، وجبال وأنهار، أفلا يدل ذلك على السميع البصير؟

‎‎ وقد ذكر لنا القرآن استدلالات لأنبياء الله ورسله حين كانوا يناظرون ويجادلون بعض الملاحدة الذين ينكرون وجود الله، وإن كانوا في قرارة أنفسهم ليسوا كذلك، وإنما كانوا يقولون هذا تكبراً وعناداً واستعلاءً في الأرض. وإليك هذين المثالين من كتاب الله جل وعلا: ‏

‎‎ المثال الأول: إبراهيم عليه السلام مع الطاغية النمرود بن كنعان. ‏

‎‎ قال عز وجل: {ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين } [البقرة: 258]. ‏

‎‎ فقوله {ربي الذي يحي ويميت } أي: أن الدليل على وجوده سبحانه حدوث هذه الأشياء ووجودها بعد عدمها. ‏

‎‎ المثال الثاني: موسى عليه السلام مع الطاغية فرعون مصر، وماكان بينهما من المقاولة والجدل، ومااستدل به موسى على إثبات وجود الله تعالى. وقد جاء ذلك في مواضع من القرآن. ‏

‎‎ قال تعالى: {قال فمن ربكما يا موسى * قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } ‏

‏[طه: 49-50]. ‏

‎‎ أي أنه قد ثبت وجود وخلق وهداية للخلائق، ولابد لها من موجد وخالق وهاد، وذلك الخالق والموجد والهادي هو الرب سبحانه، ولا رب غيره. ‏

‎‎ وفي موضع آخر قال سبحانه: {قال فرعون وما رب العالمين. قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين. قال لمن حوله ألا تستمعون. قال ربكم ورب آبائكم الأولين. قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون. قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون } [الشعراء: 23-28]. ‏

‎‎ والمقصود أن منهج الأنبياء في الاستدلال على ربوبية الله ووجوده هو استشهاد هذا الكون بأجمعه، واستنطاق الفطرة بما تعرفه وتقر به من حاجة الخلق إلى خالق، وافتقار البرية إلى بارئ. وما أجمل ما قاله الإمام الخطابي حول هذه القضية، يقول رحمه الله: ‏

‎‎ ‏"إنك إذا تأملت هيئة هذا العالم ببصرك، واعتبرتها بفكرك، وجدته كالبيت المبني المعد فيه ما يحتاج إليه ساكنه، من آلة وعتاد، فالسماء مرفوعة كالسقف، والأرض ممدوة كالبساط، والنجوم مجموعة والجواهر مخزونة كالذخائر، وأنواع النبات مهيئة للمطاعم والملابس والمشارب، وأنواع الحيوان مسخرة للراكب مستعملة في المرافق، والإنسان كالملك للبيت المخول فيه، وفي هذا كله دلالة واضحة على أن العالم مخلوق بتدبير وتقدير ونظام، وأن له صانعاً حكيماً تام القدرة بالغ الحكمة ".‏

‎‎ مظاهر دلالة المخلوقات على الخالق:            

‎‎ أ-دلالة الخلق والإيجاد والاختراع بعد العدم.‏

‎‎ إن وجود الموجودات بعد العدم، وحدوثها بعد أن لم تكن، يدل بداهة على وجود من أوجدها وأحدثها. ‏

‎‎ وليس شرطاً أن يقف كل أحد على حدوث كل شيء حتى يصدق بذلك؛ بل إن ذلك غير ممكن كما قال عز وجل: {ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضداً } [الكهف: 51]. ‏

‎‎ ومما يدل على أن وجود الخلق دليل على وجود الله سبحانه عز وجل: {أم خُلقوا من غير شيء أم هم الخالقون * أم خَلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون } [الطور: 34-36]. ‏

‎‎ ‏"هذا تقسيم حاصر، يقول: أخلقوا من غير خالق خلقهم؟ فهذا ممتنع في بدائه العقول، أم هم خلقوا أنفسهم؟ فهذا أشد امتناعاً، فعلم أن لهم خالقاً خلقهم، وهو الله سبحانه. وإنما ذكر الدليل بصيغة استفهام الإنكار ليتبين أن هذه القضية التي استدل بها فطرية بديهية مستقرة في النفوس، لا يمكن إنكارها، فلا يمكن لصحيح الفطرة أن يدعي وجود حادث بدون محدث أحدثه، ولا يمكنه أن يقول: هو أحدث نفسه ". ‏

‎‎ قال عز وجل: {أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئاً } [مريم: 67]. ‏

‎‎ فدلت الآيات على حاجة المخلوق إلى خالق ضرورة. ‏

‎‎ ب- دلالة العناية المقصودة بالمخلوقات. ‏

‎‎ والمراد: ما نشهده ونحس به من الاعتناء المقصود بهذه المخلوقات عموماً، وبالإنسان على وجه الخصوص. قال عز وجل: {ألم نجعل الأرض مهاداً * والجبال أوتاداً * وخلقناكم أزواجاً } [النبأ: 6-8]. ‏

‎‎ وقال عز وجل: {تبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً } [الفرقان: 61]. ‏

‎‎ وهذه العناية المقصودة ماثلة في العالم كله، فإذا نظر الإنسان إلى ما في الكون من الشمس والقمر وسائر الكواكب والليل والنهار، وإذا تأمل في سبب الأمطار والمياه والرياح، وسبب عمارة أجزاء الأرض، ونظر في حكمة وجود الناس وسائر الكائنات من الحيوانات البرية، وكذلك الماء موافقا للحيوانات المائية، والهواء للحيوانات الطائرة، وأنه لو اختل شيء من هذا النظام لاختل وجود المخلوقات التي هاهنا. إذا تأمل الإنسان ذلك كله؟ عَلِم عِلم اليقين أنه ليس يمكن أن تكون هذه الموافقة التي في جميع أجزاء العالم للإنسان والحيوان والنبات بالاتفاق، بل ذلك من قاصد قصده، ومريد أراده، وهو الله سبحانه، وعلم يقيناً أن العالم مصنوع مخلوق، ولا يمكن أن يوجد بهذا النظام والموافقة من غير صانع وخالق مدبر. ‏

‎‎ ج- دلالة الإتقان والتقدير.‏

‎‎ قال عز وجل: {وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون } [النمل: 88]. ‏

‎‎ وقال عز وجل: {الذي خلق سبع سماوات طباقاً ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور } [الملك: 3]. ‏

‎‎ وقال عز وجل: {الذي أحسن كل شيءٍ خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين } [السجدة: 7]. ‏

‎‎ فهذه الآيات وأمثالها تلفت نظر المستدل إلى دلالة المخلوقات على باريها، من خلال ما يشاهد فيها من الانضباط والالتزام التام بنظام في غاية الدقة، ما كان له أن يوجد على هذه الحال دون قيّم ومدبر، وفي هذا أعظم دليل على بطلان الخرافة القائلة بحدوث العالم عن طريق المصادفة. ‏

‎‎ د- دلالة التسخير والتدبير.‏

‎‎ إذا نظرنا إلى هذا العالم وجدناه بجميع أجزائه مقهوراً مسيراً مدبراً مسخراً، تظهر فيه آثار القهر والاستعلاء لمسيِّره ومدبره، وتتجلى فيه شواهد القدرة لمُخضعه ومذللـه سبحانه، بما لا يدع مجالاً للشك في وجود مدبر يدبره وقدير يمسك بمقاليده، كما قال عز وجل: {له مقاليد السماوات والأرض والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون } [الزمر: 63]. ‏

‎‎ وقال عز وجل: {ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون } [النحل: 79]. ‏

‎‎ صور الاستدلال بالمخلوقات على الخالق:  

‎‎ قال عز وجل: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد } [فصلت: 53]. ‏

‎‎ فصور الاستدلال نوعين: ‏

‎‎ ‏1. في الأنفس.    2. في الآفاق. ‏

‎‎ 1. صور الاستدلال بخلق الإنسان على الخالق (في الأنفس ).‏

‎‎ إن الاستدلال بخلق الإنسان لقي عناية خاصة وبالغة في القرآن، والدليل على هذا أنه ذكر في أول آيه أنزلها الله على نبيه الكريم، فقال عز وجل: {اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق } [العلق: 1-2]. ‏

‎‎ وقد أنكر الله على من ترك التبصر والتفكر في خلق النفس الإنسانية، فقال عز وجل: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون } [الذاريات: 21]. ‏

‎‎ بل قد صرح بعض العلماء بوجوب النظر في خلق الإنسان أخذاً من قوله عز وجل: {فلينظر الإنسان مم خلق } [الطارق: 5]. ‏

‎‎ ويقول العلماء رحمهم الله: "الاستدلال على الخالق بخلق الإنسان في غاية الحسن والاستقامـة، وهي طريقة عقلية صحيحة، وهي شرعية دل القرآن عليها وهدى الناس إليها "، ولعل أكثر ما يلفت النظر في ذكر دلالة خلق الإنسان في القرآن كثرة الاستدلال بأطوار خلقه ومراحل نشأته وحياته إجمالاً وتفصيلاً، فقد جاء ذكرها إجمالاً كما في قوله عز وجل: {خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلماتٍ ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون } [الزمر: 6]. ‏

‎‎ وقال أيضا: {