Site hosted by Angelfire.com: Build your free website today!

 

 

 

 

دين أوربا أو النصــــــــــــــــرانية بين التحريف والإبـــــــــــــــــــــــداع

 

 

.*.*.*. مقـــــــــــــــــــــــــــدمـــــــــــــــــــــــــــــة .*.*.*.

 

عرفت أوربا الوثنية الدين النصراني منذ القرن الأول للميلاد بوصفه عقيدة شرقية سامية ،كتلك العقائد التي ينظر إليها العالم الروماني الأبيقوري على أنها تعاليم مثالية صارمة ، ولم يأل أباطرة الرومان جهداً في القضاء على هذه النحلة التي تفشت في مستعمراتهم ، واستخدموا لتحقيق ذلك صنوف الاضطهاد والتنكيل طيلة القرون الثلاثة الأولى ،ولكن أسباباً تاريخية لا مجال لبحثها الآن أدت إلى اعتناق الإمبراطور "قسطنطين" للدين الجديد ودعوته لعقد أول مجمع مسكوني مسيحي هو مجمع نيقية سنة 325 ، الذي أعلنت المسيحية على أثره عقيدة رسمية للإمبراطورية الرومانية .

 

وقد حظي الدين الجديد بإقبال فائق وجاذبية شديدة من قبل شعوب الإمبراطورية ،مما حدا بالمؤرخين(1)

إلى تعليل ذلك بأسباب شتى نختار منها ما ذهب إليه باحث أميركي معاصر :

 

1-العنصر التوفيقي:فإنك قد تجد في روايات الألغاز الإغريقية ، وفي قصة إيزيس ، وقصة مترا ، وفي اليهودية ، وفي العقائد الأخرى آنذاك: نماذج لكل ما اعتقد فيه المسيحيون كطقوس الطهارة ، والإله الذي يموت ثم يبعث ،والعذراء التي تحمل(2) ،ويوم الحساب وحفلات الربيع وحفلات الانقلاب الشتوي والشياطين والقديسين والملائكة .

 

2-إن المسيحية بما وعدت من خلاص في عالم آخر لتعويض ما في هذه الدنيا من فقر وظلم وآلام ، أثبتت أنها عقيدة شديدة الجاذبية للامة في الإمبراطورية المتداعية ، إذ يرون فيها طريقاً خلاباً للهروب من عالم لا يحبونه، وإذن فقولنا إن المسيحية ديانة الضعفاء والبسطاء والمظلومين قول صادق والأناجيل مصرحة بذلك .

 

3-إن القواعد الدينية للمسيحية بلغت درجة من التعقيد تكفي لان تجتذب رجالاً من ذوي الميول الفلسفية ،وإذن فإن عوامل النصر النهائي للمسيحية قواعدها الدينية التي اتحدت في نهاية القرن الثاني إتحاداً قوياً بالتقاليد الفكرية الإغريقية.

4- رد الفعل الذي نشأ عن الاضطهاد المستمر في عصور المسيحية الأولى والاضطهاد عندما يبلغ درجة معينة يقوي الفئة المضطهدة ، ويدفع المضطهدين إلى وحدة أشد تماسكاً وأكثر نظاماً(3).

 

5- يضاف إلى ذلك عامل سياسي مهم وهو حاجة الدولة الرومانية إلى عقيدة موحدة تخلصها من الصراعات العقائدية المزمنة .

         

وعلى أية حال ،فقد دانت أوروبا بالمسيحية منذ سنة 325 وما زال العالم الغربي إلى اليوم يعتقد أنه عالم مسيحي ، أو على الأقل كان كذلك يوماً من الأيام لكن السؤال المهم هنا هو : هل هذه الديانة المعتنقة هي الوحي الإلهي الذي أنزله الله تعالى على عبده المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام ؟

         

وبتعبير آخر :هل دانت أوروبا بالدين الحق لله تعالى وعبدته حق عبادته وعرفته معرفة صحيحة في أي مرحلة من مراحل تاريخها ؟

 

إن أي مؤرخ أو باحث يلقي نظرة سريعة فاحصة على الحقبة التي شهدت ميلاد الدين النصراني ، سيرى أن منطقة حوض البحر الأبيض كانت تموج بعقائد وأفكار متباينة نذكر منها :

 

1-الديانة اليهودية :وهي ديانة مغلقة خاصة بأسباط بني إسرائيل ، لكنها تتميز بأنها ديانة سماوية لها كتاب مقدس ،وموطنها فلسطين ،حيث ولد المسيح وأرسل.

 

2-العقيدة المترائية :وهي عقيدة وثنية قديمة قوامها الكاهن والمذبح ،ترى  أنه لا خلاص للإنسان إلا بافتداء نفسه عن طريق تقديم القرابين للآلهة بواسطة الكهان (4) .

 

3-الأفلاطونية الحديثة :وهي عقيدة فلسفية تتلخص في أن العالم في تكوينه وتدبيره صدر عن ثلاثة عناصر :

       ü         المنشئ الأزلي الأول .

       ü         العقل الذي تولد منه كما يتولد الابن من أبيه .

ü                     جميـع الأرواح والـذي يتصـل بالمنشـئ الأول عن طريق العقل (5).وكان موطنها الإسكندرية .

 

4-الوثنية المصرية :ومن معتقداتها أن الآلهة ثلاثة :

       ü         حورس،الذي كان ابنتاً لسيراييس .

       ü         سيراييس ،الذي هو في الوقت نفسه حورس .

       ü         إيزيس ،والدة حورس (6) .

 

5-الوثنية الرومانية:ديانة الإمبراطورية الرسمية ،ومن مبادئها :

       ü         التثليث : (جوبيتر ،مارس ،كورنيوس ) .

       ü         عبادة الإمبراطور ،إذ كان الأباطرة يدعون الربوبية ، و"كان تأليه الحاكم تقليداً هلنستياً " (7).

       ü         تقديس الصور والتماثيل وعبادتها(8) .

 

6-أفكار فلسفية :من أهمها الفلسفة الرواقية ،التي تعني من الوجهة العملية :الانقطاع عن الدنيا وتعد إنكار الذات أسمى الغايات النبيلة ،مناقضة بذلك الفلسفة الإباحية الأبيقورية التي كانت فاشية في المجتمع الروماني (9) .

 

 

 

 

          ولو أننا حاولنا أن نستنبط من مجموع هذه العقائد عقيدة واحدة مشتركة لخرجنا بعقيدة تقوم على ست دعائم :

1-الإيمان بالتوراة اليهودية .

2-اعتقاد الفداء والخلاص والوساطة بين الله والناس .

3-التثليث .

4-الحلول (تجسد الإله في شكل بشري ).

5-تقديس الصور والتماثيل .

6-الهروب من الحياة "الرهبانية" .

 

          ومن أول نظرة نلقيها على هذه الدعائم الست نرى أنها هي بعينها دعائم الدين النصراني الكنسي ولب تعاليمه التي سيطرت على الفكر الأوروبي ردحاً طويلاً من الزمن ،وقد يدهش المرء لهذه النتيجة رغم تسليمه بصحتها ويتساءل :أيمكن أن يتحول دين سماوي خالص إلى مزيج مركب من خرافات ووثنيات متضاربة ؟وأعجب منه :كيف احتفظت المسيحية باسمها ونسبتها وهي على هذه الحال ؟

 

          إن الكثير من مؤرخي الفكر الغربي قد تخلصوا من الإجابة على مثل هذه التساؤلات بتقسيمهم الدين النصراني قسمين متباينين لا رابط بينهما سوى النسبة للمسيح :

 

1-المسيحية الأصلية ،أو "مسيحية يسوع ".

 

2-المسيحية الرسمية ،أو "مسيحية بولي" .

          ويعنون بهذه العقيدة التي نشرتها الكنيسة ابتداء من سنة (325) وهي المزيج المشار إلى مركباته آنفاً.

          يقول برنتن : " إن المسيحية الظافرة في مجلس نيقية  العقيدة الرسمية في أعظم إمبراطورية في العالم مخالفة كل المخالفة لمسيحية المسيحيين في الجليل ،ولو أن المرء اعتبر العهد الجديد التعبير النهائي عن العقيدة المسيحية لخرج من ذلك قطعاً لا بأن مسيحية القرن الرابع تختلف عن المسيحية الأولى فحسب ،بل بأن مسيحية القرن الرابع لم تكن مسيحية بتاتاً " (10) .

 

          أما المؤرخ الإنجليزي ويلز ، فيقول : "من الضروري أن نستلفت نظر القارئ إلى الفروق العميقة بين مسيحية نيقيا التامة التطور وبين تعاليم يسوع الناصري فمن الواضح تماماً أن تعاليم يسوع الناصري تعاليم نبوية من الطراز الجديد الذي ابتدأ بظهور الأنبياء العبرانيين ،وهي لم تكن كهنوتية ولم يكن لها معبد مقدس حسباً عليها ولا هيكل ،ولم يكن لديها شعائر ولا طقوس ،وكان قربانها "قلباً كسيراً خاشعاً " ،وكانت الهيئة الوحيدة فيها هيئة من الوعاظ ،وكان رأس ما لديها من عمل هو الموعظة .بيد أن مسيحية القرن الرابع الكاملة التكوين ،وإن احتفظت بتعاليم يسوع في الأناجيل كنواة لها كانت في صلبها ديانة كهنوتية من طراز مألوف للناس من قبل منذ آلاف السنين ،وكان المذبح مركز طقوسها المنمقة ،والعمل الجوهري في العبادة فيها هو القربان الذي يقر به قديس متكرس للقداس ، ولها هيئة تتطور بسرعة مكونة من الشمامسة والقساوسة والأساقفة ، ولئن اتشحت المسيحية بأردية خارجية تشابه نحل سيراييس أو آمون أو بعل مردك مشابهة غير عادية فلا بد لنا أن نذكر أنه حتى كهانتها نفسها كانت مظاهر جديرة بأعيانها " .

 

          "ولقد بلغ من جرأة الكتاب المتشككين أن أنكروا إمكان أن يسمى يسوع مسيحياً على الإطلاق " (11) .

 

          وإذا كان هذا هو رأي العلماء الباحثين فإن من المفيد أن نعرف رأي رجال الكنيسة في هذا الأمر ، وحسبنا أن نقرأ ما كتبه الدكتور "وليام تامبل " أسقف كنيسة كنتربري وحبر ـحبار إنجلترا ، حيث يقول :

         

"إن من الخطأ الفاحش أن نظن أن الله وحده هو الذي يقدم الديانة أو القسط الأكبر منها " (12) .

          وليس هذا الكلام فلتة من الحبر الكبير ، أو سهواً غير مقصود ، وإنما هو تعبير صريح صادق عن عقيدة الكنيسة وواقع تاريخها .

 

          وعلى ضوء هذه الآراء نستطيع أن نعرف ما إذا كانت أوربا قد اعتنقت النصرانية الحقة الموحاة من الله ، أو اعتنقت المركب الذي صنعه أجداد الدكتور تامبل من آباء الكنيسة الأولين ،واستخرجوه من العقائد السائدة في عصرهم آنذاك .

 

          إن من الحقائق المقررة أن الكنيسة قد ارتكبت سلسلة من الأخطاء الشنيعة ،يكفي أحدها لنزع الثقة منها بصفة نهائية ، وإن أحداً من أعداء المسيح عليه السلام لم يسيء إليه وإلى تعاليمه النبوية كما أساءت الكنيسة التي تتبجح بالانتساب إليه ،وتزعم أنها الحارس الأمين على مبادئه والممثل الشرعي له ، ولقد كان "ليكونت دى نوى " صادقاً عندما قال : "إن ما أضافه الإنسان إلى الديانة المسيحية ،والتفسيرات التي قدمها ،والتي ابتدأت منذ القرن الثالث بالإضافة إلى عدم الاكتراث بالحقائق العلمية ، كل ذلك قدم للماديين والملحدين أقوى الدلائل المعاضدة في كفاحهم ضد الدين " (13) .

 

          هذا ،وليس من أهدافنا في هذا البحث التهجم على الكنيسة وفضح تصرفاتها ولا كذلك تبرير التمرد الذي أعلنته أوربا على خالقها في أثناء ثورتها على طغيان الكنيسة ،لكن هدفنا هو الحقيقة التي هي ضالة المؤمن ،لا سيما وان القضية قضية إنسانية عامة ، تعدت نطاق أوروبا إلى العالم كله ،وصلينا نحن المسلمين خاصة نيران آثارها السيئة منذ الحروب الصليبية ،بل منذ ظهور الإسلام إلى اليوم .

وعلى هذا الأساس سنستعرض موضوع تحريف المسيحية عقيدة وشريعة معتمدين أساساً على الباحثين النصارى أنفسهم وعلى المصادر الكنسية .

 

 

>><<

 

 

.*.*. >> أولاً :تحـــــــــــــــريف العقيـــــــــــــــــــــــدة << .*.*.

>><<

       i.         قضيــــــــــــــة الألوهيـــــــــــــــة :

 

          إن قضية الألوهية لتأتي في طليعة المعضلات الفلسفية العريضة التي شغلت أذهان الفلاسفة والمفكرين قروناً طويلة ، لا سيما ما يتعلق بتصور الإله وصفاته ، حيث تفاوتت التصورات المنحرفة ،فأوغل بعضها في التجريد حتى وصل إلى درجة المعميات والألغاز المبهمة ، وسفل بعضها في التجسيم حتى هبط إلى مستوى الجمادات والمخلوقات التافهة ، وقد كانت البشرية في غنى عن هذا التخبط والضلال لولا أنها ضيقت على نفسها وحاولت بلوغ الحقيقة من غير طريقها ،ولم تكن بحاجة إلى الخوض في هذه القضية بتاتاً لو أنها استلهمت الفطرة الكامنة في أعماقها واستقت معرفتها بالله من طريق الوحي الإلهي نفسه ،واستبدلت بتخرصات الفلاسفة وتحريفات الكهان تعاليم الأنبياء ،عليهم الصلاة والسلام .

 

          ولو جاز أن نتلمس عذراً لأحد من التائهين في هذه القضية ،لالتمسناه للأمم التي انقطع عنها الوحي فترات طويلة ، أو للذين لم تقع أعينهم على شيء من آثار الأنبياء ، أما إذا كان المتخبطون ممن يستطيعون أن ينعموا بنور الحقيقة لكنهم آثروا عليه الإدلاج في الظلمات ،فما عذرهم حينئذ ؟

 

          لكم تكون الخسارة فادحة لو أن عالماً من جهابذة الطب كتب أروع بحث علمي في فنه وأوصى خادمه بحفظه ،لكن الخادم عبث به فقدم وأخر وشطب وأضاف حتى حوله إلى خزعبلات سخيفة ..فكيف إذا كان موضوع العبث هو الوحي الإلهي الذي لا تستقيم بغيره حياة ولا تصلح بسواه دنيا ولا آخره ؟

          إن المسيح-عليه السلام- قد بعث في بيئة بركام هائل من الخرافات والوثنيات ذكرنا بعضها قريباً وجاء كأي نبي مرسل لينقذ قومه من هذا الركام ويهديهم إلى التوحيد الذي دعا إليه سلفه من الأنبياء ،ولا شك أنه قام بمهمته خير قيام ،وكان عليهم شهيداً ما دام فيهم فلما توفاه الله حدث من أتباعه ما لم يكن في الحسبان من تحريف ونكوص .

 

          وعملية التحريف التي استغرقت زهاء عشرة قرون بل نستطيع أن نقول أنها لم تتوقف حتى الآن بدأت مبكرة حين كان الحواريون لا يزالون على قيد الحياة ، كما أنها ابتدأت بموضوع ليس بالهين ، وهو القول بأن للمسيح طبيعة إلهية ، مع أن سيدنا عيسى عليه السلام كما تعترف دائرة المعارف البريطانية "لم تصدر عنه أي دعوى تفيد أنه من عنصر إلهي أو من عنصر أعلى من العنصر الإنساني المشترك " (1) .

 

          وتتفق المصادر التاريخية فيما نعلم على أن اليد الطولي في التحريف كانت لمبشر من أتباع الحواريين ،تسمية المسيحية المحرفة "بولس الرسول " ، وهو الذي أثار موضوع ألوهية المسيح لأول مرة ، مدعياً أنه "ابن الله " (2)  - تعالى عن ذلك  وكانت هذه الدعوى البذرة الأولى للتثليث .

 

>> بـــولــس <<

 

الاسم الأصلي لبولس هو "شاؤل" وهو كما يبدو من سيرته شخصية تآمرية ذات عبقرية عقائدية ،ويظهر أنه كان ينفذ تعاليم المحكمة اليهودية العليا "سانهدرين " ،حيث كان أستاذه عمانوئيل أحد أعضائها(3)

 

          وقد اشتهر أول حياته باضطهاد المسيحيين (4) .ثم تحول فجأة ليصبح الشخصية المسيحية الأولى والقطب الكنسي الأعظم ،ومنذ ظهوره إلى الآن لم يحظ أحد في تاريخ الكنيسة بمثل ما حظي به من التقديس والإجلال ، إلا أن "أحرار المفكرين " الأوربيين لم يخفوا عداوتهم له ، حتى أن الكاتب الإنجليزى "بنتام"ألف كتاباً أسماه "يسوع لا بولس " ..ومثله "غوستاف لو بون " في حياة الحقائق " . أما المؤرخ "ويلز " وهو من المعتدلين فقد عقد فصلاً بعنوان "مبادئ أضيفت إلى تعاليم يسوع " ،قال فيه :

 

          "وظهر للوقت معلم آخر عظيم يعده كثير من النقاد العصريين المؤسس الحقيقي للمسيحية ،وهو شاؤل الطرسوسي ، أو بولس ، والراجح أنه كان يهودي المولد وإن كان بعض الكتاب ينكرون ذلك ! ولا مراء في أنه تعلم على أساتذة من اليهود ، بيد أنه كان متبحراً في لاهوتيات الإسكندرية الهلينية وهو متأثر بطرائق التعبير الفلسفي للمدارس الهيلنستية ، وبأساليب الرواقيين بيسوع الناصري بزمن طويل ..ومن الراجح جداً أنه تأثر بالمثرائية ، إذ هو يستعمل عبارات عجيبة الشبه بالعبارات المترائية ،ويتضح لكل من يقرأ رسائله المتنوعة جنباً إلى جنب مع الأناجيل أن ذهنه كان مشبعاً بفكرة لا تبدو قط بارزة قوية فيما نقل عن يسوع من أقوال وتعليم ، ألا وهي فكرة الشخص الضحية الذي يقدم قرباناً لله كفارة عن الخطيئة .فما بشر به يسوع كان ميلاداً جديداً للروح الإنسانية أما ما علمه بولس فهو الديانة القديمة ،ديانة الكاهن والمذبح وسفك الدماء طلباً لاسترضاء الإله " .

 

          " ..ولم ير بولس يسوع قط ، ولا بد أنه استقى معرفته بيسوع وتعاليمه سماعاً من التلاميذ الأصليين ، ومن الجلي أنه أدرك الشيء الكثير من روح يسوع ومبدأه الخاص بالميلاد الجديد ، بيد أنه أدخل هذه الفكرة في صرح نظام لاهوتي ، ذلك بأنه وجد الناصريين ولهم روح ورجاء وتركهم مسيحيين لديهم بداية عقيدة ؟ (6)

 

          ولندع الآن كل التأثيرات والثقافات التي عرفها بولس ، باستثناء واحدة منها هي "لا هوتيات الإسكندرية" التي كان متبحراً فيها ، ومعلوم أن هذه اللاهوتيات هي المدرسة الفلسفية المسماة "الأفلاطونية الحديثة " التي أشرنا سابقاً إلى عقيدتها الثالوثية ،وعنها نقل بولس فكرة التثليث "يضاهئون قول الذين كفروا من قبل " والتعديل الذي أدخله على الأفلاطونية شكلي فقط :فالمنشئ الأزلي الأول فيها يقابله عنده الله "الأب" والعقل المتولد عن المنشئ الأول يقابله عنده يسوع "الابن " ، والروح الكلي يقابله "روح القدس " . ثم أنه سار شوطاً أبعد من ذلك ،فاستعار من المثرائية فكرة الخلاص . وجعل القربان الضحية هو الأقنوم الثاني "الابن" . ثم إن الكنيسة أكملت المسيرة فأضافت إلى فكرة الخلاص فكرة تقديس الخشبة التي صلب عليه المخلص ، وهكذا "تتابعت البدع واحدة في أثر الأخرى ، وكان نتيجة ذلك أن دفنت التعاليم الأصلية بطريقة تكاد تكون غير محسوسة تحت تلك الإضافات المألوفة "(6)

          بهذه الطريقة ،وبغض النظر عن الأهداف والدوافع الخفية ، هدم بولس عقيدة التوحيد وأوقع أتباع المسيح فيما كان قد حذرهم منه أبلغ تحذير . واكتسبت تعاليم بولس الصفة الشرعية المطلقة بقيام أحد أتباعه بكتابة الإنجيل الرابع المنسوب إلى يوحنا الحواري ، والذي قال عنه جيبون أنه :

          "فسر نظرية الكون الأفلاطونية تفسيراً مسيحياً وأظهر أن يسوع المسيح هو الكيان الذي تجسد فيه "الكلمة " أو العقل الذي تحدث عنه أفلاطون والذي كان مع الله منذ البدء (7) .

 

          على أنه من الإنصاف أن نذكر أن الثلاثة القرون الأول التي تسميها الكنيسة "عصر الهرطقة " شهدت صراعاً محتدماً بين أتباع بولس واثانسيوس ، وبين منكرة التثليث وعلى رأسهم "آريوس" ، ولم يكتب النصر النهائي للثالوثيين إلا في مجمع نيقية ، مع انهم كانوا أقلية فيه .

 

          يقول برنتن :

          "وقد امتدت هذه الهرطقات فشملت الجانب الأكبر من السلوك والعقائد ، ونستطيع أن نأخذ الجدل النهائي الذي ثار حول العلاقة بين يسوع والإله الواحد الإله الأب مثلاً لعصر الهرطقة كله ، وأخيراً قبلت المسيحية الرسمية في عام 325 في مجلس نيقية بالقرب من القسطنطينية عقيدة التثليث أو ما نادى به أثانسيوس ، والثالوث "الله    الأب ، ويسوع الابن ، والروح القدس ، طبقاً لهذه العقيدة : أشخاص حقيقيين ، عددهم ثلاثة لكنهم واحد أيضا ، وبقيت المسيحية وحدانية تثليثها يسمو في الرياضيات (8) .

          وهنا ، عند هذه النقطة خاصة تصطدم أراء بولس وكنيسته بالفطرة والعقل اصطدما مباشراً ، فمهما حاول أي عقل بشرى أن يتصور أن الثلاثة واحد والواحد ثلاثة فإنه لا يستطيع إطلاقاً ، مع أن الملايين من أتباع الكنيسة يقولون في كل صلاة " باسم الأب والابن وروح القدس إله واحد " .

 

          لقد ظل العقل البشرى يلح على الكنيسة أن تعطيه إجابة مقنعة يتخلص بها من سؤال داخلى قاتل وهو : كيف أصدق أن 1 + 1 + 1 = 1 ؟

فكان رد الكنيسة المتكرر دائما هو أن ذلك " سر " لا يستطيع العقل إدراكه .

 

          هكذا كان رأى القديس أوغسطين (430) وهو يواجه حملة آريوس على التثليث الكاثوليكي ، وقال أن كل ما جاء في الأناجيل لا ينبغي للعقل أن يجادل فيه " لأن سلطانها أقوى من كل سلطان أمر به العقل البشرى (9) .

كذلك القديس توما الأكويني ( + 1274 ) ، فهو " يقرر أن الحقائق التي يقدمها الإيمان لا يقوى العقل على التدليل عليها ، ففي استطاعة العقل أن يتصور ماهية الله Essence ) ، ولكنه لا يستطيع أن يدرك تثليث الأقانيم ومن دلل على عقيدة التثليث في الأقانيم حقر من شأن الإيمان ) (10)

          وهكذا كان رأى الكنيسة وهي تواجه انتقادات " أبيلارد " في القرن الثاني عشر الميلادى الذي أدان رأى أبيلارد وقرر إحراق كتابه وأن يضعه بيده في النار (11) ولا يزال هذا هو رأى الكنيسة وإلا فماذا في إمكانها أن تقول غير ذلك ؟

حتى الكنائس الشرقية تذهب إلى هذا الرأي ، فالقس باسيلوس يقول : " أن هذا التعليم عن التلثيث فوق إدراكنا ، ولكن عدم إدراكه لا يبطله " ..

          وزميله توفيق جيد يقول : " إن تسمية الثالوث باسم الأب والابن والروح القدس تعتبر أعماقا الهية وأسراراً سماوية لا يجوز لنا أن نتفلسف في تفكيكها أو تحليلها أو أن نلصق بها أفكارنا من عندياتنا" (12) .

 

          من هذه الإجابات يتضح أن الكنيسة لم تضع حلاً للمشكلة إلا المشكلة نفسها ، فالعقل يسأل الكنيسة عن سر التثليث فتجيب بأن هذا " سر " وياليت أنه كان السر الوحيد ، ولقائل أن يقول : أن الأديان بما فيها الإسلام لا تخلو من مغيبات أو حقائق لا يستطيع العقل إدراكها ولكن يدفع هذا القول أن هناك فرقا بين ما يحكم العقل باستحالته كالتثليث وبين ما لا يستطيع العقل إدراكه ، والإسلام ، وإن كان فيه الأخير ، فإنه يخلو تماماً من الأول ، فليس فيه ما يحكم العقل باستحالته أبداً (13)

 

          إن الكنيسة ، بتبنها لعقيدة التثليث ، قد فتحت على نفسها ثغرة واسعة يستطيع أعداؤها أن ينفذوا من خلالها إلى هدم الدين البوليسي الكنسي بسهولة ، وكانت هذه العقيدة واضرابها المقومات الأساسية للفكر الديني الذي تستر بستار " النقد التاريخى للكتب المقدسة " ابتداء من القرن السابع عشر ، ولا بأس هنا أن نورد قول أحد أقطاب هذا الفكر وهو الفيلسوف " رينان " الذي حرمته الكنيسة وحظرت كتبه :

 

          " أنه ينبغي لفهم تعليم يسوع المسيح الحقيقي ، كما كان يفهمه هو ، أن نبحث في تلك التفاسير والشروح الكاذبة التي شوهت وجه التعليم المسيحي حتى أخفته عن الأبصار  تحت طبقة كثيفة من الظلام ويرجع بحثنا إلى أيام بولس الذي لم يفهم تعليم المسيح ، بل حمله على محمل أخر ثم مزجه بكثير من تقاليد الفرنسيين وتعاليم العهد القديم ، وبولس ، كما لا يخفي ، كان رسولاً للأمم أو رسول الجدال والمنازعات الدينية ، وكان يميل إلى المظاهر الخارجية الدينية كالختان وغيره ، فأدخل أمياله هذه على الدين المسيحي فأفسده ، ومن عهد بولس ظهر التلمود المعروف بتعاليم الكنائس ، وأما تعليم المسيح الأصلي الحقيقي فخسر صفته الإلهية الكمالية ، بل أصبح إحدى حلقات سلسلة الوحي التي أولها ابتداء العالم وآخرها في عصرنا الحالي والمستمسكة بها جميع الكنائس ، وأن أولئك الشراح والمفسرين يدعون يسوع الهاً دون أن يقيموا على ذلك الحجة ، ويستندون في دعواهم على أقوال وردت في خمسة أسفار : موسى ، الزبور ، وأعمال الرسل ورسائلهم وتآليف أباء الكنيسة ، مع أن تلك الأقوال لا تدل على أن المسيح هو الله) (14) .

 

وإذا كان التثليث يتصف بهذه الصور العقيمة المستغلقة ، وإذا كانت الكنيسة تعلم انها لم تستطع ، حلّ هذه المعضلة _ بل إنها غير مقنعة في نفسها بما تقدم من حلول  فلم هذا الإصرار على تلك العقيدة ؟ أهو التقليد الأعمى أم شهوة التسلط على العقول والقلوب ؟ إن أحد هذين أو كليهما ، لا مرية فيه ولكن الكنيسة تمارى . زاعمة أنها تتبع روايات العهد الجديد وشروحها .

 

          وهنا نجد مرة ثانية ، أن الكنيسة تستدل على الدعوى بالدعوى نفسها ، فإن منكرى التثليث إنما ينكرونه لاعتقادهم أن الكنيسة هي التي أضافته إلى نصوص الأناجيل أو فهمته خطأ من ثناياها ، وحينئذ تحتاج الكنيسة إلى إثبات صحة استدلالها منها ، وأنى لها ذلك .

 

          أما احتجاج منكري التثليث على الكنيسة بأنها أقحمت العبارات الدالة على التثليث في صلب الأناجيل فإن له ما يسوغه وهذا أحد الأمثلة عليه :

          في الفصل الخامس من رسالة يوحنا الأولى نجد هذه العبارات : " إن الذين يشهدون في السماء هم ثلاثة : الأب ، والكلمة ، والروح القدس . وهؤلاء الثلاثة هم واحد والذين يشهدون في الأرض هم ثلاثة : الروح ، والماء ، والدم. والثلاثة هم في الواحد " فالمحققون من علماء النصارى أمثال كريسباخ وشولز وآدم كلارك ، وحتى المتعصبين مثل هورن ، يرجحون أن أصل العبارة هكذا : " وأن الشهود الذين يشهدون ثلاثة وهم الروح والماء والدم " وغير أن معتقدي التثليث أضافوا إليها عبارة " هم في السماء ثلاثة الخ " حتى أصبحت العبارة بهذه الإضافة دليلاً من أدلة الكنيسة على التثليث ومما يؤيد قول هؤلاء أن المصلح الكنسي " مارتن لوثر " لم يترجم هذه العبارة إلى الألمانية عندما ترجم العهد الجديد إليها (15) .

وأما اعتقادهم أن الكنيسة فهمت التثليث خطأ من نصوص الكتب المقدسة واستنبطته من تأويل بعض عبارات الأناجيل القائلة " أبي " : " ابن الله " وأشباهها ، فليس بأقل من سابقة ، وقد نبه إلى ذلك جرين برنتن ، فقال

 

          " يستطيع المرء إذا أخذ بالتفسير الطبيعي لمصادر العهد الجديد أن يزعم أن يسوع لم يدع لنفسه الألوهية قط ، وأن مثل هذه العبارات ( أي أبي وابن الله ) إنما رويت محرفة أو استعملت مجازاً أو كانت هذا أو ذاك (16).

 

ومن اليسير علينا تأييد هذا الرأي بما ورد في الأناجيل والرسائل من إشراك سائر الناس مع المسيح في إطلاق هذه العبارات عليهم وعدم اختصاصه بهذه الصفات جاء ذلك في مواضع كثيرة ، منها :

 

   1.    " كل من يؤمن أن يسوع هو المسيح فقد ولد من الله ، وكل من يحب الوالد يحب المولود منه أيضا ، بهذا نعرف أننا نحب أولاد الله" (17) .

      2.         في إنجيل متى يقول المسيح : " طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون " (18) .

      3.         وفيه أيضا يقول المسيح للتلاميذ : " صلوا أنتم هكذا أبانا الذي في السموات ليتقدس اسمك .."

      4.         يقول في إنجيل لوقا : " ومن اعترف بي قدام الناس يعترف به ابن الإنسان قدام ملائكة الله "(19)

      5.         وفي متى عنه : " أن ابن الإنسان سوف يأتي في مجد أبيه مع ملائكته ".

 

هكذا نجد في العهد الجديد نصوصاً كثيرة تصف الناس جميعا  المسيح وغيره بأنهم أبناء الله ، وهو معنى مجازى قطعاً ، وتصف المسيح بأنه " ابن الإنسان " ويمكن درء التعارض بينها بشأن المسيح برد نصوص المجاز إلى الحقيقة لأنها هي الأصل ، وبذلك لا يكون للمسيح عليه السلام أية ميزة ، عدا كونه رسولاً ، إلا أن القدرة الإلهية خلقته من أم ( بلا أب ) .

         

ولكن الكنيسة تماري في هذه الحقيقة الساطعة مستدلة بالأناجيل ، لاسيما إنجيل يوحنا مما يجعل الباحث ينقب عن حقيقة الأناجيل ذاتها ومدى حجيتها على هذه القصة وغيرها (20)

 

ب . تحريـــــــــــــــف الأناجيــــــــــل :

         

ليس ثمة شك في أن الله تبارك وتعالى إنما أنزل على المسيح عليه السلام إنجيلا واحداً مكملاً للتوراة المنزلة على موسى عليه السلام ، وما من شك أيضا في أن المسيح حين هتف ببنى إسرائيل : " قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله فتربوا وآمنوا بالإنجيل (21) ، وإنما كان يعنى ذلك الإنجيل المنزل ، لا شيئا آخر سواه .

 

          والقرآن الكريم هو الكتاب الوحيد الذي تكفل الله بحفظه بنفسه ( إنا نحن نزلنا الذكر وآنا له لحافظون)   " 15-9 " . أما الكتب السابقة فقد وكل حفظها إلى علماء دينها .

          (( إنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله )) " 65 44 " إذن فقد كان في عهدة الكنيسة أن تحفظ هذا الإنجيل بنصه السماوي وصبغته الإلهية، فلا يمسه عبث عابث ، ولا يجترئ عليه يد محرف ، لكن الكنيسة  كعادتها _  فرطت في واجبها ، بل إنها هي التي فتحت للمعرضين باب التحريف والقول على الله بغير علم .

 

          إن محرري دائرة المعارف البريطانية ، وهو من ذوى الكفاءات العالية في معظم التخصصات ومنها اللاهوت لم يتطرفوا أو يبالغوا في القول بأنه " لم يبق من أعمال السيد المسيح شئ ولا كلمة واحدة مكتوبة " (22)  ، بما إنما عبروا بذلك عما ينبغي أن يقرره الباحث العلمي المدقق .

 

ونحن المسلمين نؤمن بأن في خبايا الأناجيل شيئا من أقوال المسيح وتعاليمه التي يحتمل أنها وحى من الله ، لكن ذلك لم يثبت لدينا بسند تاريخى موثوق إلى المسيح ، وإنما آمنا به لأننا لو عرضناه على الوحى الإلهي المحفوظ " القرآن " والسنة ، لوجدنا الصلة بينهما واضحة أما من لا يؤمن بالقرآن ولا يعترف إلا بحقائق البحث المجرد فليس غريباً أن ينكر الأناجيل برمتها مثل قولة دائرة المعارف البريطانية هذه .

 

ولندع رأى المعاصرين ولنعد إلى القرن الأول الميلادي حيث احتمال وجود الإنجيل أقوى وأرجح ، فماذا نجد ؟ يقول آدم كلارك أحد شارحي الأناجيل :

 

" محقق أن الأناجيل الكثرة الكاذبة رائجة في أول القرون المسيحية وكثرة هذه الأحوال الغير صحيحة (كذا) هيجت لوقا على تحرير الإنجيل ، ويوجد ذكر أكثر من سبعين من هذه الأناجيل الكاذبة والأجزاء الكثيرة من هذه الأناجيل باقية ، وكان " فابرى سيوس " جمع الأناجيل وطبعها في ثلاث مجلدات" (23)

          هكذا قفز العدد من واحد إلى سبعين ، و المسيحية لا تزال في مهدها ، مما دفع لوقا إلى كتابة إنجيله ، فأي هذه الأناجيل يا ترى الإنجيل الحقيقي الموحى إلى المسيح ما دمنا مسلمين بأن الله لم ينزل إليه إلا إنجيلاً واحداً ؟

 

          إن لوقا نفسه ليفسح لنا الطريق إلى الحقيقة النيرة التي تهدم الأناجيل كلها  ومنها إنجيله وها هي ذي مقدمة إنجيله تنطق بها .

 

          يقول لوقا في المقدمة : " إذا كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المتبقية عندنا كلما سلمها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين وخداماً للكلمة ، رأيت أنا أيضا ، إذ قد تتبعت كل شئ من الأول بتدقيق ، أن أكتب إليك على التوالى أيها العزيز تاوفيلس لتعرف صحة الكلام الذي علمت به " (24)

وعلى هذا فلا السبعون الكاذبة ولا إنجيله الصادق وحي من الله ولا أحدها هو منسوب إلى المسيح ، بل الكل سير وقصص يكتبها أتباع المسيح عن حياته ودعوته كما سمعوها من أسلافهم الذي رأوا المسيح وخدموه ، ولو استعرنا عبارة الفيلسوف الفرنسى غوستاف لوبون لقلنا عن الأناجيل :

 

" هي مجموعة من الأوهام والذكريات غير المحققة التي بسطها خيال مؤلفيها (25) . إن أشبه الكتب الإسلامية بالأناجيل ، من جهة موضوعها لا من جهة ثبوتها ، هي كتب السيرة  فهل يمكن بأى حال من الأحوال القول بأن سيرة ابن هشام مثلاً وحي منزل من الله ؟ إن هذا لمحال شرعاً وعقلاً ، فكيف وسيرة ابن هشام مقطوع بنسبتها إلى مؤلفها ومتصلة السند بصاحب السيرة صلى الله عليه وسلم ومحفوظة بأصلها العربي ، لم تتناولها الترجمات ، كما هو الحال في الأناجيل ، كما أنها لم تفرض بسلطة قانونية أو كهنوتية وإنما أقرها البحث والتدقيق ، وكم من علماء مسلمين بلغوا ذروة العبادة والورع لا يعتد الباحثون المسلمون من رواياتهم بشيء لأن شروط التحقيق العلمي لم تتوفر فيهم ، أما الكنيسة فلا يكاد راهب ينقطع في صومعة أو عابد يتظاهر بحب المسيح حتى نقول " أنه مملوء بالروح القدس " وتمنحه لقب " رسول " أو "قديس" ، وتعد كلامه وحياً ملهماً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .

 

ولذلك فليس غريباً أن يكون لدى الكنيسة مائة وعشرون رسولاً (26) يؤخذ كلامهم  على علاته قضايا مسلمة وتقديس رسائلهم ، كما تقدس الأناجيل .

 

          تلك حصيلة المسيحية في قرونها الثلاثة الأولى : سبعون إنجيلاً يكذب بعضهم بعضاً ، ومائة وعشرون رسولاً ، منهم من ألف أناجيل ، ومنهم من كتب رسائل ، ومنهم من كان يكرز ( يعظ ) من حفظ ومعلوماته وطوائف وفرق تجل عن الحصر تختلف في قضايا أساسية بالغة الأهمية ، وكان عام 325 يمثل معلما من معالم التاريخ البارزة ، ففيه عقد مجمع نيقية الذي ابتدئت به صفحة جديدة في تاريخ الديانات العاملة . وأن هذا المجمع ليستحق أن يقف عنده المرء طويلاً .

          أن أي مجمع أو مؤتمر يجب أن تتوفر فيه شروط خاصة  لاسيما إذا كان دينيا ومن أوجب هذه الشروط .

1-       حرية البحث والمناظرة ، سواء في جدول أعماله أو صيغة قراراته ، فلا تكون هنالك سلطة قاهرية تفرض على المجتمعين موضوعاً أو قراراً بعينه مما كانت .

2-       نزاهة القصد وروح التفاهم ، بأن يكون الوصول للحق هدفاً مشتركاً بين المجتمعين بدون تعصب أو إصرار 

3-       اتخاذ قرارات سائغة ومنطقية مع اعتراف مقرريها بأنها عرضة للخطأ والصواب وقابلة للنقاش ، وإلا جاز اتهامهم بالاستبداد الفكرى .

 

وهذه الشروط مع الأسف مفقودة كلياً في هذا المجمع " المقدس " :

          فأولا :- لم يكن سبب انعقاده ذاتيا نابعاً مع الأساقفة أنفسهم ، بل إن الإمبراطور الرومانى " قسطنطين " هو الذي دعا إلى انعقاده وهو رجل وثنى ظل وثنيا إلى أن عمد وهو على فراش الموت (27) .

 

ثانيا :- حضر المجمع ألفان وثمانية وأربعون من البطاركة والأساقفة يمثلون مذاهب وشيعاً متناحرة ، أبرزها فرقتان :

1-                 الموحدين ، كما يدعون ، أتباع آريوس ، وكان عددهم يقارب سبعمائة عضو .

2-                 الثالوثيون ، أتباع بولس ، وكان عددهم حوالي ثلاثمائة وثمانية عشر عضواً .

ومعلوم أو وثنية قسطنطين ثالوثية ، وهذه في حد ذاتها تمثل قوة معنوية للثالثوثيين ، فكيف إذا أضيف إلى ذلك أنه جمع الثلاثمئة وثمانية عشر أسقفاً في مجلس خاص وجلس في وسطهم وأخذ خاتمة وسيفه وسلمه إليهم ، وقال : " قد سلطتكم اليوم على مملكتى .. "

 

ثالثا :- لم تكتف قرارات الجمع بالتحيز لقسطنطين ودعاة التثليث ، بل لعنت وحرمت من يخالف هذه القرارات ، والحرمان عقوبة لها حجمها الكبير في المسيحية ((28) .

 

          وأبرز قرارات المجمع القرار الذي اتخذه بشأن الأناجيل ، وهو أن الأناجيل المعتمدة الصحيحة هي الأناجيل الأربعة المنسوبة لـ ( متى ، لوقا ، مرقص ، يوحنا ) وأما ما عداها فمزيف مكذب تحرم قراءته ويجب حرقه وإبادته . وهذا بلا شك قرار جائر بحق الدين والتاريخ ، ويستطيع المرء أن يحمل المجمع ، أو هذا القرار خاصة ، مسؤولية ضياع النسخة الأصلية من الإنجيل المنزل ، لاسيما وأن الناظر إلى هذه الأناجيل يجد بينها من التضاد الشكلي والموضوعى ما يؤكد أنها ليست وحياً ، بل ليست سيرة صادقة للمسيح عليه السلام .

 

          إن اختيار أربعة مؤلفات من بين سبعين مؤلفا مع عدم إبداء أسباب تبرر ذلك ، لهو إجراء قسرى ، يعبر عن روح الرعونة والصلف اللذين لم ينفكا عن الكنيسة في أية حقبة من تاريخها ، ولذلك فليس عجيباً أن يعاملها العاقون من أبنائها بمثل ذلك التطرف والغلو ، وليت الأمر اقتصر على هذا ، لكن الكنيسة لم تحفظ الأناجيل الأربعة نفسها من التحريف بعد أن فرضتها على أتباعها ، وكان للأباطرة دخل في هذا التحريف ، ولا لوم عليهم فإنما قلدوا الكنيسة في ذلك . يقول " لاندر " أحد مفسري الأناجيل :

          " حكم على الأناجيل المقدسة جهالة مصنفها بأنها ليست حسنة بأمر السلطان أناسطيوس في الأيام التي كان فيها " مسالة " حاكماً في القسطنطينية فصححت مرة أخرى " (29) . وهذا القول اعتراف بالغ الخطورة ، فهو يقرر ثلاث حقائق تاريخية :

1-                 أن مؤلفي الأناجيل مجهولون ، وظلوا كذلك حتى القرن الرابع الميلادي .

2-                 أن لأهواء الحكام وميولهم يداً فيما تعرضت له الأناجيل من تحريف باسم التصحيح .

3-       أن التحوير والتعديل ظل يمارس في الأناجيل دون شعور بالحرج ، مما يدل على أنه عادى مألوف ، قد أورد الشيخ " رحمة الله الهندى " خمسة وأربعين شاهداً على التحريف بالزيادة في الأناجيل ، مدعمة بالوثائق والاعترافات ، نختار واحداً منها للتمثيل فقط .

 

" الآية الثالثة والخمسون من الباب السابع وإحدى عشر آية من الباب الثامن من إنجيل يوحنا إلحاقية ( مضافة) قال هورن في الحاقية هذه الآيات : أرازمس وكالون وبيزا وكروتيس و ……… والآخرون من المصنفين الذين ذكرهم ونفينس وكوجز لا يسلمون صدق هذه الآيات " ثم قال :

          " كرايز ستم وتهيو فلكت ونونسى كتبوا شروحا على هذا الإنجيل ، فما شرحوا هذه الآيات ، بل ما نقلوها في شروحهم ، وكتب ترتولين وساى برن في باب الزنا والعفة وما تمسكا بهذه الآيات ولو كانت هذه الآيات في نسخها لذكراً أو تمسكا بها يقينا "

          وقال وارد كتلك : " بعض القدماء اعترض على أول الباب الثامن من إنجيل يوحنا نورتن بأن هذه الآيات إلحاقية يقينا " (30) .

          فهذه أثنتا عشرة فقرة ، يكاد يكون هناك إجماع على إضافتها وغيرها كثير ، ولا غرابة في ذلك ، فليس لدينا حد فاصل بين كلام الله وكلام البشر ، بل ليس هناك ضابط يعرف به كلام المسيح من كلام غيره ، فالشك وارد على كل فقرة في الأناجيل إلى درجة أن أعظم المتعصبين لها لا يستطيع إقناع الباحث العلمي بسوى ذلك . 

 

 

 

.*.*. >> ثانياً :تحـــــــــــــــريف الشريعــــــــــــــــــــة << .*.*.

>><<

 

       ü          فصل الدين عن الدولة :

          يحسن بنا قبل الخوض في هذا الموضوع أن نوطئ له بمقدمتين :

الأولى : عن الدين في نظر الروم طبيعته والتزاماته .

الثانية : عن حالة الشريعة الإنجيلية ومدى تطبيقها في واع الحياة قبل أن يعتنقها الروم رسمياً .

 

أولاً – الدين في نظر الروم :

 

          نستطيع أن نقول أمن المجتمع الروماني (أي الجنس الأبيض المستعمر ) لم يكن دين موحد يتعبد به ، ولا فلسفة واحدة يؤمن بها ، بل كان غارقاً في دياجير جاهلية كاحلة متعددة الألوان مختلفة الأنحاء ؛

فالطبقة الحاكمة تشارك الشعب في أعياده الوثنية وتخدم تماثيل الآلهة الكثيرة ، بيد أنها لا تدين في الواقع بغير الشهوة العارمة للتسلط  والرغبة الجامحة في الاحتفاظ بكرسي المملكة ، لا سيما وأن الإمبراطور نفسه كان ((الهاً )) يعبده الشعب .

 

          أما الطبقة المثقفة فأشتات متفرقة ، منها اتباع المدرسة الرواقية المغلة في التجريد والتصوف ، ومنها مريدو المدرسة الأبيقودية المفرطة في البهيمية والحسيات ، ومدارس أخرى متأثرة بالفلسفات الوثنية الأغريقية في تصوراتها وأفكارها .

 

          وأما الطبقة العامة من الشعب فهي تميل بطبيعتها إلى التدين لكن التناحر بين الآلهة والصراع المرير بين الفلاسفة ، أفقها الثقة في المعتقدات الدينية والفلسفية بجملتها ، فآثرت الاستجابة لداعى الهوى والانصياع إلى الملذات الجسدية والإغراق في المتع الحسية .

 

          خلاصة القول أن الروم لم يعتنقوا دينيا اعتناقاً جدياً يجعلهم يسمون تصوراتهم وعقائدهم ونظام حياتهم منه وحده نعم كان لهم آلهة ولم تكن آلهة تقليدية (( لم تكن سوى محاكاة شاحبة للخرافات الوثنية اليونانية لقد كانت أشباحاً سكت عن وجودها حفاظاً للعرف الأجنبي ولم يكن يسمح لها قط بالتدخل في أمور الحياة الحقيقية )[1].

 

          وبذلك نستطيع أن نجزم بأن المجتمع الروماني كان مجتمعاً مادياً لا دينياً يعانى عزلة حادة عن معتقداته – أيا كانت – وبين واقع حياته العملى .

          وقد (( عبر سيسرو )) عن الانفصال العميق بين الدين ونظام الحياة عند الرومان بقوله : (( لما كان الممثلون ينشدون في دور التمثيل ما معناه أن الآلهة لا دخل لهم في أمور الدنيا يصغى إليها الناس ويسمها بكل رغبة )) (2)

          ويقول الراهب (( أوغسطين )) : (( إن الروم الوثنين كان يعبدون آلهتهم في المعابد ويهزأون بهم في دور التمثيل )) (3)

 

          ليس هذا فحسب ، بل أن أبيقور (ق4) قبل الميلاد – ليعلن على الملأ دعوة علمانية صريحة ، فهو يقول:

          (( إن الآلهة لا يشغلون أنفسهم بأمور بنى البشر ، إنهم موودن لأنهم يظهرون من آن لأخر للأشخاص (!) بيد أن مسائل العالم الأرضي لا تعنيهم ، وما من علامة تدل على أنهم يعنون بعقاب الآثم وإثابة الصالح ، أيمكن اعتقاد تدخلهم هذا ما نراه في هذا العالم ؟

 

(( إن جوبيتير يرسل الآن بالصواعق على معبده ، فهل سحق أبيقور الذي يجدف به )) ؟

 

          (( إن الآلهة يعيشون بعيداً عن العوالم ولا يهتمون إلا بشئونهم فلا تعنيهم أمورنا . إنهم يعيشون حكماء سعداء ويعظوننا بهذا المثال الذي يجب أن نسير على منواله فلنعظهم كمثل عليا يقتدى بها ، غير انه لا يجب علينا ان نشغل أنفسنا بما يريدونه منا ، فإنهم لا يريدون منا شيئاً ، هم لا يعيروننا بألا فلنفعل نحوهم كما يفعلون نحونا )) (4)

 

          هذا التصور للآلهة تشترك مع أبيقور فيه الغالبية العظمى من الرومان ، ومن الطبيعي جداً أن ينشأ عن هذا التصرف الخاطئ للإله تصور خاطئ لمهمة الدين في الحياة وواجب المخلوق تجاه خالقه . ولما كان الصراع هو التصور المشترك لطبيعة الحياة عند الرومان ، فقد كانوا يتصورون الآلهة وهي تتصارع في الفضاء كما يتصارع أبطالهم على الحلبة ، وليس من شأن البطل أن يشرع للجمهور بل كل همه أن يخرج من الحلبة ظافراً منصوراً

 

          وبما ان آلهة الرومان بطبعها لم تكن لتشرع لهم شيئاً ، فقد كان من الضروري أن يقوم بشر متألهون بمهمة وضع نظم الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للدولة ، و نتيجة لجهود هؤلاء برز إلى الوجود ((القانون الروماني )) الذي لا تزال أوروبا تعيش عليه أو على امتداده إلى اليوم ، أما النظم الأخلاقية وقوانين الآداب العامة  - إن وجدت فقد كانت ابيقورية محضة .

 

          وهكذا كان للرومان دين لكنه دين وجداني مجرد لا تأثير له في السلوك العملي ولا يفرض التزامات خلقية معينة ، ولا ينظم من شؤون الحياة شيئاً ، حتى إننا لنكاد نقول أن الامبراطورية الرومانية نسخة قديمة من الولايات المتحدة الأمريكية اليوم .

 

          كان الفرد الروماني كالأمريكي اليوم يخرج من نحلة إلى أخرى ، ويتنقل من مبدأ إلى نقيضه دون أن يطرأ على حياته العملية وسلوكه الشخصي أي تغيير فالدين في نظره فكرة مجردة وعقيدة وجدانية فحسب .

 

ثانياً حالة الشريعة الإنجيلية إلى سنة 325م :

 

          ليس الإنجيل أول كتاب سماوي أنزله الله ولا هو حتماً آخر كتاب ، فهو واحد من مجموعة كتب ابتدأت قبل المسيح بقرون وانتهت بالكتاب الخاتم المنزل على الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم .

 

          ومهمة الكتاب السماوي وغاية إنزاله بينها الله تعالى في القرآن الكريم أوضح بيان : (( كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ))

(2 123) ، فالحكم بالكتاب في كل اختلاف و تطبيقه في كل منحى من مناحي الحياة واستمداد كل القيم والقوانين والأنظمة والتشريعات منه هو الغرض المقصود من إنزاله ، والكتب السماوية هي   كما في الآية كتاب واحد بالنظر إلى أن منزلها واحد وموضوعها واحد ، وهو تقرير حقيقة واحدة لا تختلف أبداً هي توحيد الله وعبادته وحده بالمعنى الواسع الشامل للعبادة ، هكذا كانت التوارة (( وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء )) ( 7 : 154 ) فهي شريعة كاملة بالنسبة لعصرها قام عليها دول تملك خصائص الدولة من أمثال داود وسليمان عليهما السلام أنبياء يحكمون بما أنزل الله ويقيمون الحياة كلها على شرعه وأمره . وظلت التوراة ما شاء الله أن تظل منهاجاً وشريعة (( يحكم بها النبيون اللذين اسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار )) ، ( 5 :43 ) فما كان يجوز لمؤمن بها أن يستمد تصوراته وافكاره ولا سلوكه وتشريعاته من سواها .

 

          أما ما وقع في حياة بنى إسرائيل مما يخالف هذا فهو انحراف لا يقره الله ولا تقبله شريعته . ثم جاء عيسى عليه السلام (( رسولاً إلى بنى إسرائيل )) وهو أخر رسلهم ليصلح ما فسد ويقيم ما اعوج من عقائد وأخلاق اليهود ، وليردهم إلى الأصل الثابت : توحيد الله وعبادته وحده بتحكيم شرعه واتباع منهجه .

 

          وبما أنه مبعوث إلى بنى إسرائيل خاصة ، فلم يكن ناسخاً لشريعة موسى وإنما كان متمماً لهما ، وكان الإنجيل مصدقاً لما بين يديه وإن لم يكن مهيمناً عليه (5)

 

          وكان الجديد في شريعة الإنجيل التخفيف من بعض التشريعات التي لم تزل شرعاً دائماً وإنما جاءت عقوبة مؤقتة لليهود ، مع اشتماله على مواعظ بليغة اقتضاها ما جبل عليه اليهود من غلظة القلوب . وجفاف في الأرواح وإغراق تام في عبودية المادة وحرص مصر على التشبث بالحياة الدنيا .

          إذن فقد كانت التوراة ، مضموناً إليها تعديلات الإنجيل شريعة يجب أن تطبق ، وعقيدة يجب أن ينبثق منها كل منهج للحياة : (( وقفينا على آثارهم بعيسى بن مريم مصدقاً لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين ، وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل اله فيه ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الفاسقون )) ( 5:45 : 46 ) ، لكن الذي حدث هو أن هذه الشريعة لم يكتب لها التطبيق على المستوى العام لسببين متلازمين :

 

الأول أنه لم يكن لها دولة تتبناها وتقيمها في الأرض ، إذ من المعلوم أن عيسى ، عليه السلام ، توفاه الله ورفعه إليه وهو لم يزل في مرحلة الدعوة التي تشبه حال الدين الإسلامي قبل الهجرة .

 

الثاني انه ، عليه السلام قد بعث إلى قوم قساة القلوب غلاظ الأكباد ، وفي الوقت نفسه كانت المنطقة المبعوث فيها جزءاً من مستعمرات إمبراطورية وثنية عاتية ، فكان ميلاد الدين الجديد في محيط معاد كل العداء له ولرسوله ونتج عن ذلك اضطهاد فظيع للمؤمنين به لم يدع لهم فرصة  لتطبيقه إلا في النطاق الشخصي الضيق .

          وكان أول من وضع العراقيل أمام المسيح وشريعته اليهود قتلة الأنبياء ، وتكاد الأناجيل والرسائل تكون وصفاً للعنث الذي لقيه المسيح وأتباعه من الطوائف اليهودية ، وقد جللوا عداوتهم بإغراء الحاكم الرومانى بقتله وصلبه ، ولكن الله تعالى رفعه إليه ونجاه منهم ومنه .

ومن بعد وفاة المسيح ، عليه السلام ، اشتدت المحنة على أتباعه من اليهود والرومان سواء .

          أما اليهود فكانوا كما تحدثت رسالة (( أعمال الرسل )) يقتلون المسيحيين ويرجمونهم ويغرون بهم الولاة وكان من أبرز المضطهدين لهم شاؤل اليهودى ، الذي تقول عنه الرسالة المذكورة :

" أما شاؤل فكان يسطو على الكنيسة وهو يدخل البيوت ويجر رجالاً ونساءاً ويسلمهم إلى السجن" (6)، على أن أعظم محنة نزلت بالمسيحية عقيدة وشريعة هي عملية (( الغزو من الداخل )) التي قام بها شاؤل : فقد تظاهر باعتناق المسيحية وجاء بتعاليم مناقضة سبق ذكر بعضها ، وأخذ يؤلب على المسيحيين الحقيقيين ، وبذلك أحدث فوضى عقائدية وبلبلة فكرية ، فتضاعفت البلاء على المسيحيين ، إذ أصيبوا في دينهم وأنفسهم دفعة واحدة .

 

          وأما الرومان فقد أنزل أباطرتهم بأتباع المسيح أشد الأذى ، واشتهر باضطهادهم ( نيرون 64م) و (تراجان – 106 ) و ( ريسويس – 251 ) و( دفقلديانوس – 3280 ) وبلغ بهم الاضطهاد إلى درجة أن بعض الأباطرة كانوا يضعون المسيحيين في جلود الحيوانات ويطرحونهم للكلاب فتنهشهم ، أو يلبسونهم ثياباً مطلية بالقار ويقودونها لتكون مشاعل بشرية يستضيئون بها في مراقصهم (7) وفي وسع المرء أن يدرك الحال الذي تكون عليها شريعة يضطهد أتبعاها ثلاثة قرون ويطاردون في معتقداتهم وأفكارهم وهذه المطاردة ، كيف يمكن أن تقوم عليها دولة تنافح عنها وتلزم بتعاليمها وتثبت للعالم أنها شريعة كاملة .

وإذا اتضحت لنا هاتان الحقيقتان ، نعود إلى فصل الدين عن الدولة الذي مارسته الإمبراطورية الرومانية والكنيسة ابتداء من سنة (325) .

          إن الكنيسة لتهتز طرباً إذا ذكر لها عام (325) ، فهو يمثل في نظرها عام النصر الحاسم على أعداء المسيح وبداية العصر الجديد – عصر السيادة والحرية – بعد عصر الاضطهاد والهوان .

          لقد حصلت الكنيسة على ما لم يكن ليحلم به آباؤها الأولون … فبينما عاش المسيح والتلاميذ تحت تهديد الوالي الروماني ينظرون إلى الامبراطورية الفسيحة نظر من لا يطمع منها بشيء ، نرى الكنيسة في القرن الرابع تظفر بالامبراطور نفسه صيداً ثميناً وتعمده بالماء المقدس إيذنا بدخوله دين المسيح .

 

          إن هذا النصر كبير ، بل كبير جداً في حس الكنيسة وأتباعها ، لكن الكنيسة نسيت – وما أكثر ما تنسى – قولة المسيح الصادقة : ((ماذا ينتفع الإنسان إذا ربح العالم كله وخسر نفسه )) (8) . فماذا ينفع الكنيسة إذا ربحت قسطنطين وإمبراطوريته وخسرت دينها وتعاليمها ؟

 

          لو أن الكنيسة ربانية حقاً لكان أول عمل عملته بعد انقضاء عهد الاضطهاد المرير هو البحث عن ذاتها هي ، ببعث الإنجيل الأصلي ونشره وتحكيمه في شؤون الحياة ، وكان في إمكانها أن تقنع الامبراطور : فإما أن يقبل ذلك فيكون نصرانياً على الحقيقة ، وإلا فلتكف منه بصداقته ورعايته وتمارس تطبيق شريعتها على أتباعها الحقيقيين في ظل عطف الإمبراطورية . وذلك ما كان مفروضاً أن تضطلع به الكنيسة وأن يرضاه الإمبراطور ويتقبله . غير أن الذي حصل فعلاً هو أنه لا الكنيسة كانت مؤمنة جادة تطمع في هداية الناس ابتغاء مرضاة الله والدار الآخرة ، ولا قسطنطين كان مؤمناً جاداً يريد أن يخلع عن عنقه ربقة الوثنية ليخلص دينه لله ويقف بين يديه وقوف العابد أمام المعبود .

          إن الرابط الذي جمع بين الكنيسة والامبراطور هو رابط المصلحة الدنيوية لكلا الطرفين لا غير ، وإن كانت مصلح الامبراطور أرجح وتنازله أرخص .

 

          يقول دابر :

          " إن هذا الإمبراطور الذي كان عبداً للدنيا والذى لم تكن عقائده الدينية تساوى شيئاً رأى لمصلحته الشخصية ولمصلحة الحزبين المتنافسين … النصرانى الوثنى ؛ أن يوحدهما ويؤلف بينهما ، حتى أن النصارى الراسخين أيضاً لم ينكروا عليه هذه الخطة ، ولعلهم كانوا يعتقدون أن الديانة الجديدة ستزدهر إذا طعمت ولقحت بالعقائد الوثنية القديمة ، وسيخلص الدين النصراني عاقبة الأمر من أدناس الوثنية وأرجاسها " (9) .

         

كما أدرك هذه الحقيقة المؤرخ الإنجليزي ( ويلز ) ، قد شرح بدقة حال الإمبراطور معللاً اعتناق قسطنطين للمسيحية إنها ديانة رسمية بأنه محاولة منه لإنقاذ امبراطوريته المتضعضعة من التفكك والإنحلال(10) ، وهو ما قال به جيبون من قبل(11).

 

          هذا بالنسبة للإمبراطور ، أما الذين اعتنقوا المسيحية من المواطنين الرومان فلم يتغير تصورهم السابق عن الدين ومهمته في الحياة ، وكان التغيير الذي طرأ عليهم هو إحلال مسمى ( الأب والابن وروح القدس) محل ( جوبتير ومارس وكورنيوس) فما كانوا ينتظرون من آلهة بولس وكنيسته من تشريع وتوجيه إلا ما ينتظر من آلهتهم الجامدة الشاحبة ، ولم يكن مقام الأب الذي نادت به الكنيسة ليزيد عن مقام الأب الذي نادت به الكنيسة ليزيد عن مقام جوبتير الذي صوره أبيقور .

 

          وهكذا لم تستطع الكنيسة بتصويرها الفاسد أن تقتلع جذور الوثنية المتغلغلة في أعماق النفس الرومانية ، ولا أن تسمو بتلك النفوس من عالم الملذات الجسدية إلى عالم الفضيلة والطهر – باستثناء القلة التي ترهبت – ولقد عبر أحد المؤرخين الغربيين عن ذلك بقوله : ( أن المسيحية لم تكن عند أكثر الناس غير ستار رقيق يخفي تحته نظرة وثنية خالصة إلى الحياة ) (12) .

 

          وإذ قد عجزت عن ذلك ، فمن الطبيعي أن تعجز عن إقامة الحياة : بنظمها وقيمها وأخلاقها على أساس من الدين ، وبقى الدين كما كان هواية شخصية محدودة التأثير لم يتغير فيه ، إلا أن المراسم الشكلية كانت تؤدى في معابد فأصبحت تؤدى في كنائس . ولم يقتصر الأمر على هذا ، بل أن الكنيسة تزحزحت عن مركز التأثير إلى مركز التأثر ، فدخلت الخرافات والأساطير والتقاليد الوثنية في صلب تعاليمها وطقوسها ، وامتزجت بروايات الأناجيل وآراء المجامع المقدسة ، كما حدث امتزاج وتلاقح بين الشريعة والقانون الرومانى فاصبحت المسيحية ديانة تركيبية كما وصفها لوبون (13) .

وهذا الضلال والخطل الذي وقعت فيه الكنيسة لا يبرره ما ذهب إليه ليكونت دى نوى ، حين قال :( قبل الدين الكاثوليكى الذي نشأ على شواطئ المتوسط ذات المخيلة الواسعة بعض العادات لأنه لا يجد إلى إزالتها سبيلاً .

وانتهت – أي الكنيسة – مرغمة على قبول المساومة وقد طغت عليها أمواج الخرافات القديمة الجارفة )(14) ، فالمؤمن الحق لا يقبل المساومة على دينه مهما قست الظروف والأحوال .

 

         

كما لا يبرره من باب أولى ما ذهب إليه فشر في قوله :

          (( إن حكمة الكنيسة المسيحية هدت آباءها الأولين إلى قبول ما لم يستطيعوا معه منعاً من قديم العادات والتقاليد والمعتقدات ، بدليل استقبال الكنيسة لمبدأ تعدد الآلهة الراسخ بين شعوب البحر الأبيض المتوسط وتطويع ذلك المبدأ لما تقتضيه عقائدها (15) .

 

          قد يكون جرم الكنيسة أهون لو أنها عدت عملها هذا تصرفاً استثنائياً مؤقتاً تفرضه عليه الضرورة الطارئة ، ثم لا تلبث الشريعة أن تبرز إلى حيز التنفيذ على كل نشاطات الحياة . غير أن الذي تم فعلاً هو أنها اتخذت ذلك قاعدة ومنهجاً وسارت فيه إلى أبعد شوط .

 

          وكان أول من سن سنة التنازل على الشريعة مقابل قبول العقيدة هو شاؤول ( بولس ) يقول برنتن .

          (( كانت العقبة الكبرى في وجه الأممين الذين وجدوا أسلوب الحياة المسيحية جذاباً قانون اليهود )) – أي شريعة التوراة – ثم يشرح برنتن كيف أن بولس زال هذه العقبة فلأفتى بأن (( الإغريق والمصريين والرومان الذين يقبلون المسيحية في حل الختان وفي حل التقيد بحرفية القانون )) (16) .

 وبمرور الزمن أصبح هذا الانحراف منهجاً مقرراً اعتمدته الكنيسة بعد مجمع نيقية ففصلت بين العقيدة وبين الشريعة ، بين الدين والدولة وقسمت الحياة البشرية دائرتين مغلقتين :

 

   ü    الأولى – ( دينية ) من اختصاص الله ويقتصر محتواها على نظام الاكليروس والرهبنة والمواعظ وتشريعات طفيفة لا تتعدى الأحوال الشخصية .

         ü    والأخرى – (دنيوية ) من اختصاص قيصر وقانونه ، ويحوى محيطها التنظيمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلاقات الدولية ونظم الحياة العامة .

 

          هذه القسمة الضيزى لم تجد الكنيسة غضاضة فيها ، ولم تتحرج من جعل قيصر شريكاً لله في ملكه ، بل اعظم من شريك ، فقسمت الكون شطرين : شطر لله وشطر لقيصر ، فما كان لله فهو يصل إلى قيصر وما كان لقيصر فلا يصل إلى الله .

 

          ويرى بعض المؤرخين أن السبب الذي أوقع الكنيسة في ذلك هو نظرتها القاصرة إلى الحياة الدنيا .. يقول صاحب ( تاريخ أوروبا في العصور الوسطى) : (( إن المسيحيين الأوليين على وجه الإطلاق لم يعمدوا إلى شيء من الإصلاح في المجتمع الرومانى الذي نبتوا فيه برغم ما هو معروف من تحريمهم لكثير من العادات والطقوس القديمة ، ولم تكن لهم فلسفة في الدولة وأصول الحكم ولا الايمان بتجديد المجتمع من طريق الانشاء والتنظيم ، ولم يخطر ببال أحد منهم أن في استطاعته جماعاتهم الصغيرة البعيدة عن السلطة والنفوذ أن تحدث بالسياسة الرومانية أو المجتمع الرومانى شيئاً من التعديل ، ذلك أنهم أيقنوا أن الدنيا متاع الغرور والشرور وتعلموا أن الانسان طريد جنة الخلد وحق عليه العذاب المقيم .

          (( وتعلموا كذلك أن هذه الدنيا الغرارة لن تلبث حتى تزول وإن رجعة المسيح إلى الأرض ، وهي ما أعتقدها الناس وشيكة الوقوع ، سوف تملأ الدنيا عدلاً بعد ما ملئت الدنيا ظلماً وجوراً وخبثاً ونقصاً يمحوه كله المسيح محواً ، وإذا كان كذلك فما الذي يحمل المسيحي على إلغاء الرق أو الحرب أو المتاجرة في المحرمات أو الربا أو استعمال القوة الغاشمة التي ساعدت الدولة الرومانية على النهوض ما دام ذلك كله مقضياً عليه بالزوال ، وما دامت المشكلة الكبرى تنحصر في الوسيلة الواقية من العذاب الذي كتبه الله على الناس جزاءً وفاقا لما ارتكبه آدم من الخطيئة في جنة الخلد ، ولذا رضى المسيحيون بجميع ما وجدوا من نظم لا قبل لهم بتغييرها (17)

 

          وهذا التعليل مصيب ، لكنه لا يمثل الحقيقة كاملة ، فإن للكنيسة مستندات نقلية من نصوص الأناجيل لابد من عرض نموذج لها ومناقشته ، وأهمها نصان:

 

1- القول المنسوب إلى للمسيح (( أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله )) :

          هذا القول هو أقوى وأصرح حجج الكنيسة ، ولقد ظل شعاراً ترفعه أوروبا كلما أملى عليها الهوى أن تخالف شرع الله وتتمرد على شرعه ، وبفضل هذا الشعار أخذ الدين ينكمش وينحسر على مر القرون حتى لم يبق له في أحسن الأحوال إلا ساعة في الأسبوع خاوية من كل معنى .. فما قيمة ذا الدليل بالمناظرة العلمية المنصفة ؟

 

          لقد سبق أن قلنا إن كل ما روى عن المسيح من أقوال ليست منسوبة إليه يقيناً ، بل لا ظناً راجحاً ، فالكنيسة بدلت وحرفت وأضافت وحذفت حتى طمست تعاليمه وأقواله ودفنتها إلى الأبد ، وهذا القول مما يجوز أن يقال فيه – مبدئيا – إن المسيح لم يقله وإنه من غضافات الكنيسة ، ومادام البحث العلمي يقرر أن الأناجيل كلها ظنية الثبوت ظنية الدلالة فكيف يسوغ للكنيسة أن تحتج بهذه الظنيات في مسألة بالغة الخطورة كهذه ؟

ولندع القيمة العلمية التاريخية للنص وننظر نظرة موضوعية فاحصة في منطوق العبارة ومدلولها فماذا نجد ؟

 

          إن هذه العبارة ظاهرها الأمر الصريح بالشرك (( أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله )) فهي تجعل قيصر شريكاً لله في التوجه إليه بالعمل ومن ينفذها عن ظاهرها يقع حتماً في شرك الطاعة والاتباع وهو شرك أعظم ، لتنافيه مع توحيد الألوهية ، وهذه الدلالة تكفي لنفي صدور العبارة من المسيح عليه السلام ، لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إنما بعثوا لتحذير الجماعة البشرية من الشرك وتنفيرها منه جليلة ودقيقة ، فكيف يأمر نبي من أنبياء الله من أولى العزم بالشرك ويدعو إليه بهذه الصورة ؟

 

          وهذا في الحقيقة كاف إسقاط حجية العبارة لكننا سنجامل الكنيسة ونجرى مع احتمالها الضعيف جداً مفترضين جدلاً أن المسيح عليه السلام تفوه بما نسب إليه ، فهل يعنى ذلك أن نفهم من العبارة ما فهمته الكنيسة من ظاهرها ونتخذ من فهمنا قاعدة هي أعظم القواعد الكنسية العملية على الإطلاق ؟ لنتتبع معها سياق العبارة فقد يعين على فهمها – إن قبلت – على حقيقتها :

 

          يقول متى في إنجيله :

          (( ذهب الفريسيين وتشاوروا لكي يصطادوه بكلمة ، فأرسلوا إليه تلاميذهم مع الهيرودوسيين قائلين : يا معلم إنك صادق وتعلم طريق الله بالحق ولا تبالى بأحد ، لأنك لا تنظر إلى وجوه الناس ، فقل لنا ماذا تظن : أيجوز أن تعطى جزية لقيصر أم لا ؟ فعلم يسوع خبثهم وقال : لماذا تجربونني يا مراؤون، أروني معاملة الجزية ، فقدموا له ديناراً فقال لهم : لمن هذه الصورة والكتابة : قالوا ا له : لقيصر : فقال لهم أعطوا إذن ما لقيصر لقيصر وما لله لله . فلما سمعوا تعجبوا وتركوه ومضوا (18)

 

          كان المسيح عليه السلام واتباعه قلة مضطهدة تتبنى دعوة جديدة ناشئة ، فلم يكن في مقدورها أن تصطدم بالإمبراطورية الطاغية ، وتواجهها بعداوة سافرة ، ولم تكن هذه المواجهه مطلوبة منها وهي لا تزال في طور الدعوة – يقابل ذلك في الإسلام فترة ما قبل فرض الجهاد – وهذا الطور يقتضي الالتزام بمبدأ ( كفوا أيديكم ) كيلا يستثار عدو باطش فيفتك بالدعوة في مهدها .

 

          هذا المنهج في الدعوة لاحظه الفريسيون – أعدي أعداء المسيح – فسولت لهم أنفسهم الحاقدة أن يدبروا مكيدة للمسيح ودعوته ، بحيث تخرج الدعوة عن منهجها ومسارها المقرر وتناوئ الأوضاع القائمة مباشرة وبذلك يجدون طريقة للإيقاع بالمسيح لدى الحاكم الرومانى فكان هذا السؤال الخبيث .

 

          والواقع انه ليس في استطاعة المسيح – عليه السلام – والقلة المسلمة معه ولا من منهج دعوته أن يرفضوا دفع الجزية للجابي الروماني الذي يجمعها من كل رعايا الإمبراطورية ويدفعها للطاغوت قيصر ، ولكن هذا لا يعنى أبداً أن المسيح عليه السلام يقر ذلك الواقع الظالم ، ويعترف لقيصر بحق مساواة الله في خلقه ويجعله شريكاً له في ألوهيته كما فهمت الكنيسة .

          فالمسيح عليه السلام – لو صحت العبارة – وافق على إجراء مؤقت تقتضيه ضرورة الواقع وطبيعة الدعوة المرحلية .

 

          إذا كانت دعوة الأنبياء في جوهرها واحدة ، فإن أول فرض للجهاد في الإسلام كان إذناً وليس أمراً ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير ) (22 : 39 ) وذلك أن القلة المسلمة في مكة كانت تطمع في الثأر لنفسها من الاضطهاد المرير الذي تلقاه من جبابرة مشركي قريش : كأن تغتال بعض المضطهدين مثلاً ، او تسلبهم شيئاً من أموالهم وراحتهم ، واستأذنوا الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك فكان الأمر من الله تعالى بكف اليد ولذلك أجابهم الرسول صلى الله عليه وسلم ( إني لم أؤمر بهذا ) (19)وذلك كي تظل الدعوة سائرة في منهجها المرسوم لا تستفزها تحركات الأعداء للإيقاع بها وإبادتها في مهدها

 

          ولو قدر للمسيح عليه السلام أن تبلغ دعوته من القوة ما بلغت الدعوة الإسلامية عند الأذن بالجهاد لأذن لقومه بأن يرفضوا دفع الجزية لقيصر ، بل لأمرهم بجهاد الرومان وإشهار عداوتهم .

 

          وبذلك يتضح أنه حتى في حالة ثبوت العبارة فأنها ذات مدلول جزئي مؤقت في مسألة فرعية ، ولا يجوز أن يستنبط منه قاعدة أبدية عامة يفضي تطيقها إلى إهمال شريعة الله ، والتخلي عن إقامة دينه في واقع الحياة وإقرار أحكام الطاغوت .

 

          2- (( مملكتي ليست من هذا العالم ))

          بقطع النظر عن صحة نسبة هذه العبارة إلى المسيح  عليه السلام أو عدمها ، نجد أن الكنيسة فهمتها فهماً خاصاً ، وجعلت هذا الفهم منهجاً واصلاً من أصول عقيدتها تقاوم بها الفطرة البشرية والعقل السليم والتطور الإيمانى المستقيم .

          فهمت الكنيسة من قول المسيح (( مملكتي ليست من هذا العالم )) إن كان قالها – إن الدنيا الخرة ضرتان متناحرتان وضدان لا يجتمعان : الدنيا مملكة الشيطان ومحط الشرور والاثآم ، وعمل الإنسان فيه لتحسين أوضاعه المعاشية ومحاولة تحقيق القسط الملائم من السعادة والرفاهية والتمتع بطيبات وخيرات الكون : كلها أعمال دنسه يمليها الشيطان ليصرف الإنسان عن مملكة المسيح الخالدة ( الآخرة ) والفقر وشظف العيش – حسب المفهوم الكنسي– هما مفتاح الملكوت الضامن ، وتنسب الأناجيل إلى المسيح قوله (( إن مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غنى إلى ملكوت الله )) (20) . وبمقتضى ذلك لا يسأل الإنسان الله شيئاً من متاع الدنيا أو خيراتها العاجلة ، بل يقتصر على ما طلبه المسيح حسب رواية الأناجيل(خبزنا كفانا ) (21) .

          والإنسان – حسب هذا المفهوم – يولد موصماً بالخطيئة الموروثة ويدخل إلى الدنيا دخول المجرم إلى السجن ، وكما أن آباه أكل من الشجرة فعوقب بالطرد من الجنة وقضى عليه بالحرمان والنكد ، فكذلك إذا تمتع بطيبات الدنيا وملاذها فسيعاقب بحرمانه من نعيم الملكوت .

          إذا كان هذا هو حال الدنيا وحال الإنسان فيها ففيم العناء لإصلاح ما وجد بطبيعته فاسداً وما جدوى تقويم ما خلق أصله معوجاً ؟ ليتحكم الجبابرة في الناس وليستعبدوهم وليعبثوا في الكون كما يريدون فسوف يحاسبهم المسيح يوم الدينونة ! وليجمع الناس المال ويتمتعوا بالحياة الدنيا ويتزوجوا وينجبوا فسوف يحرمهم ذلك من الدخول في ملكوت الله والفوز في الملأ الأعلى . أما المسيحي الكامل لإيمان . فما له ولهذه الأمور . أليس كل همه الخلاص من هذا المأزق ، مأزق وجوده في هذه الأرض في مملكة الشيطان ؟

          هكذا استخلصت الكنيسة من تلك العبارة وأشباهها مفهوماً سلبياً ضيقاً للحياة الدنيا ن وبالتالي لمهمة الدين فيها ، يائسة من إمكان إقامتها على الحق والعدل الإلهي ، فحرفت المسيحية من عقيدة شاملة ذات منهج رباني كامل نزلت لتغيير الواقع الجاهلي المنحرف الذي يعيشه الناس وإقامة واقع جديد تحكمه الشريعة المنزلة إلى نظرة بوذية قاصرة للدنيا ، مشفوعة بآمال وأحلام مرتقبة في الآخرة ، ورأت أ تنظيم شئون الدولة وتقويم النظم السياسية والاقتصادية وإصلاح الأوضاع الاجتماعية ليس من دينها في شيء لأن مملكة المسيح ليست من هذا العالم .

          ولا يعنى هذا أن الكنيسة لم ترأس سلطات سياسية أو نفوذاً اجتماعياً فقد كان مها ما لم يكن من اعتي القياصرة (22) … لكن هذه الممارسة تظل محدودة بنطاق المطامع الشخصية لرجال الدين ، وكانت الرغبة في إشباع هذه المطامع وليست الرغبة في إقامة دين الله وشرعه هما الدافعان ورائها ، فكان البابا يهمه بالدرجة الأولى أن يتولى تتويج الملوك ويحصل منهم على الضرائب والجنود ولا يسمح بأدنى تساهل في ذلك ، أما حكمهم بغير ما أنزل الله فلا شأن له به لأن ذلك من اختصاص قيصر ولأن مملكة المسيح ليست في هذا العالم .

          والواقع أن هذه العبارة كسابقتها لا تنهض دليلاً لما زعمته الكنيسة ، بل إن لها إن صحت معنى أخر يوضحه السياق ، وها هو سياقها كما ورد في إنجيل يوحنا :

          ( دخل بيلاطس أيضاً في دار الولاية و دعا يسوع وقال له : أنت ملك اليهود . أجابه يسوع : أمن ذاتك تقول هذا أم آخرون قالوا لك عنى ؟ أجابه بيلاطس : العلي أنا يهودي ؟ أمتك ورؤساء الكهنة أسلموك لي ماذا فعلت . أجاب يسوع مملكتي ليست في هذا العالم لو كانت مملكتي في هذا العالم لكان خدامي يجاهدون لكي لا أسلم لليهود ولكن الآن ليست مملكتي من هنا )) (23)

 

إن القضية لتبدو واضحة العيان : لقد دبر اليهود مكيدة أخرى ، حيث رأوا أنه يمكن إيغار صدر (( بيلاطيس )) على المسيح بتلفيق تهمة ضده مفادها انه يدعى أنه ملك على اليهود وزعيم سياسي يهدف إلى استقلال أمته عن الاستعمار الروماني والتبعية لقيصر ، وهي تهمة كفيلة بتعريض المسيح ودعوته لأقسى العقوبات .

 

          تظاهر اليهود بالنصح للحاكم الروماني والحدب على دولته فحملوا المسيح إليه موجهين إليه هذه التهمة . حينئذ وقع بيلاطيس بين تيارين نفسيين : تيار النخوة والوطنية الرومانية ، وتيار التعقل والروية الذي يبعثه في نفسه علمه بخبث طوية اليهود من جهة ، وتيقنه من براءة المسيح من جهة أخرى لذلك تردد كثيراً في الأمر وهم أخيراً بأن يطلق سراح المسيح فصرخ اليهود قائلين : ( إن أطلقت هذا فلست محباً لقيصـر . كل من يجعل نفسه ملكاً لقيصر ) (24) .

 ولما رأى إصرارهم على صلب المسيح دفعه إليهم قائلاً :إن لكم شريعة تحاكمون إليها أبناء شعبكم فخذوا ملككم واصلبوه وفق شريعتكم ، فصرخوا قائلين اصلبه أنت أما نحن ف (( ليس لنا ملك إلا قيصر )) (25)

وأخيراً نجحت المكيدة ، بل على الصحيح : هكذا ظن اليهود .

ذلك موجز القصة كما رواها إنجيل يوحنا وخلال التحقيق مع المسيح وردت هذه الكلمة عنه ( مملكتي ليست من هذا العالم ) – كما يقول الإنجيل – وهو إن قالها فإنما كان يريد أن يقول لبيلاطس : لست ملكاً من النوع الذي تتصوره أنت واليهود على طراز قيصر وكسرى فإن الملك الذي تتخيلونه أنتم بمعنى العزة والمجد العريض والشرف الباذخ ليس حظي منه في هذه الدنيا وإنما هو عند الله في دار كرامته الخالدة ، وما دمت لست طامعاً في مناصبكم الدنيوية ومظاهركم الكاذبة فما الذي يحملكم على تجريمي وبأي حق تدينوني ؟

 

ولم يقل المسيح ولم يرد أن يقول : أنني بعثت إلى الضعفاء والعجزة لأعظمهم في الكنائس ولأعمر بهم الأديرة وتعاليمي ليست سوى طقوس روحانية لا علاقة لها بالحياة ، كما فهمت الكنيسة : فقد أعلن دعوته صريحة على الملأ : ( لا تظنوا أني جئت لألقى سلاماً على الأرض ، ما جئت لألقى سلاماً بل سيفاً ) (26)

 

ولم يقل كما قال اليهود ليس لي ملك إلا قيصر . ولو قال ذلك أو شيئاً منه لربما سلم من الأذى وبرئ من التهمة لكن حاشا أن يقول ذلك وهو رسول الله الذي أرسله لهدم كل سلطان لغير الله في الأرض ومهما ظل عاجزاً عن هدمه فلن يقر ويعترف به .

 

ومع ذلك فقد كان يعلم من الله أن نهايته قد أوشكت وأنه لن يكون له سلطان في هذه الحياة الدنيا ، ولذلك لم يأمر أحد من اتباعه بالدفاع عنه ، بل أمر رجل منهم سل سيفه أن يغمده . وقال ذلك لبيلاطيس صريحاً : ( لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خدامي يجاهدون لكيلا أسلم إلى اليهود ، ولكن الآن ليس مملكتي من هنا)

وهكذا نرى كما رأينا أن الكنيسة تعمد عبارات تنسبها الأناجيل إلى المسيح قيلت مجازاً أو وردت في ظروف مؤقتة وملابسات خاصة لتقرر منها قواعد أصولية تؤسس عليها دينها المحرف دون مراعاة لمنطق الاستدلال ومقتضى التحقيق العلمي .

 

 

 

 

 

 


 


(1) انظر مثلاً :معالم تاريخ الإنسانية ،ويلز ، ج3 ؛وحياة الحقائق ،لوبون ص68؛ بالإضافة إلى أفكار ورجال "المثبت أعلاه" .

(2) ورد حمل العذراء في الأساطير لا يدل على أنها خرافة محضة ، بل أن الخيال البشري تخيل ذلك على أنه أعجوبة خارقة ثم حققها الله تعالى في مريم _ عليها السلام لتكون معجزة إلهية.

(3) انظر :أفكار ورجال :جرين برنتن ، ص 202-208 .

(4) انظر:معالم تاريخ الإنسانية :3/706.

(5) انظر محاضرات في النصرانية :38-39.

(6) انظر معالم تاريخ الإنسانية :3/708 وحرية الفكر : سلامة موسى 38 .

(7) المصدر السابق :717 وتاريخ العالم :هاملتون :3/588 ، والهلنستية بإيجاز "الإغريقية الحديثة ".

(8) انظر قصة الحضارة :ديوارنت 10/الفصل السابع .

(9) تاريخ العالم 3/589.

(10) أفكار ورجال 207

(11) معالم تاريخ الإنسانية :720،693.وبعض الكتاب أنكر وجود المسيح كلية .انظر :محاضرات في النصرانية :42،ولكن هذا مما لا يلتفت إليه .

(12) الجفوة المفتعلة بين العلم والدين :11.

(13) المصدر السابق :15-16.

(1) عن الجفوة المفتعلة :15 .

(2) انظر رسالة بولس إلى أهل رومه صح 1 :4-5 .

(3) انظر محاضرات في النصرانية :84 ، والسنهدرين محكمة يهودية خفية تخطط منذ القدم لمستقبل اليهود وتعمل للقضاء على عقائد وأخلاق الأميين ونهب أموالهم ، ومقرها الحالي أميركا وجهازها التنظيمي الأعلى يسمى "كيهيلا " أما منهجها العملي فيسير وفق تعاليم التلمود .

(4) انظر أعمال الرسل صح 8،9 .

(6) معالم تاريخ الإنسانية :3/705-706 .

(6) المصدر السابق :3/709.

(7) اضمحلال الإمبراطورية الرومانية : 1/611 .

(8) أفكار ورجال .

(9) قصة النزاع بين الدين والفلسفة ، توفيق الطويل : 83 ، وانظر سلسلة تراث الإنسانية /648 ، 662 .

(10) المصدر السابق : 87 .

(11) المصدر السابق : 89 .

(12) الله واحد أم ثالوث : مجدى مرجان : 11 .

(13) مستفادة من محاضرة شفوية للشيخ الغزالى للسنة 96 1393 هـ ثم وجدت مثلها في شرح الطحاوية : 247 .

(14) عن محاضرات في النصرانية : 215 .

(15) انظر اظهار الحق الشيخ رحمه الله : 257 260 .

(16) أفكار ورجال : 177 .

(17) رسالة يوحنا الأولى صح 5 : 1-3 .

(18) صح 5 : 10 .

(19) صح 12 : 9 .

(20) بمناسبة الحديث عن التثليث نورد قصة طريفة ذكرها الشيخ رحمة الله في إظهار الحق مفادها أن ثلاثة أشخاص تنصروا على يد قسيس ، فزار صديق للقسيس القسيس وتلاميذه وسأله ، هل علمتهم العقائد الضرورية ؟ قال نعم ، واستدعى أحدهم وسأله أما صديقه الزائر عن عقيدته فقال : أنك علمتني أن الآلهة ثلاث أحدهم في السماء ، والثاني الذي تولد في بطن مريم العذراء ، والثالث الذي نزل في صورة الحمام على الإله الثاني بعد ما صار ابن ثلاثين سنة فغضب القسيس وطرده ثم استدعى الثالث ، وكان أذكى الثلاثة ، وسأله فقال : يا مولاي حفظت ما علمتني حفظاً جيداً وفهمت بفضل الرب المسيح أن الواحد ثلاثة والثلاثة واحد والإلهة ثلاثة صلب منهم فمات الكل لأنهم واحد ، ولا إله الآن ……

                هذا ومعلوم أن موقف معظم المثقفين الغربين هو موقف التلميذ الثالث بعينه   .

(21) مرقص : 1 : 16 .

(22) عن الجفوة المفتعلة : 13 .

(23) إظهار الحق : 292 ، وانظر محمد رسولاً نبياً / عبد الرازق نوفل : 188 .

(24) صح : 1 .

(25) حياة الحقائق : 62 .

(26) أنظر أعمال الرسل من العهد الجديد صح :1 .

(27) أنظر اضمحلال الإمبراطورية الرومانية : جيبون 1/564 .

((28) انظر ما نقله الشيخ أبو زهرة عن ابن البطريق : محاضرات في النصرانية : 144 وقد أكد جيبون تدخل قسطنطين المباشر في المؤتمر وفرضه لقراراته بالقوة : 1/626/627 .

(29) إظهار الحق : 296 .

(30) اظهار الحق : 264 .

[1] الإسلام على مفترق الطرق :محمد أسد : 38 .

(2) ماذا خسر العالم بإنحطاط المسلمين : الندوى :163 .

(3) ماذا خسر العالم بإنحطاط المسلمين : الندوى :163 .

(4) المشكلة الاخلاقية والفلاسفة ، كرسون : 67 .

(5) يقول انجيل متى عن المسيح (( لا تظنوا أنى جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء ما جئت لأنقض بل لأكمل)) 5 : 81 .

(6) صح 8 :4

(7) انظر محاضرة في النصرانية : 32 ، وتاريخ العالم الإسلامى : 21 واضمحلال الامبراطورية الرومانية : فصل 15

(8) متى 16 : 27 .

(9) عن ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين : 167 .

(10) انظر معالم تاريخ الانسانية :3 :718 – 719 .

(11) انظر اضمحلال الامبراطورية الرومانية : الفصل العشرون .

(12) تاريخ العالم 4/330

(13) حياة الحقائق : 68 .

(14) مصير الإنسان : 252 ، 255 .

(15) تاريخ أوروبا العصور الوسطى : 1/80 .

(16) لأفكار ورجال : 18 .

(17) 2/ 109 – 110 .

(18) 22 : 14 – 23 وفي مرقص 12 : 14 – 18 .

(19)  انظر تفسير بن كثير : 3/225 ، 1 /525 .

(20) متى : 19 / 25 .

(21) متى : 6 / 12 .

(22) انظر الباب الثانى : فصل طغيان الكنيسة لا سيما الطغيان السياسي ، 333 .

(23) 18 : 34 – 37

(24) يوحنا : 19 / 12 .

(25) يوحنا : 19 / 15 .

(26) متى : 10 : 35 .