Title of Your Page

 

الفخ الشعري الجميل : قراءة في نص الشاعر جواد الحطاب ( ابجدية ناقصة )

 

كتابات - عبدالكريم كاظم

 

ان الفن الشعري ما كان الا ليغير .. لوتريامون

 

إلى أي حد عبّرت هذه الجملة الشعرية ( وضعوا في عقل بلادي لولب ) عن إشكاليات ما يمكن تسميته بالخراب العراقي وهو ما يستدعي تحليل وعي هذا العالم وأستجلاء حقيقته الإنسانية نتيجة للدمار الذي جلبه المارينز (والابطال الجدد) ..  عبارة بالغة الأهمية تقول الأشياء بلا مقدمات أو استطراد لا معنى له .

إذا كانت القصيدة الشعرية قد نجحت في تثبيت مكانتها بوسائل فنية ـ جمالية فإن الشاعر قد أوقع قارئه في الفخ الردعي الجميل للقصيدة حين أبقى على حرارة   الكلمات ولأن صناعة القصيدة، أعني كتابتها الشاقة ،تتطلب كل هذا الجهد الروحي لتأتي في سياقها الجمالي المتفرد أو الإنساني المجرد، فمن خلال القراءة لما كتبه الشاعر العراقي جواد الحطاب بنصه المنشور على صفحة كتابات ـ 11 كانون الثاني والمعنون ( ابجدية ناقصة ) نرى الحرص .. كل الحرص للتميز بين الحياة والموت، وهناك ـ في ذات الوقت ـ ميل واضح لدى الشاعر إلى التقريب بينهما حيث تم حصر الأشياء المحيطة بالبلاد في أوسع نطاق شعري عن طريق توسيع مفهوم التفرقة بين الموت والحياة، وإنطلاقاً من هذا النص يقدم إلينا الحطاب حواراً أو تصوراً مجرداً وهازئاً جرى بين الموت ونظرة الشاعر إليه بكثير من الصدق والشفافية .

يتحدث الشاعر عن الموت العراقي .. وهذه الكلمة هي في أقصى أقاصي ما يتصوره الخيال، بل إن الموت إجمالاً ضرب من ضروب الخيال فليس هناك موت تدل عليه معنى الكلمة، إلا إذا كنا قد أخطأنا المعنى الأصلي للكلمة وأستبدلنا به معنى الفوضى مع الحفاظ على لفظة الموت فثمة حزن كربلائي ساهم كاستجلاء تاريخي معاد ليمحو البلاد ويبدو لي أيضاً أن العراق منذ الحجاج اعتاد على جلدٍ وقتل ونفي لتمتد الحكاية حتى وقتنا الراهن الواهن . يبدو اننا سنبكي بحسرة ، لضياع العراق، تتجاوز حسرة جلجامش على أنكيدو .

سأبدأ بالتركيز على سمة مميزة في نص الحطاب، التي تُبرزها قصة موتنا اليومي .. إنها قصة خبر يومي، أصبح مألوفاً ،نقرأه في الجريدة أو نشاهده على الشاشة .. انفجار .. إصابة عدد .. قتل مئات .. جرح عشرات  الخ، هذه الأمور من كثرة تواترها وسماعنا لها أصبحت لازمة لا تثير دهشتنا ولا تستوقفنا .. تحدث هنا وهناك وتكاد تكون في كل مكان . يقوم الشاعر باسترجاع هذا الهول وتقديمه بكل أبعاده للمتلقي لتوقظ فيه إحساسه بالكارثة، وعلى الرغم من بشاعة هذا الموت الذي يذهب ضحيته البسطاء والبوساء والأبرياء والذي يصوره شاعرنا في نصه قائلاً : ( الا يشكل موتنا اهانة لعزرائيل ) يبقى في هذا العالم اللاإنساني خيطٌ إنساني .. شعاع أمل .. إحساس مضنٍ بالفداحة فبعد أن عودتنا الصحف اليومية والقنوات الفضائية وتقنيات الأعلام رخص قيمة الإنسان يستعيد لنا الشاعر قيمة هذا الإنسان ويصور لنا فجيعة ما حدث ويحدث بشكل يومي .. لنقرأ هذا المقطع الذي يحمل التسلسل الحرفي (ر) :

حين يمرون

سنعرض على الشوارع

خدمات ذعرنا

لا ترفعوا صور الاطفال أمام الكاميرات

والالبومات ليست قرآئين

والمارينز ليسوا جنود علي

ثمة مفارقة مكتومة نجدها في المقطع الذي منحه حسب تسلسل النص حرف (الالف) وهو الحرف الثالث المكون لكلمة عراق فقد تعمد الشاعر رصد هذه الحروف وترتيبها وترك جانب التعليق والاستدلال للقارىء فهذا البلد التعيس تغمره التناقضات والهواجس المريبة والصراعات والالوان والتماثيل والنُصب الجديدة مثلما كان بالأمس لذلك بقيت الأشياء ملتبسة والمجتمع يفيض ويفور بالموت والدم ويمكن قراءة هذا المقطع قراءة على الصعيد المجازي لا على الصعيد الحرفي فملامح المكان في الماضي توازي ملامح الحاضر ويمكن ـ في ذات الوقت ـ أن يُقرأ المكان باعتباره سياقاً جديداً، أو باعتباره صورة للحاضر إلا أن هذا المقطع لا يقرأ بوصفه أمثولة بل بوصفه حدثاً تقوم الكتابة الشعرية باستبطان أبعاده من منطلق إنساني ـ شعري، ولأن الشاعر لا يرى بعينيه حسب وإنما بعيون الحاضر فنظرته مسكونة دائماً بما يتعداه الحاضر إلى الماضي المنقوش بلغات قد تكون متشابهة وسنرى في السطر الأخير من هذا المقطع التقاطة إنسانية يجتمع فيها الفني بالغرائبي في نسيج شفاف ينم عن رهافة أسلوبية وصفاء نادر وقدرة على التصوير لدى شاعرنا الحطاب لنقرأ :

تبدلت نصب الابطال

بنصب ابطال جدد

وتغيرت أسماء الاماكن

فالقادمون

وصموا الصخور بالهجرة

ومنحوا الريش اقامة الهواء

ليست الكتابة الشعرية عند الحطاب إلا لحظة هي الدافع إلى البحث عن تؤام تتقاسم معها ألغاز الموت وتنخرط إلى جانبها في مغامرت الأسئلة مغامرات شتى ففي المقطع الأخير الذي يحمل الحرف (ق) لحظات شعرية حميمة جداً تشبه الشرارة الاولى التي تبعث اللهيب بالنص وسرعان ما تحترق الكلمات، ولكن أحتراقها هو استمرار حلما محققاً في الموت الذي أشعلها فتقمص الموت في هذا المقطع على نحو غير مرئي،مخادع وعام هو في ذات الوقت انعكاس لحالة التمزق الشاملة في هذا المناخ الاستثنائي الذي يحمل لوثة الموت التي لا يغسلها انتماء إلى أرض،دين،لغة وتاريخ ولأن الاطار الشعري في هذا النص هو إطار حقيقي أكثر حدّة واستغراقاً بالصورة التي يتمنّاها، من اجل ان تنجح الصورة الأكثر اقتراباً من روح الواقع المميت لذلك نراه ،من الناحية الثانية، وهو يؤطر صور الحيوانات كالسلحفاة،الكنغر،القنفذ والافعى بطريقة لا تخرج نوعياً عن صورتها المتكررة في الحياة العامة ولكن كل واحدة من هذه الحيوانات تسعى لأن تكون نموذجاً متميزاً للاطمئنان رغم هذا المناخ العابق بالموت والقتل وهذا لا يعني على الإطلاق ولا بصورة من الصور، أن الأحداث والأشخاص في النص هي أحداث وأشخاص من الحاضر أتخذت أسماء أخرى وزمناً آخر، ليس هذا معنى الدلالة في النص إنه التناغم الرمزي الذي يقوم على حالات ومناخات وميول وخصائص عامة تتصاعد مع تفاصيل الواقع أو لنقل .. توظيف رمزي لقطعة من الحاضر جرى التلاعب فيها من قبل الشاعر بمنتهى الدقة والتوصيف لكي تخدم فكرة جوهرية هي العمود الفقري للنص : عجز الحياة عن كسر واقع الموت، لنقرأ :

اطمئن إلى السلحفاة

فليس تحت حدبتها، مفخخة

اطمئن إلى الكنغر

فليس في جيبه، عبوة

اطمئن إلى القنفذ

فليس تحت اشواكه، حزاماً ناسفاً

اطمئن إلى الأفعى

وأخاف من الإنسان؟!!

ثمة تساؤل يطرحه الشاعر يُذكرنا بأن الكارثة التي أصابت نوح لم تكن سوى جملة واحدة : لن تجدوا في اليابسة إلا موتكم !! ولكن ( ما من يابسة ) على حد تعبير جواد، فهل هي الخيبة الدائمة المتكررة لشاعر مشبع بحلم إنساني مذبوح، من ان يجد فسحة / يابسة ظل لبلده الممزق فلا زمان قديم جديد ليفهمه، ولا أرض أخرى تتسع لجناحيه ؟ وهل هذه الخيبة جواب الماضي المتكرر على سؤال الحاضر المتعاقب فقد كان بمقدور الشاعر إيجاد اليابسة ـ عن طريق الشعر ـ لكنه في لمحة خاطفة لا مبرر لها آثر الاخرون ( الجبليون ) على قتل الحمامات .. أهو الاقتصاص الضمني لهذه الحروف ع ـ ر ا ق ؟ يبدو لنا أن نداء الشاعر وكأنه محاولة يائسة  للتخلص من الموت الذي يطاردنا في كل مكان وزمان.. لنقرا :

يا نوح

ما من يابسة

تعاقب (أولادك الجبليون)

على صيد الحمامات

أخيراً يحيل الشاعر أختزال الوقائع إلى جواهر مكتملة على شعرية واضحة، غير ان تقرّي الاحداث ـ في النص ـ يستدعي منا تصوراً خرافياً لما يجري هناك ومع ذلك يكتب جواد عن العراق الذي يسكنه بمعنى إنه يكتب عن بلاد صاغت روحه وصاغتها كلماته ووفقاً لهذه الصياغة يعيش العراق الذي يعيش فيه ويعرفه لا من خلال الشعروحسب بل غبطة الشاعر التي تحول الوقائع المميتة إلى صور للامل وقد يكون للبلاد صور أخرى متعددة ينسجها الشاعر من نثار الحكايات ويبنيها بتحريض قوامه الحياة ويكتبها في بعض الأحيان نصاً باذخ الجمال وحياة هانئة يتوق إليها الإنسان طويلاً ولا يلتقي بها لا في الكوابيس ولا في حالات الموت وحصصه اللامنتهية التي قد لا تشكل اهانة لعزارئيل .. يا لحظنا مع الموت ويا لبؤسنا مع عزرائيل .. لنقرأ :

على صراط سياراتهم

يتراكض الاطفال

كالخرز الملون من دموع الأمهات

الا يشكل موتنا

اهانة لعزرائيل ؟؟

 

13ـ1ـ2007

شتوتغارت