Site hosted by Angelfire.com: Build your free website today!

أصحيح يا مظفر؟
رشاد ابو شاور

ما زلت أحفظ مدخل تلك القصيدة الجميلة التي كتهبا الشاعر العراقي الكردي الراحل بلند الحيدري، أحد مجدّدي القصيدة العربية مع السياب والبياتي ونازك وأدونيس وحاوي، والتي خاطب فيها صديقه مظفر النوّاب:
أصحيح يا مظفر
أن غصناً دفنته الريح في الصحراء
رغم الريح أخضر؟
كان هذا قبل أربعين سنة ربما، ومع ذلك فالذاكرة تحفظ هذا الشعر البسيط والجميل.
من قبل لم أكن قد قرأت كثيراً لمظفر، وهو بالنسبة لكثير من قرّاء الشعر ومحبيه لم يكن أكثر من شاعر شعبي عراقي، ذاعت شهرة قصيدته (البراءة)، وردّدها كثيرون مقلدين طريقته المسرحية الأخاذة في الإنشاد الحزين والغاضب والمتوعد والمحرّض.
مرحلة مظفر العراقية المحلية مهدّت لمرحلة انتشاره العربية فيما بعد، والتي طبقّت شهرته فيها الآفاق مع صعود المقاومة الفلسطينية، واندفاع ألوف المناضلين العرب بعد هزيمة حزيران 67، وانخراطهم في صفوف فصائل المقاومة الفلسطينية.
لم يرتبط شعر مظفر الشعبي والفصيح بالحرب الباردة، ولكنه ولد في مناخ تلمس القوي السياسية العربية لسبل الخلاص، وبناء أوطان حرّة سعيدة (وطن حر وشعب سعيد) ! ولذا لم يأفل شعر مظفر مع انهيار الاتحاد السوفييتي، وانتهاء مرحلة الحرب الباردة، وإن وهنت وسائط التقاط قصائده، وانحسرت أشرطة أمسياته التي طالما حلق الثوريون العرب الغاضبون حول أجهزة التسجيل لسماعها، ومرافقة الشاعر ترديداً لمقاطع ساطعة الغضب، وكأنما هم في حلقات وجد صوفي، مع الفارق في الأهداف، والنوايا.
هبوب رياح (السلام) علي بلاد العرب، مع أوسلو ووادي عربة، والنعم الموعودة التي داعبت معد الملايين الجائعة لكل شيء، جذبت تلك الملايين إلي وعودها المطمئنة، ولكن هذا لم يدم طويلاً، ولذا رأينا كيف عاد صوت مظفر النوّاب مع تفجر انتفاضة فلسطين الثانية (انتفاضة الأقصي) ـ انتفاضة الشعب الفلسطيني علي الأوهام، والتضليل، وسياسة النهب (الإسرائيلية)، وعلي الثقافة السياسية التضليلية التي سادت طيلة سبع سنوات.
عرفت مظفر منذ سنوات بعيدة، لا أعرف بالضبط متي بدأت. التقيت كثيراً بمظفر، ونشأت بيننا مودّة أعتز بها، وأعجبت بشعره الفصيح، بما فيه من رقّة، وحزن، وغضب، وتحريض، وغنائية، وهجاء، وحرصت علي حضور ما تيسر من أماسيه العجيبة التي كان يتدفق لحضورها ألوف العرب، سواء في دمشق، أو بيروت، أو طرابلس ليبيا. ومثل غيري حرصت علي اقتناء وسماع أشرطته، وهو برأيي أحد أعظم ملقي الشعر، وبطريقة مسرحية تشد الجمهور، وتفعل في (نفسه) بعد أن (توّحده)...
مرّة في دمشق حضر معد برامج من الإذاعة الفرنسية (الثقافية) ـ عرّفني به صديقنا الكاتب الدكتور محمود موعد ـ فأبدي ذهوله وهو يري تدفق ألوف المواطنين لسماع شاعر، والجلوس لساعات مستزيدين شاعرهم مظفر، منفعلين متفاعلين، وقد علّق: هذا لا يحدث في أي مكان من العالم !
مظفر لا ينفّس غضب الناس، ولكنه يؤطّره، يعمّقه بالوعي ـ فشعره يوّعي الناس ـ وهو يبصّرهم بأحوال حياتهم، ويشير بالتأكيد لأعدائهم الذين يسرقون حياتهم، ويشوهونها، ويدمّرون أوطانهم، ويغرّبونهم فيها. ومظفر لا يخلط الأمور، فهناك وضوح بفضل ما يتميز به من وعي، وبفضل ترفعه عن الصغائر، ولعمق وعيه السياسي والفكري، وأصالة تجربته.
عندما شنّت أمريكا وحلفاؤها العدوان الغاشم علي العراق، انحاز لوطنه العراق، ولم يشمت بسلطة هو نقيضها، ولم يستذكر السجن المر الذي عاناه، ولا الاضطهاد والملاحقة، وكان بهذا ينسجم مع شعره وكبر نفسه.
ومظفر متواضع، ودمث، وخجول ـ وهذا يبدو مستغرباً من شاعر ترد عبارات بذيئة فاقعة في قصائده، وهي بذيئة لأنها صفات أشخاص بعينهم، لا لأن الشاعر يتباذأ ـ ومع شهرته تراه يصغي لآراء الناس البسطاء، والسبب أنه منحاز لهم، ولقضاياهم.
قبل أيام التقيته في دمشق، في مأتم (أبوعلي مصطفي) بمخيم اليرموك، وقد لحظت أنه صار أميل للنحف، وفي وجهه شحوب وتعب، وفي صوته وهن. كان يجلس مع الجمهور، رافضاً (التصدر) مع القادة والمسؤولين، هذا الجمهور الذي كان يحيطه بعاطفة، وإعجاب، ومودة تغنيه عن كل أنواع (البروظة) والوجاهة الزائلة.
عرفت أنه أجريت له عملية إزالة (المرارة). وبصوته الواهن الذي لا يتناسب مع هديره علي المسرح، أو عبر التسجيلات، سألني عن والدي، وعندما لحظ تردّدي في الجواب، تمتم:
ـ يرحمه الله، إنسان مدهش، ما زلت أتذكّر لقائي به قبل سنوات !
وقبل سنوات، في دمشق وعندما وفد أبي لزيارتي قادماً من عمّان العاصمة الأردنية، اصطحبته لزيارة مظفر، وكان والدي يرتدي ملابسه الشعبية العربية التقليدية. كان مظفر يقيم بعد هجرات وتشرد في فندق الشام، وقد أدهشه أن والدي كان (شيوعياً)، وأدهشه أكثر أن هذا الرجل الذي يرتدي ملابس شعبية، وهو أمي، يحفظ الكثير من شعره، ثم ها هو ذا يتلو مقاطع من (البراءة) وتفيض عيناه بالدمع !
مظفر لم يعرف سبب الدموع في عيون أبي آنذاك !..أبي كان قد أجبر علي استنكار الحزب الشيوعي في منتصف الخمسينات، وقد بقي هذا الأمر جرحاً في حياته رافقه حتي رحيله عن دنيانا عام 94، لأنه رأي في (البراءة) مساً بليغاً بكبريائه...
قبل أيام كنت أتجول في مكتبات عمّان، فأدهشني توفر أكثر من طبعة لأعمال مظفر الشعرية الكاملة. سألت مستفسراً فأدهشني جواب صاحب إحدي المكتبات:
ـ مظفر لا يمانع بتزوير طبعات من أعماله، وهو صرّح بهذا في مقابلات أجريت معه، لأنه يهمه توصيل شعره للناس !
في دمشق، ونحن في مخيم اليرموك، سألت مظفّراً:
ـ أما آن الأوان لإصدار طبعة سليمة، خالية من الأخطاء، لائقة برحلة مظفر الشعرية، وبقرائه المحبين ؟
ولأول مرّة سمعته يبدي موافقته علي ضرورة إصدار طبعة بإشرافه لأعماله الشعرية الكاملة.
مظفر النوّاب، برأيي، شاعر كبير، لم يدرس جيداً، نقــــدياً وهو ليس شاعراً آني القصائد كما يتوهم بعض النقّــاد من هواة الغموض والتعمية، ولكنه عميق الثقــــافة، متبحر في التراث الديني والأدبي، وهو صاحب تجربة سياسيـــة شديدة الغني، وهو صاحب موهبـة جبّارة، ومظفر يعرف ما يريد وإلي أين يتوجه، وما هو هدفه ومع من يسير، ولا يمكن حجب حضوره بغربال التجاهل، فجمهوره يملأ بلاد العرب مشرقاً ومغرباً، وصوته من جديد عاد ليتدفق، فنبع موهبته وعطائه لا ينضب، وصوته أخضر أخضر، وليس لرياح السموم في صحراء العرب أن تدفن هذا الصوت الأخضر...

·        المصدر: صحيفة القدس العربي – لندن – 18/9/2001.

 

صفحة قصائد للشاعر مظفر النواب

https://www.angelfire.com/mn/modaffar