Site hosted by Angelfire.com: Build your free website today!

العودة إلى الصفحة الأولى

 

باب في إمساس الألفاظ أشباه المعاني

اعلم أن هذا موضع شريف لطيف‏.‏ وقد نبه عليه الخليل وسيبويه وتلقته الجماعة بالقبول له والاعتراف بصحته‏.‏ قال الخليل‏:‏ كأنهم توهموا في صوت الجندب استطالة ومداً فقالوا‏:‏ صر وتوهموا في صوت البازي تقطيعاً فقالوا‏:‏ صرصر‏.‏

وقال سيبويه في المصادر التي جاءت على الفعلان‏:‏ إنها تأتي للاضطراب والحركة نحو النقزان والغلبان والغثيان‏. فقابلوا بتوالي حركات المثال توالي حركات الأفعال‏.‏

ووجدت أنا من هذا الحديث أشياء كثيرة على سمت ما حداه ومنهاج ما مثلاه‏.‏

وذلك أنك تجد المصادر الرباعية المضعفة تأتي للتكرير نحو الزعزعة والقلقلة والصلصلة والقعقعة والصعصعة والجرجرة والقرقرة‏.‏

ووجدت أيضاً الفَعَلى في المصادر والصفات إنما تأتى للسرعة نحو البَشَكي والجَمَزي والوَلَقي. قال رؤبة‏:‏

أو بشكى وخد الظليم النـز

وقال الهذلي:

كأني ورحلي إذا هجرت     على جمزي جازئ بالرمال

أو  اصحم   حام  جراميزه   حزابية   حيدى  بالدحال

فجعلوا المثال المكرر للمعنى المكرر أعني باب القلقلة والمثال الذي توالت حركاته للأفعال التي توالت الحركات فيها‏.‏

ومن ذلك وهو أصنع منه أنهم جعلوا استفعل في أكثر الأمر للطلب نحو استسقى واستطعم واستوهب واستمنح واستقدم عمرا واستصرخ جعفرا‏.‏

فرتبت في هذا الباب الحروف على ترتيب الأفعال‏.‏

وتفسير ذلك أن الأفعال المحدث عنها أنها وقعت عن غير طلب إنما تفجأ حروفها الأصول أو ما ضارع بالصنعة الأصول‏.‏ فالأصول نحو قولهم طعم ووهب ودخل وخرج وصعد ونزل‏.‏ فهذا إخبار بأصول فاجأت عن أفعال وقعت ولم يكن معها دلالة تدل على طلب لها ولا إعمال فيها‏.‏

وكذلك ما تقدمت الزيادة فيه على سمت الأصل نحو أحسن وأكرم وأعطى وأولى‏.‏

فهذا من طريق الصنعة بوزن الأصل في نحو دحرج وسرهف وقوقى وزوزى‏.‏

وذلك أنهم جعلوا هذا الكلام عبارات عن هذه المعاني فكلما ازدادت العبارة شبها بالمعنى كانت أدل عليه وأشهد بالغرض فيه‏.‏ فلما كانت إذا فأجأت الأفعال فاجأت أصول المثل الدالة عليها أو ما جرى مجرى أصولها نحو وهب ومنح وأكرم و أحسن كذلك إذا أخبرت بأنك سعيت فيها وتسببت لها وجب أن تقدم أمام حروفها الأصول في مثلها الدالة عليها أحرفاً زائدة على تلك الأصول تكون كالمقدمة لها والمؤدية إليها‏.‏ وذلك نحو استفعل فجاءت الهمزة والسين والتاء زوائد ثم وردت بعدها الأصول‏:‏ الفاء والعين واللام‏.‏ فهذا من اللفظ وفق المعنى الموجود هناك‏.‏ وذلك أن الطلب للفعل والتماسه والسعي فيه والتأتي لوقوعه تقدمه ثم وقعت الإجابة إليه فتبع الفعل السؤال فيه والتسبب لوقوعه‏.‏

فكما تبعت أفعال الإجابة أفعال الطلب كذلك تبعت حروف الأصل الحروف الزائدة التي وضعت للالتماس والمسئلة‏.‏ وذلك نحو استخرج واستقدم واستوهب واستمنح واستعطى واستدنى‏.‏

فهذا على سمت الصنعة التي تقدمت في رأي الخليل وسيبويه إلا أن هذه أغمض من تلك‏.‏ غير أنها وإن كانت كذلك فإنها منقولة عنها ومعقودة عليها‏.‏ ومن وجد مقالاً قال به وإن لم يسبق إليه غيره‏.‏ فكيف به إذا تبع العلماء فيه وتلاهم على تمثيل معانيه‏.‏

ومن ذلك أنهم جعلوا تكرير العين في المثال دليلاً على تكرير الفعل فقالوا‏:‏ كسر وقطع وفتح وغلق‏.‏ وذلك أنهم لما جعلوا الألفاظ دليلة المعاني فأقوى اللفظ ينبغي أن يقابل به قوة الفعل والعين أقوى من الفاء واللام وذلك لأنها واسطة لهما ومنكوفة بهما فصارا كأنهما سياج لها ومبذولان للعوارض دونها‏.‏ ولذلك تجد الإعلال بالحذف فيهما دونها‏.‏ فأما حذف الفاء ففي المصادر من باب وعد نحو العدة والزنة والطدة والتدة والهبة والإبة‏.‏ وأما اللام فنحو اليد والدم والفم والأب والأخ والسنة والمائة والفئة‏.‏ وقلما تجد الحذف في العين‏.‏ فلما كانت الأفعال دليلة المعاني كرروا أقواها وجعلوه دليلاً على قوة المعنى المحدث به وهو تكرير الفعل كما جعلوا تقطيعه في نحو صرصر وحقحق دليلاً على تقطيعه‏.‏

ولم يكونوا ليضعفوا الفاء ولا اللام لكراهية التضعيف في أول الكلمة والإشفاق على الحرف المضعف أن يجيء في آخرها وهو مكان الحذف وموضع الإعلال وهم قد أرادوا تحصين الحرف الدال على قوة الفعل‏.‏ فهذا أيضاً من مساوقة الصيغة للمعاني‏.‏

وقد أتبعوا اللام في باب المبالغة العين وذلك إذا كررت العين معها في نحو دمكمك وصمحمح وعركرك وعصبصب وغشمشم والموضع في ذلك للعين وإنما ضامتها اللام هنا تبعاً لها ولاحقة بها ألا ترى إلى ما جاء عنهم للمبالغة من نحو اخلولق واعشوشب واغدودن واحمومى واذلولى واقطوطى وكذلك في الاسم نحو عثوثل وغدودن وخفيدد وعقنقل وعبنبل وهجنجل قال‏:‏ ظلت ظل يومها حوب حل وظل يوم لأبي الهجنجل فدخول لام التعريف فيه مع العلمية يدل على أنه في الأصل صفة كالحرث والعباس وكل واجد من هذه المثل قد فصل بين عينيه بالزائد لا باللام‏.‏

فعلمت أن تكرير المعنى في تباب صمحمح إنما هو للعين وإن كانت اللام فيه أقوى من الزائد في باب افعوعل وفعوعل وفعيعل وفعنعل لأن اللام بالعين أشبه من الزائد بها‏.‏

ولهذا أيضاً ضاعفوها كما ضاعفوا العين للمبالغة نحو عتل وصمل وقمد وحزق إلا أن العين أقعد في ذلك من اللام ألا ترى إن الفعل الذي هو موضع للمعاني لا يضعف ولا يؤكد تكريره إلا بالعين‏.‏ هذا هو الباب‏.‏

فأما اقعنسس واسحنكك فليس الغرض فيه التوكيد والتكرير لأن ذا إنما ضعف للإلحاق فهذه طريق صناعية وباب تكرير العين هو طريق معنوية ألا ترى أنهم لما اعتزموا إفادة المعنى توفروا عليه وتحاموا طريق الصنعة والإلحاق فيه فقالوا‏:‏ قطع وكسر تقطيعاً وتكسيراً ولم يجيئوا بمصدره على مثال فعللة فيقولوا‏:‏ قطعةً وكسرة كما قالوا في الملحق‏:‏ بيطر بيطرة وحوقل حوقلة وجهور جهورة‏.‏

ويدلك على أن افعوعل لما ضعفت عينه للمعنى انصرف به عن طريق الإلحاق تغليباً للمعنى على اللفظ وإعلاماً أن قدر المعنى عندهم أعلى وأشرف من قدر اللفظ أنهم قالوا في افعوعل من رددت‏:‏ اردود ولم يقولوا‏:‏ اردودد فيظهروا التضعيف للإلحاق كما أظهروه في بياب اسحنكك واكلندد لما كان للإلحاق بالحرنجم واخرنطم ولا تجد في بنات الأربعة نحو احروجم فيظهروا افعوعل من رددت فيقال اردودد لأنه لا مثال له رباعياً فيلحق هذا به‏.‏ فهذا طريق المثل واحتياطاتهم فيها بالصنعة ودلالاتهم منها على الإرادة والبغية‏.‏

فأما مقابلة الألفاظ بما يشاكل أصواتها من الأحداث فباب عظيم واسع ونهج متلئب عند عارفيه مأموم‏.‏ وذلك أنهم كثيراً ما يجعلون أصوات الحروف على سمت الأحداث المعبر بها عنها فيعدلونها بها ويحتذونها عليها‏. وذلك أكثر مما تقدره وأضعاف ما نستشعره‏.‏

من ذلك قولهم‏:‏ خضم وقضم‏.‏ فالخضم لأكل الرطب كالبطيخ والقثاء وما كان نحوهما من المأكول الرطب‏. والقضم للصلب اليابس نحو قضمت الدابة شعيرها ونحو ذلك‏.‏ وفي الخبر قد يدرك الخضم بالقضم أي قد يدرك الرخاء بالشدة واللين بالشظف‏.‏ وعليه قول أبي الدرداء‏:‏ يخضمون ونقضم والموعد الله فاختاروا الخاء لرخاوتها للرطب والقاف لصلابتها لليابس حذواً لمسموع الأصوات على محسوس الأحداث‏.‏

ومن ذلك قولهم‏:‏ التضح للماء نحوه والنضح أقوى من النضح قال الله سبحانه‏:‏ فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ‏‏ فجعلوا الحاء لرقتها للماء الضعيف والخاء لغلظها لما هو أقوى منه‏.‏

ومن ذلك القد طولا والقط عرضاً‏.‏ وذلك أن الطاء أحصر للصوت وأسرع قطعاً له من الدال‏.‏ فجعلوا الطاء المناجزة لقطع العرض لقربه وسرعته والدال المماطلة لما طال من الأثر وهو قطعه طولا‏.‏

ومن ذلك قولهم‏:‏ قرت الدم وقرد الشيء وتقرد وقرط يقرط‏.‏ فالتاء أخفت الثلاثة فاستعملوها في الدم إذا جف لأنه قصد ومستخف في الحس عن القردد الذي هو النباك في الأرض ونحوها‏.‏ وجعلوا الطاء وهي أعلى الثلاثة صوتاً للقرط الذي يسمع‏.‏

وقرد من القرد وذلك لأنه موصوف بالقلة والذلة قال الله تعالى‏:فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ‏‏‏.‏ ينبغي أن يكون خاسئين خبراً آخر لكونوا والأول قردة فهو كقولك‏:‏ هذا حلو حامض وإن جعلته وصفا لقردة صغر معناه ألا ترى أن القرد لذله وصغاره خاسئ أبداً فيكون إذا ً صفة غير مفيدة‏.‏ وإذا جعلت خاسئين خبراً ثانياً حسن وأفاد حتى كأنه قال‏:‏ كونوا قردة وكونوا خاسئين ألا ترى أن ليس لأحد الاسمين من الاختصاص بالخبرية إلا ما لصاحبه وليس كذلك الصفة بعد الموصوف إنما اختصاص العامل بالموصوف ثم الصفة من بعد تابعة له‏.‏ ولست أعني بقولي‏:‏ إنه كأنه قال تعالى‏:‏ (كونوا قردة كونوا خاسئين) أن العامل في خاسئين عامل ثان غير الأول معاذ الله أن أريد ذلك إنما هذا شيء يقدر مع البدل‏.‏ فأما في الخبرين فإن العامل فيهما جميعاً واحد ولو كان هناك عامل آخر لما كانا خبرين لمخبر عنه واحد وإنما مفاد الخبر من مجموعهما‏.‏ ولهذا كان عند أبي علي أن العائد على المبتدأ من مجموعهما لا من أحدهما لأنه ليس الخبر بأحدهما بل بمجموعهما‏. وإنما أريد أنك متى شئت باشرت بكونوا أي الاسمين آثرت ولست كذلك الصفة‏.‏ ويؤنس بذلك أنه لو كانت (خاسئين) صفة لقردة لكان الأخلق أن يكون قردة خاسئة وفي أن لم يقرأ بذلك البتة دلالة على أنه ليس بوصف‏.‏ وإن كان قد يجوز أن يكون خاسئين صفة لقردة على المعنى إذ كان المعنى أنها هي هم في المعنى إلا أن هذا إنما هو جائز وليس بالوجه بل الوجه أن يكون وصفاً لو كان على اللفظ‏.‏ فكيف وقد سبق ضعف الصفة ههنا‏.‏ فهذا شيء عرض قلنا فيه ثم لنعد‏.‏

أفلا ترى إلى تشبيههم الحروف بالأفعال وتنزيبهم إياها على احتذائها‏.‏ ومن ذلك قولهم‏:‏ الوسيلة والوصيلة والصاد كما ترى أقوى صوتاً من السين لما فيها من الاستعلاء والوصيلة أقوى معنى من الوسيلة‏.‏ وذلك أن التوسل ليست له عصمة الوصل والصلة بل الصلة أصلها من اتصال الشيء بالشيء ومماسته له وكونه في أكثر الأحوال بعضا له كاتصال الأعضاء بالإنسان وهي أبعاضه ونحو ذلك والتوسل معنى يضعف ويصغر أن يكون المتوسل جزءا أو كالجزء من المتوسل إليه‏.‏ وهذا واضح‏.‏ فجعلوا الصاد لقوتها للمعنى.

ومن ذلك قولهم‏:‏ الخذا في الأذن والخذأ‏:‏ الاستخذاء فجعلوا الواو في خذواء لأنها دون الهمزة صوتاً للمعنى الأضعف‏. وذلك لأن استرخاء الأذن ليس من العيوب التي يسب بها ولا يتناهى في استقباحها‏.‏ وأما الذل فهو من أقبح العيوب وأذهبها في المزراة والسب فعبروا عنه بالهمزة لقوتها وعن عيب الأذن المحتمل بالواو لضعفها‏. فجعلوا أقوى الحرفين لأقوى العيبين وأضعفهما لأضعفهما‏.‏

ومن ذلك قولهم‏:‏ قد جفا الشيء يجفو وقالوا‏:‏ جفأ الوادي بغثائه ففيهما كليهما معنى الجفاء لارتفاعهما إلا أنهم استعملوا الهمزة في الوادي لما هناك من حفزه وقوة دفعه‏.‏

ومن ذلك قولهم‏:‏ صعد وسعد‏.‏ فجعلوا الصاد لأنها أقوى لما فيه أثر مشاهد يرى وهو الصعود في الجبل والحائط ونحو ذلك‏.‏ وجعلوا السين لضعفها لما لا يظهر ولا يشاهد حساً إلا أنه مع ذلك فيه صعود الجد لا صعود الجسم ألا تراهم يقولون‏:‏ هو سعيد الجد وهو عالي الجد وقد ارتفع أمره وعلا قدره‏.‏ فجعلوا الصاد لقوتها مع ما يشاهد من الأفعال المعالجة المتجشمة وجعلوا السين لضعفها فيما تعرفه النفس وإن لم تره العين والدلالة اللفظية أقوى من الدلالة المعنوية‏.‏ فإن قلت‏:‏ فكان يجب على هذا أن يكون الخذا في الأذن مهموزاً وفي الذل غير مهموز لأن عيب الأذن مشاهد وعيب النفس غير مشاهد قيل‏:‏ عيب الأذن وإن كان مشاهدا فإنه لا علاج فيه على الأذن وإنما هو خمول وذبول ومشقة الصاعد ظاهرة مباشرة معتدة متجشمة فالأثر فيها أقوى فكانت بالحرف الأقوى وهو الصاد أحرى‏.‏

ومن ذلك أيضاً سد وصد‏.‏ فالسد دون الصد لأن السد للباب يسد والمنظرة ونحوها والصد جانب الجبل والوادي والشعب وهذا أقوى من السد الذي قد يكون لثقب الكوز ورأس القارورة ونحو ذلك فجعلوا الصاد لقوتها للأقوى والسين لضعفها للأضعف‏.‏

ومن ذلك القسم والقصم‏.‏ فالقصم أقوى فعلاً من القسم لأن القصم يكون معه الدق وقد يقسم بين الشيئين فلا ينكأ أحدهما فلذلك خصت بالأقوى الصاد وبالأضعف السين‏.‏

ومن ذلك تركيب ‏"‏ ق ط ر ‏"‏ و ‏"‏ ق د ر ‏"‏ و ‏"‏ ق ت ر ‏"‏ فالتاء خافية متسفلة والطاء سامية متصعدة فاستعملنا لتعاديهما في الطرفين كقولهم‏:‏ فتر الشيء وقطره‏.‏ والدال بينهما ليس لها صعود الطاء ولا نزول التاء فكانت لذلك واسطة بينهما فعبر بها عن معظم الأمر ومقابلته فقيل قدر الشيء لجماعة ومحرنجمه‏.‏ وينبغي أن يكون قولهم‏:‏ قطر الإناء الماء ونحوه إنما هو فعل من لفظ القطر ومعناه‏.‏ وذلك أنه إنما ينقط الماء عن صفحته الخارجة وهي قطره‏.‏ فاعرف ذلك‏.‏

فهذا ونحوه أمر إذا أنت أتيته من بابه وأصلحت فكرك لتناوله وتأمله أعطاك مقادته وأركبك ذروته وجلا عليك بهجاته ومحاسنه‏.‏ وإن أنت تناكرته وقلت‏:‏ هذا أمر منتشر ومذهب صعب موعر حرمت نفسك لذته وسددت عليها باب الحظوة به‏.‏ نعم ومن وراء هذا ما اللطف فيه أظهر والحكمة أعلى وأصنع‏.‏

وذلك أنهم قد يضيفون إلى اختيار الحروف وتشبيه أصواتها بالأحداث المعبر عنها بها ترتيبها وتقديم ما يضاهي أول الحدث وتأخير ما يضاهي آخره وتوسيط ما يضاهي أوسطه سوقاً للحروف على سمت المعنى المقصود والغرض المطلوب‏.‏

وذلك قولهم‏:‏ بحث‏.‏ فالباء لغلظها تشبه بصوتها خفقة الكف على الأرض والحاء لصحلها تشبه مخالب الأسد وبراثن الذئب ونحوهما إذا غارت في الأرض والثاء للنفث والبث للتراب‏. وهذا أمر تراه محسوساً محصلاً فأي شبهة تبقى بعده أم أي شك يعرض على مثله‏.‏ وقد ذكرت هذا في موضع آخر من كتبي لأمر دعا إليه هناك‏.‏ فأما هذا الموضع فإنه أهله وحقيق به لأنه موضوع له ولأمثاله‏.‏

ومن ذلك قولهم‏:‏ شد الحبل ونحوه‏.‏ فالشين بما فيها من التفشي تشبه بالصوت أول انجذاب الحبل قبل استحكام العقد ثم يليه إحكام الشد والجذب وتأريب العقد فيعبر عنه بالدال التي هي أقوى من الشين ولاسيما وهي مدغمة فهو أقوى لصنعتها وأدل على المعنى الذي أريد بها‏. ويقال شد وهو يشد‏.‏ فأما الشدة في الأمر فإنها مستعارة من شد الحبل ونحوه لضرب من الاتساع والمبالغة على حد ما نقول فيما يشبه بغيره لتقوية أمره المراد به‏.‏

ومن ذلك أيضاً جر الشيء يجره قدموا الجيم لأنها حرف شديد وأول الجر بمشقة على الجار والمجرور جميعاً ثم عقبوا ذلك بالراء وهو حرف مكرر وكررها مع ذلك في نفسها‏.‏ وذلك لأن الشيء إذا جر على الأرض في غالب الأمر اهتز عليها و اضطرب صاعداً عنها ونازلاً إليها وتكرر ذلك منه على ما فيه من العتعة والقلق‏.‏ فكانت الراء لما فيها من التكرير ولأنها أيضاً قد كررت في نفسها في جر وجررت أوفق لهذا المعنى من جميع الحروف غيرها‏. هذا هو محجة هذا ومذهبه‏.‏

فإن أنت رأيت شيئاً من هذا النحو لا ينقاد لك فيما رسمناه ولا يتابعك على ما أوردناه فأحد أمرين‏:‏ إما أن تكون لم تنعم النظر فيه فيقعد بك فكرك عنه أو لأن لهذه اللغة أصولاً وأوائل قد تخفى عنا وتقصر أسبابها دوننا كما قال سيبويه‏:‏ أو لأن الأول وصل إليه علم لم يصل إلى الآخر‏.‏

فإن قلت‏:‏ فهلا أجزت أيضاً أن يكون ما أوردته في هذا الموضع شيئاً اتفق وأمراً وقع في قيل‏:‏ في هذا حكم بإبطال ما دلت الدلالة عليه من حكمة العرب التي تشهد بها العقول وتتناصر إليها أغراض ذوي التحصيل‏.‏ فما ورد على وجه يقبله القياس وتقتاد إليه دواعي النظر والإنصاف حمل عليها ونسبت الصنعة فيه إليها‏.‏ وما تجاوز ذلك فخفى لم توءس النفس منه ووكل إلى مصادقة النظر فيه وكان الأحرى به أن يتهم الإنسان نظره ولا يخف إلى ادعاء النقض فيما قد ثبت الله أطنابه وأحصف بالحكمة أسبابه‏.‏ ولو لم يتنبه على ذلك إلا بما جاء عنهم من تسميتهم الأشياء بأصواتها كالخازباز لصوته والبط لصوته والخاقباق لصوت الفرج عند الجماع‏.‏ والواق للصرد لصوته وغاق للغراب لصوته وقوله تداعين باسم الشيب لصوت مشافرها وقوله‏:‏

بينما نحن مرتعون بفلج    قالت الدلح الرواء إنيهِ

فهذا حكاية لرزمة السحاب وحنين الرعد وقوله‏:‏

كالبحر يدعو هيقما وهيقما

وذلك لصوته‏. ونحو منه قولهم‏:‏ حاحيت وعاعيت وهاهيت إذا قلت‏:‏ حاء وعاء وهاء‏.‏ وقولهم‏:‏ بسملت وهيللت وحولقت كل ذلك وأشباهه إنما يرجع في اشتقاقه إلى الأصوات‏. والأمر أوسع‏.‏

ومن طريف ما مر بي في هذه اللغة التي لا يكاد يعلم بعدها ولا يحاط بقاصيها ازدحام الدال والتاء والطاء والراء واللام والنون إذا مازجتهن الفاء على التقديم والتأخير فأكثر أحوالها ومجموع معانيها أنها للوهن والضعف ونحوهما‏.‏

من ذلك الدالف للشيخ الضعيف والشيء التالف والطليف والظليف المجان وليست له عصمة الثمين والطنف لما أشرف خارجا عن البناء وهو إلى الضعف لأنه ليست له قوة الراكب الأساس والأصل والنطف‏:‏ العيب وهو إلى الضعف والدنف‏:‏ المريض‏.‏

ومنه التنوفة وذلك لأن الفلاة إلى الهلاك ألا تراهم يقولون لها‏:‏ مهلكة وكذلك قالوا لها‏:‏ بيداء فهي فعلاء من باد يبيد‏.‏

ومنه الترفة لأنها إلى اللين والضعف وعليه قالوا‏:‏ الطرف لأن طرف الشيء أضعف من قبله وأوسطه قال الله سبحانه ( ‏‏أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا‏‏‏).‏ وقال الطائي الكبير‏:

‏كانت هي الوسط الممنوع فاستلبت   ما حولها الخيل حتى أصبحت طرفا

 ومنه الفرد لأن المنفرد إلى الضعف والهلاك؛ ما هو قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ المرء كثير بأخيه ‏)‏‏.‏

والفارط المتقدم وإذا تقدم انفرد وإذا انفرد أعرض للهلاك ولذلك ما يوصف بالتقدم ويمدح به لهول مقامه وتعرض راكبه‏.‏ وقال محمد بن حبيب في الفرتنى الفاجرة‏:‏

إنها من الفرات وحكم بزيادة النون والألف فهي على هذا كقولهم لها (هلوك). قال الهذلي:

السالك الثغرة اليقظان كالئها    مشى الهلوك عليها الخيعل الفضل

وقياس مذهب سيبويه أن تكون فرتنى فعللى رباعية كجحجبى‏.‏

ومنه الفرات لأنه الماء العذب وإذا عذب الشيء ميل عليه ونيل منه ألا ترى إلى قوله‏:‏ ممقر مر على أعدائه وعلى الأدنين حلو كالعسل وقال الآخر‏:‏

تراهم يغمزون من استركوا    ويجتنبون من صدق المصاعا

ومنه الفتور للضعف والرفت للكسر والرديف لأنه ليس له تمكن الأول‏.‏ ومنه الطفل للصبي لضعفه والطفل للرخص وهو ضد الشثن والتفل للريح المكوهة فهي منبوذة مطروحة‏. وينبغي أن تكون الدفلى من ذلك لضعفه عن صلابة النبع والسراء والتنضب والشوحط‏.‏

وقالوا‏:‏ الدفر للنتن وقالوا للدنيا أم دفر سب لها وتوضيع منها‏.‏ ومنه الفلتة لضعفة الرأي وفتل المغزل لإنه تثن واستدارة وذاك إلى وهي وضعفة والفطر‏:‏ الشق وهو إلى الوهن‏.‏

الآن قد أنستك بمذهب القوم فيما هذه حاله ووقفتك على طريقه وأبديت لك عن مكنونه وبقي عليك أنت التنبه لأمثاله وإنعام الفحص عما هذه حاله فإنني إن زدت على هذا مللت وأمللت‏.‏ ولو شئت لكتبت من مثله أوراقا مئين فأبه له ولاطفه ولا تجف عليه فيعرض عنك مشابهة