بغـــــالٌ مُجَـنَّحَــــــــةٌ

 

 

 

في عامِ المُهَرّجِ،

وفي السوقِ الكبيرِ،

الذي يجمعُ أطرافَ الدنيا،

ويُسمّونَهُ سوق العوراء،

جلسَ شيخٌ هرِمٌ اسمُه التاريخُ

مقتعِداً جذعَ شجرةٍ،

وكرعَ، من نصفِ جوزةِ هندٍ،

حليباَ طازجاً،

كانت قد استدرّتهُ قبلَ لحظاتٍ،

عجوزٌ اسمُها الجغرافيةُ،

من ضرعِ عنزةٍ متقافزةٍ

إسمُها الزمنُ!

 

 

تنحنحَ التاريخُ،

ومسحَ بظاهرِ كفّه

لحيتَه وشاربيه،

ثمّ سأل الجغرافيةّ:

ماذا حدثَ للديكِ الأزرقِ

الذي جلبَهُ الأوربيون

من أفريقيةَ

وشحنوه إلى آسيةَ؟

هل وصلتْ منه أيةُ أخبارٍ

إن كان قد باض أم لم يبض؟

وإن كان فعلَها؛

فهل كانت بيضتُه

حمراءَ أم سوداءَ أم ماذا؟

قالت الجغرافيةُ،

وهي تفلّي شعر قارّة

من بناتِها السبعِ،

وتقصعُ تنيناً عملاقاً

كان يقود درّاجَتَهُ الناريةَ

في غابةٍ هادئةٍ من رأسِ القارّةِ،

لقد باضَ الديكُ، لقد باضَ!

وقد فقستِ البيضةُ عن ديكٍ أزرقَ،

وقد تزوّجَ هو الآخرُ

من ملايينِ الدجاجاتِ،

وقد أقامَ لدجاجاتهِ خصّا كبيراً

محكمَ الرتاج،

ولا تستطيع دجاجةٌ،

مهما علا شأنُها،

أن تقوقئَ أو تبيضَ

إلا بهزَّةٍ من عرفِهِ الأحمر!

 

 

وكان في سوقِ العوراء

شيءٌ ضخمُ،

له ملامحُ الآدميينَ،

يقفُ على جدارٍ،

ويرشُّ عطوراً على مارّةٍ مسرعين،

وفي أيديهم أشياءٌ مفلطحةٌ،

جبلت من ترابٍ، ونشارةِ خشبٍ،

ورمادِ أزبالٍ،

خُلِطِتْ برائحةِ طحينٍ،

وكان المارةُ المسرعون

يزعمونَ انهُ الخبزُ

الذي أطعمَهُ المسيحُ بن العذراءِ

لأتباعِهِ

وقالَ:

هذا جسدي!

 

 

ونبتعدُ، نبتعدُ في القطارِ،

وكنّا نظنُّ أننا نصلُ،

وكنّا نجدُ المحطّةَ،

التي خلّفناها وراءنا،

أمامَنا!

وكانت الأرصفةُ ذاتُها

تملأُ رؤوسَ الواقفين،

ونضحكُ لهولِ المفاجأةِ

حين تكونُ بانتظارِنا العائلةُ ذاتُها:

السيدُ بندول والسيدةُ مروحةُ

نجلُهم ناعورُ وكريمتُهم طاحونةُ

وكنّا نتحسسُ رؤوسَنا

لنتأكّدَ من أنّها رؤوسٌ آدميّة فارغةٌ

وليست أكياسَ قمحٍ!

 

 

وصاحَ بصوتٍ متورِمٍ:

لننتَهِ من الأمرِ!

واستغرقَ يتحسّسُ كرشَ الثورةِ،

ونادى من البعيدِ،

هيكلٌ عظميٌّ متفحّمٌ " يا ليل.."

وضربوه بباقةٍ من ورودِ الأيديولوجيا،

لأنه صرخَ:

إن نهايةَ كلِّ ثوريٍّ

أنْ يتحوّلَ إلى لحّاسٍ!

 

 

وذلك من الإفك،

وكيفَ أشرحُ الأمرَ،

انّه شيءٌ غامضٌ،

يتعلَّقُ برقبةِ البعيرِ،

وصبرِ الحمارِ،

ونومِ القطا،

وليسَ في نيّةِ المجلسِ الموقّرِ

أن يهتمّ بما تتناولهُ الغوغاءُ!

 

 

وكانَ أبو الهولِ يجلسُ مقعياً

على كلِّ طرقاتِ الدنيا،

ملقياً سؤالَهُ اللغزَ:

ما العلاقةُ

بينَ النظريُةِ الثوريّةِ

ومؤخّرةِ الفرعونِ؟

ولا يسمعُ إلا تنهداتُ امرأة العزيزِ

وهي تشاهدُ فلماً عن تحريرِ كمبوديا،

وعن اضطهادِ السودِ في أمريكا،

ولقطاتٍ مؤثّرةٍ عن الثوّارِ في فيتنامَ،

وحينَ يشتعلُ وجدانُها تأثّراً،

تمسكُ شيئاً ما بيدِها بقوّةٍ

وتصرخُ يا...يو..س...ف!

 

فيتوقّفُ الملكُ في عرضِ الشارعِ

ويلتفتُ يميناً وشمالاً،

وحين يطمئنُّ ألا أحدٌ يتطلّعُ إليه،

يخفضُ تاجَهُ الملكيِّ،

حتى يشارف الأرضَ،

ويتناولُ فردةَ نعلهِ المقطوعَ ليخصفَهُ،

ثمَّ يواصلُ سيرَهُ نحو منزلِ صديقٍ،

كانَ قد وعدَ بتسليفهِ مبلغاً من المالِ،

حتّى آخرَ الشهرِ!

 

 

وفي تلكَ الأثناء،

كانت حربٌ طاحنَةٌ تدورُ رحاها

بين سنِّ الفيلِ وضرسِ النملةِ

وقد اندلعتِ الحربُ إثرَ مزحَةٍ

أطلقتْ بين صديقينِ حميمينِ،

في جلسةِ شرابٍ،

في مقصفٍ غير وقورٍ!

وكان من الأمرِ،

أن النملةَ حين بلغَ بها السكرُ مبلغَهُ،

أطلقتْ تحديها للفيلِ:

أن تجعلَهُ يرقصُ أمامَ الجميعِ،

ولمّا كان الفيلُ سكراناً، هو الآخرُ،

فقد شعرَ ان كبرياءهُ قد يُجرحُ،

ان هو لم يقبلِ التحدّي!

وتناولَ المتحدّيان جرعةً أخيرةً،

وتوجّها نحو حلبةَ الرقصِ،

فغادرَ الراقصون المكانَ،

وحُبستْ أنفاسُ الحاضرين،

ووضعَ المخبرون السرّيون أجهزتَهم

موضعَ الجاهزيّة،

وأمسكَ رجلُ الأمنِ المناوبُ

مقبضَ مسدّسهِ،

 

 

أما عاهراتُ المقصفِ،

فأخذنَ يولولنَ بالويلِ والثبورِ،

وعظائمَ الأمورِ،

وأضيئتْ صالةُ المقصفِ تحسّباً،

وطارتِ السكرةُ من رؤوسٍ كثيرةٍ،

وجاءتِ الفكرةُ بعد فواتِ الأوان،

ولا أحد يعرفُ كيفَ اندلعتِ الحربُ،

وقد اتّضحَ أن النملةَ قالت للفيلِ:

أتدري ماذا تقولُ حيواناتُ الغابةِ؟

تقولُ: ان خرطومَكَ أطولُ من ذيلِك،

وان ذيلَك لا يسترُ عورتك،

وان عقلَكَ لا يتناسبُ مع ضخامةِ جسمِك،

وان سنّك العاجيَّ لا نفعَ له ولا دفعَ،

وان ذيلَك لا يستطيعُ أن ينشَّ ذبابةً عن ظهرِكَ،

وتقولُ حيواناتُ الغابةِ:

أن صداقتَنا غيرَ متكافئةٍ

فأنا أستطيعُ أن أحملَ، بقوّةِ ضرسي،

حملاً يبلغُ ضعفَ جسمي،

وأنني حكيمةٌ، لأنني أجمعُ في الصيفِ

ما أحتاجُ إليه في الشتاءِ،

وانَّ بيتي نظيفٌ

لأنني ألقي بالفضلاتِ إلى الخارجِ،

وبعد أن أسمعتِ النملةُ الفيلَ هذا المقالَ،

كشّرتْ عن أضراسِها!

 

 

غَضِبَ الفيلُ غضباً شديداً

وشعرَ أن ذيلَهُ قد أهينَ أيّما إهانةٍ،

فتطايرَ الشررُ من عينيهِ

استل نابيه العاجيين،

ولوّحَ بهما في الفضاءِ،

واندفعَ هائجاً للفتكِ بالنملةِ!

بينما كانت النملةُ تنسلُّ بخفّةٍ

لتتسلَّقَ ظهرَ الفيلِ،

ومن ثمَّ، لتلوِّحَ للجماهيرِ!

هاجَ الفيلُ وماجَ مترنحاً،

وأخذتِ الجماهيرُ تصفّقُ بحماسٍ

للرقصةِ التي كان يقدّمها الفيلُ،

وكان الفيل يزدادُ هياجاً!

وبغتةً، انشقّتِ الجماهيرُ على نفسِها!

البعضُ يشجّعُ النملةَ

والبعضُ الآخرُ يشجّعُ الفيلَ

وتصعَّدَ الموقفُ،

وتشكّلتْ فوراً جبهتانِ

لحزبي النملةِ والفيلِ،

وسُمِعَتْ لعلعاتُ رصاصٍ،

تحوّلتْ إلى أصواتِ مدافع،

فانطلاقِ صواريخَ وسقوطِ أخرى،

فغاراتِ طيرانٍ مكثّفةٍ،

فتهديدٍ باستخدامِ الرؤوسِ النوويةِ،

ودونَ سابقِ إنذارٍ

يعلو صوتُ "كسّارةِ البندق"!

فتسترخي مفاصلُ الفيلِ،

ويسيل لعابُ النملةِ،

وترفعُ رايةُ السلامِ،

وتنزلُ النملةُ عن ظهرِ الفيلِ،

ويعقدُ الصلحُ بين الخصمينِ العنيدينِ،

ويعودان إلى طاولةِ الشربِ ثانيةً،

وينطلقُ الحزبان:

" الفيلُ الراقصُ" و " النملةُ الذكيةُ"

لإجراء انتخاباتٍ نزيهةٍ وديمقراطيةٍ،

باحتسابِ أصواتِ ضحايا الحربِ النمفيلية!

 

 

ويدفعُ الرجلُ البابَ،

بيدٍ مرتعشَةٍ من الهزالِ،

وينادي زوجتَهَ أن تُعِدَّ لهُ طعاماً،

فتجيبُهُ أنَّ كلَّ شيءٍ بانتظارِهِ،

فيمسكُ الرجلُ بملعقةٍ،

ويندفعُ بشهيّةٍ كبيرةِ

للتلذّذِ بطعمِ ال...ه...و...ا...ء!

 

 

ثمَّ يمسحُ فمَهُ ويديهِ،

ويسحبُ امرأتَهُ من يدهِا،

متجهاً نحوَ السريرِ،

ويجامعُها، فتحبلُ من فورِها،

ويرتدي الرجلُ ملابسَهُ الداخليّةَ،

فتشعرُ المرأةُ بالطلقِ،

ويتّجهُ هو للاغتسالِ،

فتضعُ هي ما في بطنِها!

وحين يعودُ الرجلُ،

يجدُ المرأةَ محاطةً بخمسةِ خرفانٍ ونعجتينِ!

فيعطيانِ لكلِّ خروفٍ ونعجةٍ إسماً،

ويمسكُ الرجلُ بعصا،

ويقودُ القطيعَ أمامَهُ،

باتجاهِ متجرٍ يبيعُ الأعلافَ،

ويقولُ للبائعِ:

أعطِني علفاً لهاتينِ النعجتينِ،

وخُذِ الخرافَ الخمسةَ رَهناً،

واقتطعْ من المبلغِ ثمنَ العلفِ،

وأوصيكَ خيراً بهؤلاءِ الخرافِ،

فهم فلذّاتِ كبدي!

وأنصحُكَ بإخفائهم في درجٍ أمينٍ،

كي لا تقع عليهم عيونُ الحاجّ قرقوز!

 

 

وأفاقَ التاريخُ من غفوةٍ،

كانت قد ألمّتْ بهِ،

وشعرَ أن عصبَ ظهرِهِ مشدودٌ،

ورأى الجغرافيَّةَ قد أثارتْ شهوتَهُ،

فواقعَها، في سفحِ جبلٍ،

يطلُّ على رأسِ الرجاءِ الصالحِ!

وكانَ أن أنجبتْ له من تلكَ المواقعةِ

أيّاماً كثيرينَ وبناتٍ كثيراتٍ،

وقد أكلَ السبعُ جميعَ المواليدِ،

إلا يوماً واحداً قد ولِدَ بسبعةِ أرواحٍ!

وكانتْ أمّهُ قد أودعتْهُ بطنَ حوتٍ،

فلبثَ في مستقرّهِ سنينَ طويلةً،

وبعدَ أن أصبحَ يوماً ناضجاً،

غادرَ مخبأَهُ،

وشتِمَ السباعَ علناً،

وأذاعَ بياناً يدعو فيه الناسَ

إلى عدمِ أكلِ بيوضِ الحيتانِ

إلا بعدَ تعقيمِها!

 

 

وطارَ اليومُ ذو السبعةِ أرواحٍ،

من مشرقِ الأرضِ إلى مغربِها،

ومن مغربِها إلى مشرِقِها،

ورسمَ خطوطاً متقاطعةً كثيرةً،

وأنجزَ زوايا مختلفةً،

وأتى بعجلِ السامريِّ،

من إحدى زوايا النسيانِ،

فحبستِ الناسُ أنفاسَها!

وتوجّهَ إلى قصرِ آشور بانيبال،

فإلى مخدعِ نومِ الملكِ،

وكانَ الملكُ نائماً،

وكانتْ زوجُهُ بين ذراعيهِ،

فأخرجَهما عاريينِ إلى باحةِ القصرِ،

وطلبَ من سلفادور دالي،

أن يلتقطَ لهما صورةً فوتوغرافيةً للذكرى!

ودخلَ اليومُ ذو السبعةِ أرواح إلى مخدعِ الملكِ،

وتركَ العجلَ في سريرِهِ،

والى جانبِهِ زجاجةُ عرقٍ زحلاويٍّ،

وأغلقَ بابَ المخدعِ،

ثمَّ طارَ غيرَ بعيدٍ،

وأتى بثورٍ مُجَنَّحٍ من ثيرانِ المعبدِ،

وأدخلَهُ مخدعَ الملكِ،

وخرجَ ضاحكاً،

وبعدَ أن أغلقَ البابَ بإحكامٍ،

أطلقَ ضحكةً مدوّيَةً،

سمعَها كلُّ من كانَ في سوقِ العوراء،

وسمعَها أبوه التاريخُ،

وسمعَتْها أمُّهُ الجغرافيَّةُ،

وكانتْ تحتلبُ عنزةً،

إسمُها الزمنُ!

 

 

وطارَ اليومُ ذو السبعةِ أرواحٍ، ثانيةً،

ورسمَ خطوطاً وزوايا كثيرةً،

وعاد من ضحكتِهِ المدوّيةِ،

واتّجَهَ إلى مخدَعِ ملكِ آشورَ،

وكانوا لا يزالون يحلقون له شعرَ رأسِهِ ولحيتِهِ وعانتِهِ،

لالتقاطِ صورةٍ تليقُ بمجلّةِ بلاي بوي،

وأعطى اليومُ ذو السبعةِ أرواحٍ تعليماتِهِ،

الى كوبولا لاخراجِ حفلة ما،

ستقامُ على شرفِ شخصيّةٍ هامّةٍ،

وفتحَ بابَ مخدعِ الملكِ بحذرٍ،

ولم يعدِ العجلُ ذهبياً،

ولم يعدِ الثورُ ذا جناحينِ،

وكانا- كلاهما- جُثتينِ هامدتينِ،

وكانت زجاجةُ العرقِ ترقصُ،

New Page 1

فوقَ مكتبِ الملكِ،

وقد شدّت وسطها بمنديلٍ أحمرَ،

وما كانَ لأحدٍ أن يعرفَ،

من الذي فعلَها بمَن،

وزجاجةُ العرقِ ممنوعةُ من التصريحِ،

بأوامرَ عليا،

ولا يمكنُ للبغلِ الذهبيِّ المجنّحِ،

الذي كان َ نتاجَ تلك الخلوةِ،

والذي كان يخرجُ صوتاً،

هو بين النهيقِ والخوارِ،

لا يمكنُ لهذا البغلِ أن يبوحَ بالسرِّ،

وسيتركُ الأمرُ للطبريِّ

ليدونَ سيرتَهُ الخالدةَ!

 

 

تناولَ اليومُ ذو السبعةِ أرواحٍ

منديلاً ورقيّاً،

من علبةٍ على مكتبِ الملكِ،

وحملَ بها عجلاً كان ذهبياً،

وثوراً كان ذا جناحينِ،

وألقى بهما في سلّةِ المهملاتِ،

وابتسمَ لزجاجةِ العرقِ،

ومسّدَ بيدِهِ جناحي البغلِ الذهبيِّ،

واقتادَهُ الى خارجِ القصرِ،

باتجاهِ معبدِ نينوى!

 

 

كانَ من عجيبِ أمرِ البغلِ

انّهُ لا يتناولُ طعاماً

مما تُطعمُ بهِ الدوابُ،

ولا مما يُطعمُ بهِ الآدميّون!

وكانَ لا يتغذّى

الا على الأحلامِ السعيدةِ الطازجَةِ!

وكان لزاماً على المواطنين،

صغيرِهم وكبيرِهم، أن يحلموا!

وأن تكونَ أحلامُهم سعيدةً،

يضعونها في قنانيّ خاصّةٍ،

ويتّجهون بها باكراً،

الى مكاتبِ استلام الأحلامِ،

ثمَّ يدوّنون أسماءَهم،

في سجلِّ المواطنين الحالمين!

أمّا من يتغيّبُ عن تقديمِ حلمِهِ،

فتتولّى أمرَهُ لجانٌ خاصّةٌ

بمتابعةِ شؤونِ المُواطَنةِ !

 

 

ولم تنتهِ عجائبُ البغلِ المُجَنّحِ عندَ هذا الحدِّ

وكانَ من أعجبِ عجائبِهِ:

New Page 1

انّه حين يُنطَقُ باسمِهِ

أو تردُ سيرتُهُ على لسانٍ،

ينشطرُ على نفسِهِ

وينبثقُ شبيهُهُ فوراً!

ولم تكنِ الناسُ تعلمُ بالأمرِ،

فكانوا رجالاً ونساء،

كباراً وصغاراً

يتداولون اسمَه وسيرتَهُ

وكان البغلُ ينشطرُ،

حتى صارَ البغلُ بغالاً

والبغالُ ألوفاً

وكلّها بغالً ذهبيةٌ مجنّحةً،

لا فرقَ فيها بين الأصلِ وصورتِهِ!

 

 

وأكلَ الناسَ الفزعُ،

وجفّتْ رؤوسُهم،

ولم يعودوا قادرينَ على استمناء الأحلامِ،

وظهرَ تجّارٌ بارعون،

فابتكروا آلاتٍ لصنعِ الأحلامِ،

وتهافتَ الناسُ يشترون الأحلامَ المصنّعةَ،

لتقديمِها الى مكاتبِ البغالِ،

وافتُضحَ الأمرُ،

فوضِعَ في كلِّ مكتبٍ جهازٌ لفحصِ الأحلامِ،

وسُنّتِ القوانينُ، لمعاقبةِ ذوي الأحلامِ الزائفةِ،

وماذا بوسع الناسِ أن تفعلَ؟

لقد كان بغلاً واحداً،

وها انّها ألوفٌ من البغالِ،

وخفّتْ الرؤوسُ لكثرةِ الاستمناءِ،

واختفتْ أصواتُهم،

لكثرةِ ما يتكلّمون همساً،

وصار أشدَّ ما يحذرُهُ الناسُ،

أن يذكروا اسم البغلِ أو سيرتَهُ،

حتّى لا يولد بغلٌ جديدٌ!

 

 

في عامِ المُهَرّجِ،

وفي السوقِ الذي يربطُ

مشارقَ الدنيا بمغاربِها،

ويسمّونَهُ سوقُ العوراءِ،

أقيمَ مهرجانٌ كبيرٌ،

بمناسبةِ الذكرى الماسيةِ،

لميلادِ البغلِ المُجَنَّحِ الأكبرِ،

واجتمعتْ في ذلكَ اليومِ

بغالُ الدنيا كلُّها،

وكانتِ الهديّةُ التي قُدِّمتْ لهُ

فوقَ ما يتصوّرُ البشرُ!

 

 

كانتِ البغالُ قد قطَفَتِ الشمسَ

من شجرةِ الكونِ،

ووضعوها في جرابٍ محكمِ السدادِ

ووضعوها بين يديهِ،

وتناولَها البغلُ الأكبرُ،

وكانت الأرضُ لا تسعُهُ لشدّةِ الزهوِ،

وألقى بها في صندوقِ مقتنياتهِ الخاصّةِ،

وخاطبَ الجماهيرَ المحتشدةِ

في سوق العوراءِ:

والآنَ!

سنرى،

ان كانت هذهِ العجوزُ

ستزعجُنا ثانيةً،

بنهاراتِها الثرثارةِ!

 

 

وفي ذلكَ العامِ،

أصابَ الناسَ في سوقِ العوراءِ

قحطٌ شديدٌ، وكانَ الجوعُ لا يطاقُ!

وتجمهرَ الأهالي وأقاموا صَلاةَ الاستسقاءِ،

ونقلتِ الملائكةُ مقالتَهم الى الربِّ،

وكانَ الربُّ يسمعُ ويرى،

وكان الربُّ يريدُ أن يقيمَ حجّةً على الناسِ،

وقالَ الربُّ ليكن مطرٌ، فكانَ مطراً،

وقال الربُّ ليكنِ المطرُ مباركاً، فكانَ مباركاً!

وكان هطولُ المطرِ عيداً للناسِ،

وتهلّلتْ أساريرُهم،

وقالتِ الناسُ: خبزاً نريدُ

وقالوا: لكنّنا الى المكانسِ أحوجَ!

وحرثوا الأرضَ، وسقوها ماءً وفيراً،

وهيئوا الحقولَ للبذارِ،

وبذورَ مكانسَ نثروا في الأرضِ الطيّبةِ،

ولم ينثروا بذورَ قمحٍ  ولا شعيرٍ ولا ذرةٍ ولا دُخنٍ!

ووصلتِ المقالةُ من أفواهِ البغالِ

الى أذنِ الجناحِ العالي،

ونادى الجناحُ العالي مستشاريهِ وكهنةَ معبدِهِ،

وخاطبَهم: ما شأنُ الناسِ يزرعون المكانسَ

وهم يتضوّرون جوعاً؟!

وقال المستشارون والكهنةُ:

أمراً خطيراً يبيّتون!

فليأمرْ جناحُكم العالي بتدميرِ الحقولِ جميعاً

قبلَ أن يطلعَ من الترابِ رأسُ مكنسةٍ واحدٍ!

وأجابَهم الجناحُ العالي الى طلبِهم،

وأصدرَ أمرَهُ الى البغالِ،

وهرعتِ البغالُ لتنفيذِ أمرِ الجناحِ العالي،

وأصابوا الحقولَ نبشاً وتدميراً

بالمشافرِ والحوافرِ والصهيقِ!

 

 

وكانَ غرابُ الأخوينِ

فوق سدرةٍ في أحدِ الحقولِ،

وكانَ الغرابُ يسمعُ ويرى،

وقالَ في نفسِهِ:

لم يكن لديَّ أيُّ عملٍ،  سوى النعيقِ، منذُ زمنٍ بعيدٍ!

وطارَ الغرابُ من سدرتِهِ،

والتقطَ أربعَ بذورٍ،

وحلَّقَ بعيداً في الأعالي،

يتبعُهُ صهيقُ البغالِ وزمجراتُهم اللاعنةُ،

وألقى الغرابُ بكلِّ بذرةٍ فوقَ أعلى قمّةِ جبلٍ،

يقعُ في جهةٍ من جهاتِ الدنيا الأربعِِ!

وبعدَ أن فرغَ الغرابُ من عملِهِ،

رأى أنّهُ راضٍ عن صنيعِهِ،

وقالَ:

ها هم بنو الإنسان

مدينون لي للمرّةِ الثانيةِ!

ورأى انّهُ بحاجةٍ الى الغناءِ

فأطلقَ صوتَهُ في الفيافي!

 

 

وبعدَ أنِ انتهى المزيّنون

من حلاقةِ عانةِ آشوربانيبال،

اصطحبوهُ وزوجَهُ الى مقصورةٍ،

لمشاهدةِ عرض مصارعةٍ للبغالِ،

وكانَ الغبارُ يتصاعدُ وينعقدُ في الجوِّ،

ثمَّ يهبطُ شتائمَ رنّانةٍ لامعةٍ،

لتملأَ سوقَ العوراءِ بزناختِها،

وتتكدّسُ في الشوارعِ،

والحارات، والأسواقِ والمقاهي،

وفي كلِّ شبرٍ، وأجزاءِ الشبرِ،

وأجزاءِ الأجزاءِ،

وكانّ من الصعبِ على المارّةِ،

في سوقِ العوراءِ،

أن يغذّوا السيرَ لقضاءِ الحاجةِ،

خوفَ أن يصطدموا بشتيمةٍ ما!

ولو حدثَ ذلكَ،

لقُطِعَتِ القدمُ الآثمةُ من فورِها،

وهل تجرؤ قدمٌ، مهما كانَ الحذاءُ الذي ترتديهِ،

أن تدوسَ شتيمةَ بغلٍ!

ولهذا كان الناسُ يؤثرون المشيَ حفاةً،

احتراماً لقدسيّةِ الشتائمِ البغليّةِ!

ويحدثُ أحياناً كثيرةً،

أن تكونَ شتيمةٌ خارجةً للتوِّ

من أحدِ الباراتِ، وقد تعتعَها السكرُ،

فتصدمُ بوجِهِ أحدِ المارّّةِ،

ولن يكونَ بوسعِ أحدِ المارَّةِ المذكورِ،

سوى أن يحملَها على وجهِهِ،

ويتّجهَ بها نحوَ المنزلِ،

ويضعَها في مزهريّةٍ خاصّةٍ،

احتفاظاً بها لذكرى عزيزةٍ!

ولو قالت لكَ شتيمةٌ:

ان النيلَ يبيضُ لصوصاً مسلوقينَ،

فلا تنزعجْ!

ولو قالت لك شتيمةٌ:

أن الفراتَ ينبعُ من لسانِ كلبةٍ،

فلا تنزعجْ!

وإيّاكَ إيّاكَ!

أن تقولَ لشتيمةٍ بغليّةٍ:

على عينكِ حاجبٌ!

 

 

ومن المؤكَّدِ،

أن يوسفَ قد فكَّرَ بالهرَبِ،

لكنَّ الكلبَ البوليسَّ،

الذي يرابطُ ببابِ غرفتِهِ،

قد طلبَ منهُ بكُلِّ تهذيبٍ:

أنْ يغيّرَ خططَهُ!

فاتجَهَ يوسفُ من فورِهِ

الى صالةِ المؤتمراتِ،

وعقدَ مؤتمراً صحفيّاً،

أدانَ فيهِ الإرهاب،وقالَ انَّهُ لا يؤمنُ  بالعنفِ السياسيِّ،

وانَّ الذنبَ ذنبُ اخوته،

إذ أجبروه على تعلِّمِ الموسيقى بدلا من الرسمِ،

وتساءلَ ان كانَ أبوهُ محقّاً

حين نصحَهُ بألا يعزف السمفونيةَ الثالثةَ عشرةَ

أمامَ الموسيقار محمد عبد الوهاب،

ولامَ نفسَهُ كثيراً

لأنّهُ استردّ " بحيرةّ البجعِ "،

التي وضعَها سرّاً في بيانو أخيهِ،

وكانَ يوسفُ مبلبلَ النفسِ بعدَ نهايةِ المؤتمرِ،

وكانَ يشعرُ بحمّى غريبةٍ،

تستعرُ في موضعٍ ما من جسمهِ،

وهو ينطلقُ نحو غرفةٍ مواربةٍ،

ينطلقُ منها فحيحٌ أوبراليٌّ يكسرُ القلبَ!

 

 

فامّا النعجتانِ،

فقد باركَهما الربُّ!

فحكمتْ إحداهُما في أفريقيّةَ،

وكانوا يطلقون عليها نفرتيتي!

واما الثانية فحكمتْ في آسيّةَ،

وكانوا يسمّونها سميراميس!

ولم يبارك الربُّ من إخوانهما،

الا خروفاً واحدا هو الذي قُدِّمَ فداءً

عن إسماعيلَ أبي الأنبياءِ،

وامّا بقيةُ الخرافِ،

فلم ينجُ منهم أحدٌ من مَخالِفِ الحاجّ قرقوز!

 

 

وكانَ اليومُ يومَ خميسٍ،

لتسعِ ليالٍ بقينَ من آذارَ/ مارس،

سنةَ كذا ويحزنون!

وكانتْ سهيرُ قد سلقتْ ليلةَ الجمعةِ،

وطبختْها بالمايونيزِ،

ثمَّ أضافتْ الى الطبيخِ سبعةَ نجومٍ وقمرينِ،

وكانَ سهرانُ قد عادَ من مضيفِ جلجامشَ،

وقالَ سهرانُ ما الذي طبختِهِ لنا يا امرأة؟

وقالتْ سهيرُ: ليلةَ جمعةٍ كاملةٍ!

فأناخَ سهرانُ جملَهُ ببابِ الخيمةِ،

وأخذَ دشّاً ساخناً،

ووضعتْ سهيرُ المائدةَ أمامَهُ،

وقد بدا سهرانُ سعيداً

وهو يقضمُ نجمةً محشيَّةً باللوزِ،

ويقتطعُ من قمرٍ محمّصٍ،

ويغمزُ بعينيهِ لامرأةٍ

كانت بأنوثةِ السماء!

 

 

وكانتِ السماءُ حلوةً!

وكانتْ سهيرُ بأحضانِ سهرانٍ،

حينَ طارَ من جوفِهِ قمرٌ وستةُ نجومٍ،

وجلسَ القمرُ على كرسيٍّ في السماءِ،

وتحلّقت حولَه النجومُ الستُّ،

وقالَ القمرُ: لتبرعمي يا بذورَ المكانسِ!

فبرعمتِ المكانسَ من فورها

وقال: لتغدونَّ مكانسَ مكانسَ

فكانت مكانسَ مكانسَ

وقال: بين كلّ مكنسةٍ وأخرى مسافةُ كذا ويحزنون،

فلتنجبْ كلُّ مكنسةٍ كذا ويفرحون!

فكان أنِ امتدّتْ المكانسُ

على طولِ الخطِّ المحيطِ!

وقالَ القمرُ:

أرى شتائمَ لا حصرَ لها،

تأخذُ بخناقِ الآدميينَ،

فلتخرجي أيتُها المكانسُ،

من محاريبِ الكسلِ،

ولتكنسي الشتائمَ من شرايين الآدميين وأوردتَهم!

فكانت عاصفةُ المكانسِ

تتلقّفُ الشتائمَ وتطاردُها،

وكانتِ الشتائمُ تجري كالجرادِ المذعورِ!

وكانت آخرُ شتيمةٍ كنستها المكانسُ،

مختبئةً في تاجِ بغلٍ مُجَنَّحٍ،

كان الآدميّون في سوق العوراءِ،

يسمّونَهُ

البغلُ

الأكبرُ!

وفي تلك اللحظةِ بالذاتِ،

صاحَ كاسباروفُ:

كشْ

قره

قوز!

199631 صنعـــاء

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* آثاريون 1997/عمان/ الأردن.