Site hosted by Angelfire.com: Build your free website today!

لا يشعر بأن الوقت يستدعي أسلوباً آخر، اللوحة ليست سوداء ولا تزال لدينا هوامش للحرية

مظفر النواب: أحب الإلقاء أمام الجمهور وهذا التواصل مع شاعر يخيف الحكام

 

برلين: غسان أبو حمد

 

التقى الشاعر مظفر النواب مجددا مع جمهوره في العاصمة الألمانية برلين. قدم بعض جديده الشعري، تغيرت الكلمات لكن أسلوب التوجه والصياغة بقي على حاله. مظفر النواب شاعر مكابر، معاند، يرفض الإذعان لواقعية الزمن الجديد. هنا بعض جديده، شعراء ومواقف، في دردشة سريعة مع الزميل غسان أبو حمد في برلين:

 

.المناضلون رموا سلاحهم او هم غيّروا اتجاهاتهم السياسية، فإلى متى عنادك ومكابرتك في نمطك الشعري المهاجم؟

- حقيقة الموضوع ليست عنادا ولا مكابرة وإنما إصرار على انتصار قيم معينة، ربما الآن أهملت او يجري تناسيها ولكنها يقينا قيم حقيقية تربينا عليها منذ الصغر، ولكن في ظل العولمة الحالية وهيمنة أميركا على العالم الى آخره، قد يبدو للبعض وكأن الموضوع إصرار او مكابرة، او حتى مواجهة مخفقة، ولكن القضايا لا تقاس بآنيتها بل تقاس بمداها القادم، يعني بمداها البعيد. الموضوع ثقة داخلية وقناعة فكرية وروحية بأنه لابد من ان تنتصر القيم في النهاية، والعالم الذي تريد أمريكا أن تقيمه كما يروق لها لن يتحقق؛ هناك حضارات عديدة، هناك تاريخ طويل عريض، من الممكن إقامة حوار بين الحضارات كما قال روجيه غارودي، ولكن لا يمكن تدمير حضارات بأكملها.

يبدو الآن أن أمريكا في الوقت الراهن قد انتصرت بسبب من الإخفاقات وبسبب من الأنظمة العربية السائدة ولكن لا عناد ولا مكابرة.

 

.هناك العديد من التعابير في قصائدك الجديدة التي لا تزال تحمل الكثير من "الصواعق"،  ألا تعتقد أن هذا الزمن قد تغير وتحول والمطلوب الآن استخدام تعابير أخرى وصور أخرى تنسجم مع ما يسمى اليوم بالواقعية السياسية؟

- إذا كان المقصود بالواقعية هو التخاذل فأنا ضد ذلك، وإذا كان المقصود بها التغريب والركض وراء الغرب وتفصيل كل أدبنا العربي على الطريقة الغربية فهذا خطأ، طبعاً لا يزال الوضع ملائماً للصراع ولا تزال كفة الشعوب هي الأرجح برغم كل الإنكسارات والهزائم الرسمية، والهزائم كانت دائما رسمية وليست جماهيرية، الإحباط الذي حصل بعد حرب الخليج كان طبعا كبيرا، مما أودى بحماسة الناس وقناعاتهم وأحاسيسهم، ولكن لا تزال هناك تحركات كثيرة داخل العراق تتحرك ضد واقع معين كلف العراق كثيرا، والمقاومة اللبنانية في جنوب لبنان والمواجهات مع إسرائيل، فالجماهير لا تزال تواجه وتصد رغم الهزيمة العامة التي تفرضها الأنظمة والتي تقمع بها الحركات بشكل عام.

 

.هل تجد نظاماً عربياً يؤويك؟

- حقيقة، هناك بعض البلدان العربية القليلة حيث أستطيع التحرك بحرية والكلام بحرية أيضا، ولكن هذه البلدان قد أصبحت قليلة بالفعل، لديّ حاليا  دعوة لزيارة إحدى دول الخليج، وقد استغربت موضوع هذه الدعوة، وقد اتصلت قناة الجزيرة الفضائية بي أيضا وحضروا الى الشام بخصوص هذا الموضوع وقد أبدوا كل اهتمام حقيقة، ولكنني أصررت على عدم المشاركة.

يعني لا تزال هناك هوامش للحركة، أي ان اللوحة ليست سوداء تماما، رغم كل حالات القمع والفردية التي تقوم عليها الأنظمة العربية، كإسكات الناس وما شابه، رغم ذلك بقي قليل من المجال للحركة.

 

.قلت في حديث سابق قبل حوالي عام، انه لو نشبت حرب برية بين الجيش العراقي والجيش الأمريكي لتطوعت للقتال في صفوف الجيش العراقي، هل ما زال هذا موقفك الآن؟

- صحيح، موقفي من العراق ثابت، وهو ان العراق وطني وشعب العراق ليس شعب السطة إطلاقا. وما كنت أعرفه سلفا ان المقصود تدمير بنية العراق الاقتصادية والثقافية والسياسية، ولم يكن المقصود هو تدمير السلطة بدليل ان السلطة بقيت، والانتفاضة هي التي قمعت، وكان لديّ فهم مسبق آنذاك لكيفية سير الأحداث وان هذه الحرب البرية لن تحدث برغم الخطابات والتهديد المتبادل، كنت أعلم أنها جعجعة، وقلت يومها انه إذا فعلاً حصلت حرب برية فهذا يعني الكثير، ويحمل الكثير من التطورات الهائلة، والمشاركة في هذه الحرب ليست خطأ.

 

قصة العرب المركزية

.يقال إنك أوليت القضية الفلسطينية أهمية أو مساحة أكبر في شعرك مما ا,ليته لموضوع العراق الداخلي، فما هو ردك على ذلك؟

- هذا صحيح الى حد ما وذلك لقناعتي بأن القضية الفلسطينية هي قضيتنا المركزية، وإسرائيل كلما تصعد الوضع الاجتماعي والصراع الطبقي في البلدان العربية تبدأ حروبا وتحرك الأوضاع على الحدود، مما يغلّب عنصر الصراع الخارجي على العنصر الداخلي. وقد يكون هذا الإنطباع ناجماً عن الوتريات الليلية، ولكن في هذا الكتاب أيضا حيز كبير لتجربة العراق وحادثة هروبي من العراق ومعتقلات إيران ومحاولة الهروب إلى الاتحاد السوفياتي وإلقاء القبض عليّ وتسليمي للعراق. كل ذلك وارد في القصيدة، ولكن لأن القضية الفلسطينية ملتهبة فإن الناس يركزون عليها وخاصة "أولاد الكذا"، وكما قلت بسبب قناعتي بأن القضية الفلسطينية تبقى القضية العربية المركزية رغم كل الإخفاقات والمساومات وعمليات البيع والشراء والسمسرة، رغم كل ذلك تبقى هي القضية الأساسية ولابد للمثقفين والشعراء من التصدي لها، ونحن نلاحظ حاليا اختراقات ثقافية وهذا خطير جدا، وقد سمعنا عن اللقاء الذي تم في إحدى المدن الفرنسية على المتوسط، هذا اللقاء الذي ضم خمسة شعراء إسرائيليين وعبدالقادر الجنابي، حيث وزعت قمصان كتب عليها مقاطع من شعره باللغة العبرية ومقاطع لشعراء إسرائيليين ترجمت للعربية، وقام أحد الشعراء المصريين بتقبيل القميص أمام الحشد، وللأسف شارك أيضا بعض الشعراء العرب المعروفين دون أن ندخل الآن في التسميات، وهذا يشكل اختراقا للجبهة الثقافية، وهي الجبهة الوحيدة الباقية بعد انهيار الجبهة السياسية والعسكرية، ويبقى الجانب الحضاري والثقافي العربي الوحيد القادر على إعادة بناء كل هذه القضايا، طبعاً مع حساب الزمن. ولكل هذا تبقى للقضية الفلسطينية حساسيتها وأهميتها، لكنّ للعراق أيضا حيزا كبيرا في شعري ولكن أغلب هذه القصائد بالعامية العراقية، التي تبقى أقرب الى المستمع العراقي وأفعل في تحريكه.

 

.من الملاحظ في الأمسية الأخيرة التي أقمتها نقلة نوعية في طريقتك المعهودة في الإلقاء، أي أن هناك حركة جسد وغناءً للمرة الأولى في القصيدة، مما يضيف لذة بصرية إذا صح التعبير الى القصيدة، فهل لك أن تخبرنا شيئاً حول هذا الموضوع؟

- طبعا التعبير صحيح، وهذا الأسلوب ليس جديدا، بل هو موجود في التراث ولكنه لم يدرس بشكل جيد، فإذا أخذنا التراث العربي مثلاً، ففي بلاط سيف الدولة، قيل وقف المتنبي وأنشد ولم يقل قرأ أو تلى وهو جالس، من المؤكد ان الوقوف والإنشاد يستدعي حركة، وأيضاً في مواسم عاشوراء في العراق قراء العزاء الكربلائي مثلا يمتازون بأداء معين وحركات جسدية معينة، ومن الممكن ان التطوير في هذا الموضوع ان تأتي الحركة من داخل بناء القصيدة، أي ليس حركة تمثيلية أو مسرحية ملقاة على القصيدة، وإنما من داخل القصيدة، فأنا مثلاً أتحرك بصورة لا شعورية من دون أن أعلم مسبقاً ماذا أفعل، الموضوع يأتي من سياق القصيدة، أي هو نوع من التفاعل مع سياق القصيدة مع نغمها والجانب البكائي أو جانب الفرح فيها، وهذا الموضوع يبقى عفويا أو تلقائيا وغير متكلف ومسقط على القصيدة.

وطبعا هذا عامل مساعد على إيصال القصيدة بصورة أكبر الى المستمع، والقصيدة التي تحتمل الإنشاد، وقد ذكرنا إنشاد المتنبي، هذه القصيدة تحتمل نقلة غنائية أعلى، أي ليس فقط إنشادا بل ربطها بالموسيقى بشكل غنائي، والشعر أصلاً غناء في بداياته الأولى. وإذا نظرنا الى الدراسات التاريخية حول الإنسان البدائي فقد كان عندما يصطاد فريسته يطلق صيحات معينة ويتحرك حولها بشكل نقلات او ما يسمى بالرقص حاليا، إذا كان يقول مقاطع معينة تعبيرا عن فرحه أو انتصاره، وهذه كانت بدايات الشعر.

 

.كانت لك مؤخرا تجربة مسرحية، هل لك أن تخبرنا عنها؟

- نعم، والحقيقة أن المسرحية قدمت بشكل جيد على مسرح الحمراء في دمشق، وهي ناطقة بالعامية العراقية، وقد لاقت إعجاب الحضور ووصلت العامية بشكل جيد جدا للحضور خاصة أن المخرج الذي عمل معي فيها هو شاب عراقي اسمه باسم، وهو خريج معهد الفنون الجميلة في العراق وكان معتقلاً في سجن رفحة.

لقد قدمت المسرحية لمدة عشرة أيام، وكانت الصالة دائما مكتظة بالحضور، وللأسف لم نمنح أياما إضافية لعرض المسرحية لمدة أطول، وقد تكلمت حول هذا الموضوع في حديث لإذاعة القدس، وقد حاولنا كثيرا مع الأخ أسعد فضة الذي تربطني به صداقة قديمة، ولكن للأسف لم تنجح هذه المحاولات بحجة أن هناك عروضا لمسرحيات أخرى، كما قدمت المسرحية لمدة أسبوع في اللاذقية، وتحدثنا أيضا مع السيدة نضال الأشقر، التي رحبت بعرض المسرحية في بيروت ولكن للأسف فإن غالبية الممثلين من العراقيين ولا يمتلكون جوازات سفر أو أوراقا ثبوتية مما حال دون إمكانية انتقالهم الى لبنان.

 

.لديك الكثير من المعجبين في ألمانيا، فما رأيك بالمستمع العربي في ألمانيا؟

- وبالإضافة الى ذلك أنا أحب الإلقاء أمام الجمهور، فهذا التفاعل مع المستمعين شيء مختلف عن الكتابة والكتاب، فهذا الكلام المباشر يملأ القاعة بجو كهربائي ومناخ عام يؤجج الروح الجماعية ويوصّل القصيدة الى الناس ويحببهم بها، ولهذا تجدهم في الأمسيات الشعرية يطالبون بسماع قصائد قديمة ألقيت منذ عشرين سنة ولكنها ما زالت تنطبق على واقعنا، وربما بسبب عدم قدرتهم هم أنفسهم على الكلام فلهذا يطلبون منك أن تعبر أنت عن مشاعرهم وانفعالهم مع هذه القصيدة أو تلك لكي يتنفسوا بما يضج في أنفسهم، فهذا يشحنهم بحالة من التفاعل المباشر مع الشاعر وإن كان هذا النوع من التواصل بين فنان، سواء كان شاعرا أو كاتبا الى آخره مع الجمهور، يخيف الحكام العرب حقيقة.

 

حاوره/ غسان أبو حمد

 

.المصدر:       جريدة السفير - بيروت

                يوم الجمعة 7 يناير 2000م