Site hosted by Angelfire.com: Build your free website today!

مظفر النواب.. شاعرية أصيلة

بقلم الأديب الصحفي: هاني الخيِّر

 

الشاعر العربي الكبير مظفر النواب -وهو من مواليد بغداد جانب الكرخ عام 1934- حالة شعرية متميزة واستثنائية في خارطة الشعر العربي المعاصر، له تفرده، وطلقاته الشعرية النافذة، بل وصراخه الحاد المتوتر في وجه الأشرار وأصحاب الضمائر الميتة الذين باعوا أرواحهم للشيطان الرجيم، لقاء مكاسب آنية هزيلة، لذلك فالمقطع الشعري عنده، يتحول الى سكاكين حادة، تمزق الأقنعة وتكشف الزيف أينما وجد...

ومن هنا يستطيع القارئ -وإن يكن لبيباً أو حصيفاً- أن يميز شعر مظفر النواب، ويتعرف عليه من خلال آلاف الأصوات والقصائد الشعرية، التي تطل علينا هنا وهناك...

ولا غرابة في ذلك.. فإن شاعرنا الموهوب، امتلك ناصية اللغة وراح يعمل تشكيلاً ونحتاً بالمفردات والمعاني العميقة، فتواردت الصور الشعرية المبتكرة الى ذهنة، الذي يحمل هموم وطموحات أمته العربية، فكان الناطق الجريء، باسم البسطاء.. باسم المقهورين.. والمعذبين.. والمطاردين في المطارات، والموانئ الجبلية، وكان أيضاً الرائد الأمين.. ولسان حال السجناء (سجناء الضمير) في معتقلاتهم الموحشة السيئة السمعة، وصديق المرضى في غرف العناية المشددة، حيث الوقار والصمت، وترقب ملاك الموت الطاهر.

نعم إن الشعب العربي يقرأ بأذنيه -كما قال لي الشاعر الأستاذ نزار قباني- وهذا يعني أن الأمية ما تزال سائدة في حياتنا العربية.. أي أن هناك شريحة واسعة من المواطنين العرب السعداء، لا تعرف القراءة والكتابة!! فكيف يصل الشاعر إليهم؟ من أجل إيقاظ ضمائرهم وأحاسيسهم الوطنية ومشاعرهم القومية الحبيسة، لا على المستوى الفردي العابر بل على المستوى الجماعي؟

و"ربّ رمية من غير رام" -كما يقول المثل العربي القديم- لذلك فإن ملايين العرب.. من رأس الخيمة، حتى رأس الناقورة في لبنان، مروراً بوهران، وانتهاء بالرياض في المملكة العربية السعودية، راحوا يتداولون شرائط الكاسيت التي تحمل قصائد مظفر النواب ويستمعون إليها في سهراتهم ومجالسهم الخاصة، بشغف واهتمام، ثم يخفونها في مكان أمين خشية أن تقع في أيدي الغرباء..

وهكذا استطاع النواب أن يصل بشعره الى الجمهور (المتلقي) سواء أكان يجيد القراءة أم كان أمياً!!

يتجلى في شعره حب الاستغراق في المعاني، والتحليق بالأخيلة، والتأنق الموسيقي في الألفاظ، كل ذلك يصدر عن شاعرية أصيلة، نهلت من القرآن الكريم، ومن روائع كتب التراث العربي، وعيون الشعر العربي الخالد.

وهو في سلوكه الحياتي، مثالاً لعزة النفس وشرفها، لم يقبل من أحد صلة مالية، ولا جائزة معنوية، وابتعد عن السقوط في فخ العسل، فخ المديح الإنشائي...

وبكلمات قليلة.. لعله أعمق الشعراء العرب المعاصرين إحساساً، بالغربة والضياع، والنفي والتشرد والمطاردة. لا يعرف الاستقرار في مكان.. ينتقل من بلد الى آخر، ودمه على كفه -على حد تعبير الدكتورة حميدة نعنع- ويظل مرتاباً من كل ما يدور حوله، حتى تتأكد له الصورة التي يجليها ببصيرته النافذة المتوترة.

 

.  المصدر:

كتاب "مظفر النواب شاعر المعارضة السياسية"

المؤلفان: عبدالقادر الحصني وهاني الخيِّر

دار المنارة-دمشق

الطبعة الأولى 1994م