Site hosted by Angelfire.com: Build your free website today!

مظفر النواب.. منجم عجيب

محمد مبارك

 

لقد فاجأ مظفر النواب، أواخر الخمسينات، أساطين الشعر الشعبي في العراق بأنماط لا عهد لهم بها في الصياغة الشعرية وأساليب لم تخطر على مخيلاتهم وحدوسهم وحساسياتهم الجمالية في تهيكل البنية الفنية للقصيدة.

فلأول مرة تقترب القصيدة في الشعر الشعبي، على يد مظفر النواب، رؤيا ذهنية-روحية مما انتهت اليه أفضل نماذج القصيدة في الشعر الفصيح، حتى انك لتتقرى مفردات بنية القصيدة الحديثة، كما ولدت في أرفع آثار السياب ونازك والبياتي وبلند الحيدري، في قصيدة النواب الشعبية، وبذلك أحدث النواب في مسيرة الشعر الشعبي في العراق الانعطافة ذاتها التي احدثها رواد الحداثة الشعرية في مسيرة الشعر العربي الفصيح.

فالنسق الدرامي-الروائي في البناء.. والرؤيا الموضوعية التي تحرر الشاعر من قيود انانية الحواس ولا بصيرى الجسد وترتفع بالغناء الى صعيد العرفان وسبر اغوار الروح متلبسة مفردات تشكل الحساسية الجمالية والنزعة الملحمية المتعالية في صياغة السرد حبكة وسياقا واستشرافا للمسارات وبناء النموذج الملحمي، أضحت على يد النواب المقوّم الأساس في عمارة القصيدة الشعبية والنسغ الحي في تهيكل بنيتها الفنية. ومن هنا استطاع النواب بجهده الابداعي وحده،ان يحرر القصيدة الشعبية، كما فعلت حركة الشعر العربي الحديث، مما استقرت عليه قرون التقليد الكسول والاستقرار الموات في مسيرة الشعر الشعبي في العراق.

لقد اطلق النواب العنان لمخيلات مبدعي هذا الشعر واذهانهم وحساسيتهم الجمالية وذائقتهم النقدية، لينتظموا مع رواد حركة الشعر العربي الحديث في الصحوة التي دشنتها المدينة العراقية المحاصرة بالريف وتخلفه ومواته الكسيح في اربعينيات هذا القرن وخمسينياته. وبذلك يقتحم النواب حصون التخلف والكساح في الريف ويكاد يهز ارضه بشآبيب رؤياه المدينية المعاصرة ليفيق ويربو عنصراً ثوريا حياً بالفعل في تشكيلة المجتمع العراقي المعاصر، لولا ان يدهمه التخلف بما لا قبل لهذه المدينية به، فيسد عليها فجاج الأرض ويحيد آثارها، لتعود انماط السقوط والتمسح بالأردان والتسول ومفارقة العصر فتهيمن على مسيرة الشعر الشعبي في عراقنا، وتطرد ما تمخضت عنه التجربة النوابية من نماذج حية للرؤيا الشعرية المتقدمة والكبرياء الانساني الفذ في الستينات والسبعينات، وتنفرد هي في سوح الكدية والتهريج في العقدين الاخيرين من هذا القرن. ولكن ما كان لمنطق التاريخ في يوم من الايام ان يسد كل الفجاج والآفاق على مسيرة الابداع والتطور الحي، لذلك ظل النواب قادرا ان يحيق بالموات والتخلف والكساح والجدب.. ويهز عروق الارض بشآبيب ابداعه لتربو وتتقدم بالمزيد من نماذج الابداع والتحدي الخلاق في مختلف ميادين الصراع بين التخلف ومواصلة مسيرة الابداع والبناء والصيرورة الحية في مختلف ميادين الخلق الفني والروحي.

من هنا، كانت قدرة النواب الابداعية على مد جسور اللقاء الروحي واستحداث المزيد والمزيد منها بينه وبين متلقي آثاره الشعرية في العراق، رغم هيمنة الريف المتخلف على كل مقدراته المادية والروحية وانفراده بصياغة مفردات حياته. ولئن كانت النظرة المتعجلة تضع النواب مع تشيلي، بخاصة في شعره الفصيح الذي انتقل اليه بعدما حوصرت رؤياه المدينية بانماط التخلف والجدب التي كان يفرزها الريف، فان استقراء وقراءة التفحص لآثاره الفصيحة والشعبية تضعه مع بيتس طاقة غير معتادة في الاسطرة وخلق الرموز والبنى الاستعارية في صياغة القصيدة الشعرية. انه منجم عجيب للبنى الحلمية التي يفرزها شعور الروحي في الصياغة الشعرية. وهو في هذا يتحدث لنا من خلال الاسطورة والصور الشعرية وما يبدع من نماذج درامية-ملحمية حية، لا من خلال اللغة باعتبارها وسيلة تعبير وايصال. والحقيقة ان الاسطورة والحلم، بما ينطويان عليه من طاقات وحدوس روحية-شعرية، ظلا هما وسيلة الشاعر مظفر النواب لاعادة توازن قواه الابداعية وضبط ايقاع اعماقه الروحية واستكشاف ما يضطرب به الواقع الموضوعي من ارهاصات التحول وممكنات الصيرورة الى الافضل. من هنا كانت قراءته الذكية للحاضر ونبوءاته الصادقة لما يجري حوله واستشرافه للمستقبل، وكأنه في ذلك يقرأ ما سيأتي به الغد على صفحة خطها قاعد كالجواهر، وهو في هذه القراءة يتقدم، في فصيحه وشعبيه، الكثيرين من أساطين الحرف العربي في شعرنا المعاصر عربيا وعراقيا.

وبهذه القدرة الفذة على الاسطرة وانتزاع الاعماق الحلمية من غياهبها البعيدة ومجاهيلها اللاشعورية، يظل النواب قادرا على اختزال المسافات بينه وبين متلقيه.

بل انه الاقدر الآن على تشكيل متلقيه ذهنا وخيالا.. رؤية ورؤيا.. حدوسا واحاسيس بآثاره القديمة والحديثة. ولئن وفق الريف المتخلف الى محاصرة رؤياه المدينية المتقدمة.. ويضع السدود والحواجز دونها ليحيد الكثير من آثارها، فما وفق الى وقف اغراءاتها الذهن والخيال في عموم الوطن العربي، وليس في العراق وحده، بمتابعته والتآلف معه والاصطفاف مع حدوسه الشعرية واستشرافاته الباطنية المشرقة.

وهكذا ظلت المدينة، ليس في عراقنا وحسب، وانما في عموم الوطن المبتلى، رغم ما احاقه بها الريف من طوفانات التخلف والكساح والسقوط الروحي والخواء، مع مظفر النواب حساسية شعرية وذائقة نقدية ورؤيا ذهنية وأحلام بالتقدم والصيرورة الى الأفضل. ولك أن تقدر من يشمل هذا التخمين من أبناء هذه المدينة. انهم، قطعا، خيرة مثقفي العراق وادبائه ومفكريه وفنانيه والطليعة من مبدعيه في جميع ميادين الخلق والعطاء. حتى ليصعب ان تجد من لا يرى في صوت النواب صوته وفي هاجسه هاجسه واحلامه احلامه. ان النواب بما أبدع وغنى.. ويبدع ويغني، كمن يكاد يكون قدرا روحيا شائعا في بنية الذهن والخيال العراقيين. ولعله في ذلك اشبه بشيخه الجواهري الكبير الذي يكاد يكون انبه هذه الارض حدوسا شعرية وقراءات ذهنية امتدادا لجوهره الروحي. اذ امتداده الروحي هذا هو ما تضم ارض العراق من بشر راقين في حدوسهم ووعيهم.

ان النواب ظاهرة كبيرة في الشعر.. شعبيه وفصيحه، ليس في العراق وحسب، انما في عموم خارطة الروح والذهن والحساسية الجمالية والذائقة النقدية في طول الوطن العربي وعرضه، ولعله الشاعر الوحيد الذي استطاع ان يحتل هذا الموقع بين شعراء العراق، اذا استثنينا الجواهري الكبير وقباني في سوريا. ولا اظن شوقي وفق توفيقه في فصيحه وشعبيه. انه استثناء كالجواهري في مسيرة الابداع العربي في هذا العصر.

 

. المصدر:

جريدة الزمان، لندن - العدد 626 - 20/5/2000.