Site hosted by Angelfire.com: Build your free website today!

البيئة العراقية في شعر مظفر النواب...

د. محمد البندر

 

لعل من الخصائص المميزة للحركة الشعرية العراقية المعاصرة هو غزارة الانتج الشعري المكتوب بالدارجة والذي اصبح من الظواهر الراسخة والمقبولة ثقافياً . ومن بين اسباب نجاح القصيدة الشعبية وجماهيريتها هو استخدامها لمتطلبات التعبير والبناء المكتوبين بالفصحى ، وهي بذلك تحقق نوع من التفاعل التكنيكي والجمالي مابين مفردات وصور البيئة الشعبية وما بين اساليب كتابة الشعر الحديث ، حيث يبقى الهدف من ذلك هو اعطاء القصيدة بعدها الحقيقي واغناء قوامها بالايقاعات الضرورية :

 

عودتني

انتظر

وارسم عله الايام موعد

كتلي .. من يعتك جرح ..جرحين

يتلاكه وجعها وعودتني ..

عودتني

اترك إبيتك بطاقة عيد وموعد

واكتب أببابك اذا مسافر

جلمتين

ولكيتك سافرت من غير رجعة

وعودتني .

 

من قصيدة "عودتني"

 

**********

 

وينبغي التذكير بحقيقة مهمة وهي ان الشعر الشعبي الفتي رغم انجازاته لم يحرز قصب السبق في احتكار تمثيل  البيئة الشعبية ، فشعر الفصحى الحديث لم يبخس هذه الناحية حقها . فسعدي يوسف هو ابرز من عكس البيئة الشعبية في الشعر العراقي المعاصر ، حيث كان يلجأ في العديد من الحالات الى تطعيم قصائده بالمفردات الشعبية وبلقطات من الفلكور الشعبي التي كانت تزيد من تماسك القصيدة الداخلي وتضاعف من وثوقها بنفسها وتعبيرها عن واقعها في بيئة مدينة البصرة وفولكلورها الشعبي .

واذا كان سعدي يوسف قد نجح في التوليف والممازجة بين بين الفلكور والتراث الشعبي ومابين الشعر الحديث فان الشاعر مظفر النواب احتل مكان الصدارة في ابراز الحياة الشعبية والريفية منها خصوصاً .

لقد واكب مظفر الانطلاقة الواثقة لهذا النوع من الشعر منذ الخمسينات ،وساهم بشكل كبير في تطويره واغنائه ، وتكوين مدرسته الشعرية الخاصة التي لقيت شعبية واسعة . ومن الدلائل البارزة على هذه الشعبية ان مظفر النواب كان احد اولئك الشعراء القلائل الذي اشتهروا على نطاق واسع قبل ان يصدر لهم ديوان شعري مطبوع . فقد كانت قصائده المعروفة كسعود والريل وحمد ، حسن الشموس ، البراءة ، وغيرها تتناقلها الايدي وتستنسخ بكثرة في اوساط المحبين لهذا لشعر ، كما ان تلحين بعض هذه القصائد قد ساعد على انتشارها اكثر .

وفي مسيرة النواب الشعرية التي تنوف على الاربعة عقود من الزمن نستطيع ان نميز بين اتجاهين  فيها :

الاتجاه الاول ، ويشمل المرحلة المبكرة من حياة مظفر حيث كانت قصائده آنذاك تعكس بيئة بغداد الشعبية ، وازقتها القديمة ، وفي الكاظمية ، زمن العكود وبيوتها المتلاصقة ، وحياتهاالشعبية المتآلفة ، السطوح والمحجر ، وهديل الحمام هذه البيئة التي كادت تختفي بسبب عمران بغداد المصطنع . وبما ان اية قصيدة شعرية تمثل وتعبر عن روح الشاعر وبين الهدف الذي تتوجه اليه فان ارق المشاعر واعنفها عند مظفر هي مشاعر الحنين الطفولي للوطن ، للمحلة ، لتلك المرحلة الغضة من حياته ، مرحلة بواكير الصبا

امس يغنيدة يا حلوة الحلوات

صار العمر طوفة طين

وغفينه ولكينه الدري والسُماك وقمر الدين

نتختل وره النسوان والشياب

وندك المحلة الحلوة باب بباب

 

ان هذا الحنين المتدفق يجد نفسه في انعاش الذاكرة الطفولية ، ومعايشة تلك اللحظات واستذكارها وكأنها تمرق الآن امام ناظريه ، وتشاركه رفيقة الصبا مغامراته الطفولية البريئة كشقيين صغيرين يقرعان ابواب المحلة ويهربان متخفيين وراء الشيوخ وعباءات النساء .

ان طفولة مظفر ليست طفولة ذاتية (مظفرية) بل انها تلك الفترة التاريخية الواقعة بين الاربعينات والخمسينات من عمر المجتمع العراقي ، تلك الفترة الذهبية من القيم المشتركة التي يدين بها العراقيون جميعهم ، تلك المرحلة الكلاسيكية التي كانت فيها القيم الوطنية العراقية التي تتسامى على قيم الانتماء السياسي والطائفي . وعليه فان التغني بهذه الطفولة يخرج عن اطاره الذاتي الضيق ليصبح مناشدة (نوستالجية) لتلك القيم والمثل التي اصبحت حلماً في الذاكرة او معروضات في متاحف السياسة !

ان الحنين المتوقد الى دنيا الطفولة وعالم البراءة المنسي في الماضي يلهم في مظفر روح التغزل في الامس ، ومناشدة عودته بحرارة ، و من خلال التغيير ، وانتظار هذا التغير بلا كلل ، والذي يمثله مظفر بتلك الحبيبة التي مازالت تنتظر حبيبها الغائب رغم مرور السنين ..صبية على الدوام ، رغم تعاقب البرد والشتاء ، ودفء نيسان وقيظ الصيف :

 

ياما سفحتلك بالليالي دموع

جانت ترفة

وياما الدمع ضوه سواد العين

وعينك صلفة

وتدري تنيت الدفو

بلهفة وردة

وماجيت

ونيمني الثلج

والشتا كله اتعده

لابالمحطه رف ضوه

لاخط اجانه من البعد

لاريل مر على السده

 

ويستمر الانتظار طويلاً ، مليئاً بالامل والتطلع ، ولكن حكم الزمن يترك اثره الذي لايمحى

 

والزلف هجرك فضضه

ورد فضضه

ومامش رجه

ورغم ذلك فلايزال بريق الامل يشع لهذه اللحظة ، وينتفض مع كل همسة ، وكل نسمة ..

 

ولساع

من همسة تجي من بعيد

يخضر الضلع

كل نسمة  ترفه

من تفك الباب

يخنكني الدمع

 

اما الاتجاه الثاني والمكمل في مسيرة الابداع الشعري عند مظفر فيتمثل في تغلغله وفهمه للحياة الشعبية الريفية العراقية . ولعل اقامته في ارياف العمارة قد ساعدته على التقرب اكثر من دقائق الحياة الريفية وهموم الفلاحين وتطلعاتهم . وقد صبغ هذا الاتجاه لاحقاً على شعره عموماً ، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال قصائده المعروفة كسفن غيلان ازيريج ، عشاير سعود ، وللريل وحمد وهي اشهر  قصائده على الاطلاق .

لقد اصبح الريف العراقي وفلاحيه بالنسبة لمظفر النواب المادة الرئيسية للحركة السياسية في البلاد ومصدر قوتها ، وذلك لدورهم المحسوس في تاريخ العراق ، حيث ثاروا غير مرة ضد الغزاة الاجانب ، وضد الاقطاعيين والحكومات المحلية . واستخدم مظفر قيم الفلاح في الشهامة والشجاعة والمروءة والنخوة واغاثة المستجير ووظفها بشكل يخرجها عن طابعها العشائري الضيق ويعطيها نكهة سياسية واضحة للعيان

 

احنا يسعود عيب نهاب يابيرغ الشرجية

هذي ايشامغ الثوار تبرج نار حربية

 

هذوله احنا

نحد السيوف

يركاب الصكر والذيب

هذوله احنه سرجنه الدم

عله صهيل الشكر  ياسعود

خلينه زهر النجوم

من جدح الحوافر سود

 

ولاتنفصل البندقية عن شخصية الفلاح العراقي ، فهي حبيبته ووسيلة وجوده ودفاعه عن نفسه ، ولم يخف ذلك على الشاعر ، فقد رأى النواب في طبقة الفلاحين المسلحين والمنظوين تحت رايات عشائرهم الشكل التاريخي المجرب من اشكال التنظيم الاجنماعي السياسي والعسكري والقوة الضاربة الرئيسية المعول عليها في احداث التغير السياسي المنشود ، من خلال المنطق بان البندقية توجه وتقود التغير الاجتماع الممطلوب في المدينة التي اصيبت قوى التغيير فيها بالضعف والعجز .

 

النواب والمرأة

تلعب المرأة العراقية ، هذه المخلوقة البسيطة ، المتلفعة بالعباءة السوداء دوراً محورياً في جميع قصائد مظفر المعروفة ، معطياً اياها دوراً اكثر ثقلاً ومحسوسية من تلك المنزلة المتدنية التي يورثها الواقع الاجنماعي المتخلف ، بل يذهب النواب الى ابعد من ذلك فيبرز الام او او الاخت في موقع القوة عندما تخور عزائم الرجال المناضلين ، حين تشحذ هممهم ، وتحرك بقوتها البسيطة كوامن البطولة والمواجهة فيهم ، تلك القوة النابعة من الايمان ليس بالعقيدة السياسية بل من روح الاخوة او الامومة التي يبرزها مظفر كمعادل كقوي للايمان السياسي .

كانت المرأة العراقية تقطع المسافات البعيدة ، من اعماق الريف الى سجون المدينة أو الى معتقلات الصحراء النائية بدون تذمر حاملة لابنها او لاخيها السجين السياسي الاخبار والبريد ، غير عابئة بما تلقاه من مشقات بالغة ، ومن اذلال على يد حراس السجن ، تتحمله بدافع الاخوة او الامومة الحقة ، من اجل امداد السجين بموارد القوة المعنوية لشد عزائمه حتى لاينهار او يتخاذل . وقد خلد النواب هذه المواقف بقصيدته المشهورة " ام واخت وبراءة " التي تحثان فيها السجين على الصمود وعدم اعطاء البراءة ، وفيها تشعرانه بان الدفاع عن المبدأ السياسي يعني الدفاع عن شرف امه واخته ، ويشعرانه بالخجل من نفسه فيما لو خامرته فكرة الانهيار ، حيث سيعرض اهله ونفسه لتقولات الناس واحكامهم الظالمة .

ويصور لنا النواب ذلك المشهد الدرامي المؤثر الذي يصور فيه حفنة من النسوة اللواتي تجمعن حول جثة الفلاح الثوري لشهيد "صاحب ملا خصاف " الذب اغتاله الاقطاعيون في وضح النهار لنشاطه التحريضي بين الفلاحين ، حيث كانت النسوة يبكينه ويندبنه بحرقة فيختلط الدمع بالكحلة ويخرج ممتزجاً بها ..

 

ميلن لاتنكطن كحل

فوق الدم

ميلن

وردة الخزامة تنكط دم

 

ولاتكتفي النساء بالبكاء تعاطفاً مع الشهيد صاحب ، بل يمضين ابعد من ذلك حيث يتصدين لشماتة الاقطاعيين ومتوعدات بالثأر :

 

حاه

شوسع جرحك !

مايسده الثار

يصويحب

وحك الدم

ودمك حار

من بعدك

مناجل غيظ إيحصدن ثار

لاتفرح ابدمنه لايلكطاعي  

صويحب من بموت المنجل يداعي

 

وقفة مع مظفر

كانت مسيرة مظفر الشعرية امتداداً لتجربته وانتمائه السياسي ، ولذلك فقد حمّل شخوص قصائده هموم جيله وحزبه . من هذا المنطلق فان العديد من المواقف الانسانية الواردة في  مضمون القصائد تحمل سياقاً رمزياً يمكن ان يعبر عن اكثر من معنى :

 

عمر وتعدى الثلاثين

لا   يا .فلان

 

هنا  يعبر النواب عن الاسف والحسرة في تبدد السنين ، ومفارقة اجمل عقود العمر ، ويمكن لهذا البيت ان يحمل في طياته ايضاً العتاب المر لتجربة الحزب الشيوعي الذي ينتمي اليه النواب واخفاقه بعد ثلاثين عاماً من تأسيسه بدون ان يصل الى اهدافه . وفي قصائد اخرى يستمد النواب من الطبيعة العراقية مثلاً من  النخلة المعمرة العقيم التي لاتثمر  ليربط بينها وبين اخفاق الحزب فيقول :

 

ولك يافلان

كل الناس صاروا كرب حتى يصير تمرك

ماصار

كل الناس  صاروا كرب حتى يصير تمرك

مادروا بالعثك دودة عثك

 

ومثلما يرى الفلاح الحاذق سبب عقم نخلته ينظر النواب الى " عقم " حزبه بعين الثوري الواعي حين يرى بان نخلتة تخرها الديدان من الداخل . غير ان هذا التشخيص والنقد لاينبعث شماتةً وتهكماً بل يأتي من قبيل العتاب البرئ الملئ بالمرارة والالم ، ويبقى ضمن حدود الاستمرارية ..

 

عشرين وما مندوم وماندمان

عشرين غسل ولبس

عشرين الهن حوبة

يامضيع الناس والحوبات ..وبطرك الخزر

 

ولابد للشاعر المنتمي ان يتطلع الى تحقيق امنيته السياسية الكبرى في رؤية ولادة المرحلة القادمة الواعدة بالتغيير ، وان الاستعادة الرومانسية لصورة هذه المرحلة تجري عبر استشفاف مظفر لافق المستقبل البعيد الذي ترسم ملامحه وقسماته النظرية السياسية ، هذه المرحلة التي لايمكن ان تأتي او تحدث من الفراغ ، بل من خلال الجهد الواعي للتغيير الذي يسعى اليه الشاعر المسيس ليس لكونه كتلة ثقافية مستقلة في الحزب بل كمفردة تنظيمية فيه .

لقد عبر النواب عن  الطموح والحماس في العقيدة السياسية التي آمن بها الثوريون وعكسها اكثر من غيره في شعره ، حيث جعل من الحقيقة المستقبلية البعيدة المنال والهدف السياسي النهائي الذي يحضر حضوراً ابدياً في الذاكرة الخصبة ، ولذلك فقد كان صوت النواب مهماً كأداة للتعبئة السياسية والوجدانية للتنظيم السياسي . غير ان المكانة التي احتلها النواب في حياة الحزب كانت عفوية ، اذ لم تسمح تقاليد الحزب الا للرؤوس من القادة لان تظهر . وبعد حدوث الاخفاق ، وبعد ان اصبح الحزب يعيش جو الهزيمة الدائم ، تضاعفت مكانة مظفر ، وكف الشاعر ان يكون شاهد زور صامت على المحنة ، وبدأ شعره يمثل صوت الاحتجاج المكبوت للجمهور المنتمي للحزب والذي كان يرى التجربة العظيمة وهي تذوى وتُطعن من الخلف .

لقد كان النواب واعياً لتجربته السياسية ومستوعباً لاساسها النظري والتنظيمي ، ولم يمارس السياسة هواية ، وقضى سنيناً عديدة في المنافي والسجون ، وشارك لاكثر من عقدين من الزمن في التغييرات والانقسامات التي حدثت داخل الحزب الشيوعي . والمتتبع لنشاط النواب وتطور فكره السياسي يلاحظ مدى انسجام الشاعر مع الفكرة السياسية واداتها التنظيمية ، غير ان تحرر الشاعر لاحقاً من هذه الاداة لم يعني الخروج عن الفكرة التي بقت تسمو فوق الاداة ، وعدا ذلك فان الوطن يقف فوق الفكرة ومافوق الفكرة .

لم يستطع النواب المناضل الحزبي ان يفرض نفسه كحقيقة ثقافية متميزة لها وجودها المستقل في التنظيم الحزبي ، وحين تم له ذلك على الضد من ارادة التقاليد الحزبية واجه مظفر حقيقة لامفر منها وهي خروجه من الحزب ، لكنه على العكس من السياب الذي خرج على الاثنين معاً بقى مستمراً في انشاده لفكرة الثورة الخالصة كشئ كلي القدرة  يعلو فوق الاطار السياسي المتغضن ويتخطاه جذرياً .

لم يكن النواب في جميع هذه المراحل نرجسياً يبحث عن نفسه وعن ذاته في الابداع الشعري ، فالشخوص الواردة في قصائده ماهي الا ظلال شخصية للقوى المحركة في وجدانه : فالمرأة هي رمز للحزب والوطن ، وصور الشهداء صاحب ملا خصاف ، وسعود ، وحجام البريس ، وحسن الشموس ، وصلاح وغيرهم  تجسيد لحالة ضحايا الاختيار السياسي الهاجس والمحرك الاقوى في التجربة الشعرية للنواب .

 

كلمة ليست اخيرة

ان افضل شهادة لشعبية النواب هو ان اشعاره التي لم تفقد نكهتها للآن ، ومازال الايدي تتناولها وتتلذذ بها بشغف . فالتغني بالوطن والارتباط بالارض هي من مقومات هوية العراقي وثقافته الروحية . ولاشك فان اسلوب مظفر في الهجاء السياسي وتحوله الى الكتابة بالفصحى قد ضاعف كثيراً من شعبيته في العالم العربي ، غير ان ذلك لايمكن اعتباره امتداداً لتجربته الاصلية التي توقفت للاسف عند " للريل وحمد" وانتاجه الآخر الكبير الذي بقى هو الآخر مبعثراً ومهدداً بالضياع .

ان اهمية التجربة الشعرية لمظفر تكمن في انها تمكنت من احداث الطفرة في الشعر الشعبي العراقي ،  وخلق  مكانة خاصة للبيئة الشعبية العراقية من خلال رمزية مفهومة ضمن اطار الحركة الشعرية العراقية عموماً حيث لم تكن هذه البيئة مفردة من مفردات الابداع الشعري بل هدف نهائي له .

 

. نشرت المقالة في مجلة "الجيل" في العدد الثالث لسنة 1992 مع بعض التغييرات .

.  المصدر: موقع مظفر النواب: http://www.geocities.com/elnaob