Site hosted by Angelfire.com: Build your free website today!

بسم الله الرحمن الرحيم

لمحات من حياة شيخ الإسلام ابن تيمية

مقدمة

الحمد لله القائل أشهد الله أن لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد القائل: العلماء ورثة الأنبياء، وعلى آله وصحبه ومن سار على هديه ودعا بدعوته من أئمة الدين وعلماء الإسلام وعلى كل قائم لله بدعوة صحيحة داخل في قوله تعالى: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين}.

وبعد

الدوافع إلى تأليف هذا الكتاب:

فإن شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه من النفر القليل الذين كانت حياتهم كلها لله، والذين دعوا إلى الله على بصيرة، شاهداً لله سبحانه وتعالى أنه لا إله إلا هو، قائماً بالقسط، فقد كتب وألف عشرات المجلدات بل مئات المجلدات في هذين المعنيين: إثبات وحدانية الله سبحانه وتعالى وتحذير الأمة من الشرك الذي تفشى فيها بعد صدر الإسلام، ثم إثبات عدل الله في تشريعاته وقضائه وقدره، ولقد تعرض شيخ الإسلام في سبيل ذلك إلى تفنيد مزاعم قوى الشر كلها التي انتشرت وسادت المسلمين في عصره في القرن السابع الهجري وأوائل الثامن. فتصدى بالرد على الفلاسفة وأذنابهم والرافضة وأكاذيبهم، والباطنية وخبثهم ونفاقهم، والصوفية وعقائدهم الفاسدة وترهاتهم، وللمتكلمين وخلفائهم وتأويلاتهم الباطلة، وللمقلدين وعبادتهم لشيوخهم وتعصبهم لآرائهم المخالفة للكتاب والسنة، والنصارى وضلالهم، واليهود وخبثهم وأفسادهم، وألف في كل ذلك وكتب ودرس وسافر وارتحل وناقش ولم يكتف بهذا أيضاً بل جرد سيفه لقتال التتار فجمع الجموع لملاقاتهم، ووحد صفوف المسلمين لحربهم، وخاض المعارك ونصره الله عليهم..

وهو في كل هذا عازف عن الدنيا، لم يتزوج ولم يكتنز مالاً أو يبني داراً ويتخذ عقاراً إلا ما أراده من دار الآخرة.

وعالم هذا شأنه لا شك أن يكثر أعداءه وحساده.. فقد عادى الدنيا كلها في الله وخاصم كل منحرف في ذات الله، ولم يداهن أميراً ولا وزيراً في الحق، بل صدع به حيث كان، ولذلك كثرت ابتلاءاته ومحنه فلا يخلص من محنة إلا ودخل في أخرى، ولا ينتهي من سجن حتى يزج به في سجن آخر، ولا ينصر في محاكمة حتى تعقد له محاكمة جديدة.. وكل ذلك وهو صابر محتسب، بل فرح مستبشر أن أكرمه الله بكل هذه الكرامات وهيأ له كل هذه الأسباب لينشر علمه وتعظم محبة أهل الخير له، فكان قدوة للعالمين من أهل الخير في زمانه، ونموذجاً للعلماء العاملين في وقته، بل كان من تلاميذه جهابذة الأمة في كل فرع من فروع المعرفة الدينية فمن تلاميذه ابن كثير إمام المؤرخين والمفسرين، والذهبي علم المحققين والحافظ المزي، إمام من أئمة النقل والرجال والحديث وابن عبدالهادي علم التحقيق، وابن القيم إمام الأمة وفارسها، وروحاني الإسلام.. وخلق كثيرون.. ثم أصبحت كتبه من بعده هي الهادي والمرشد لعقيدة أهل السنة والجماعة، بعد أن لبس الملبسون من أهل الكلام والزندقة على الناس، ونشروا عقائدهم الباطلة في الأمة فقام هذا المجدد الفرداني والعالم الرباني فكشف بنور القرآن والسنة أضاليل أهل الكلام والبدعة والزندقة والردة.

* أعود فأقول عالم هذا شأنه وكثر حساده وأعداؤه في حياته وبعد مماته ينقبون كتبه ويفتشون لعلهم يظفرون له بخطيئة أو بزلة وليس هو بمعصوم فيضخمون ما ظنوه خطأ. فيجعلون خطأه كفراً، وردة، ثم يفترون عليه ويكذبون، وكل ذلك يسعون جاهدين أن ينفروا الأمة عن طريقه ويصرفوا العالم عن مطالعة كتبه، ولكن هذا منهم كان ينقلب في كل مرة عليهم حيث يقف الناس على كذب شانئيه ومبغضيه فينقلب السحر عليهم، وتبتلع آية الله ما أفكه الظالمون، وما افتراه المفترون.

وكان من جملة ما افتراه بعض هؤلاء من زعم أمام مجموعة من الطالبات أن ابن تيمية وابن القيم قد خالفا إجماع المسلمين لقولهما بفناء النار.. وزعم أن هذا إجماع قطعي.

وقال عن شيخ الإسلام ابن تيمية أنه سجن من أجل ذلك ولو لم يمت في السجن لنفذ فيه حد الردة.. وبادرته طالبة من الطالبات قائلة: أنعتبر ابن تيمية كافراً بذلك: فقال: يمكن يكون رجع عن كلامه.. ولا نعلم له رجوعاً، ولكنه زعم في مقام آخر أيضاً أنه لو قام من قبره لنفذ فيه حكم الردة..

الأهداف البعيدة:

أعود فأقول إن السبب في إرادة هدم شيخ الإسلام ابن تيمية من هذا الرجل وأمثاله معروف. لأن كتب شيخ الإسلام أنوار هاديات لكل زيف وبهتان، وتضليل وهذيان، ولذلك يحاربها كل من أراد أن يبني له مجداً في الظلام، ويطمس بعض البصائر ويتخذ مجموعة من الخفافيش تعيش معه في الجحور.. ولذلك يحاذر كل المحاذرة أن يسمع أحد منهم كلمة حق، أو يقرأ كتاباً يفضح باطله وزوره وتخليطه..

وقد بادر مجموعة من الإخوة فكتبوا بعض المقالات في الصحف رداً على فرية هذا الأستاذ على شيخ الإسلام ابن تيمية، وكتبت مقالاً سريعاً في الجريدة رداً على هذه الفرية وكان هذا نصه:

متى يكون مخالف الإجماع كافراً؟

* يعرف علماء الأصول الإجماع بأنه اتفاق علماء الإسلام في عصر من العصور بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم على مسألة من مسائل الدين. ويضربون أمثلة لذلك باتفاق المسلمين على بيعة الصديق، وحروب الردة، وولاية الفاروق، وإعطاء الجدة السدس من الميراث. ونحو ذلك من أمور اشتهرت وعمل بها المسلمون وافتى بها جميع الصحابة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.

ويجعلون مخالف هذا الإجماع الظاهر كافراً وخاصة إذا كان الإجماع مستنداً إلى نص شرعي صريح كتحريم الخمر، والصلوات الخمس وإيجاب التيمم عند فقد الماء ونحو ذلك ما لم يكن مخالف هذا الإجماع متأولاً أو جاهلاً.

وفي دراسة عن الإجماع عمد أحد أساتذة كلية الشريعة بجامعة الكويت أمام طالبات من الكلية إلى ضرب أمثلة لمن خالف إجماع المسلمين فلم يجد مثلاً لذلك إلا الإمامين الجليلين: شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام ابن القيم فأعلن الأستاذ للطالبات أنهما خالفا إجماع المسلمين لأنهما قالا بفناء نار الآخرة بعد أحقاب طويلة من عذاب الكفار فيها.

أقول لم يجد الأستاذ إلا هذين الإمامين ليدلل على مخالفة الإجماع، ولم يكتف بذلك بل زعم أن الشيخ ابن تيمية سجن من أجل فتواه تلك وأنه مات في السجن من أجل ذلك، ولو لم يمت في السجن لنفذ فيه حكم الردة!!

وكلام الأستاذ هذا فيه كثير من الأغاليط بل والأكاذيب عدا عما فيه من عدوان، وإفساد لعقول الشباب والناشئة وتنفير من علماء الإسلام ونحن نبين كل ذلك بحمد الله سبحانه:

أولاً: الإمام ابن تيمية لم يدخل السجن قط في هذه المسألة بالرغم من أنه دخل السجن مراراً وتكراراً، ودخوله السجن من فضل الله عليه، وكذلك فإن هذه المسألة لم تكن قط مثارة في عهده ممن أنكر عليه شيئاً من أقواله وإنما كان آخر مرة سجن فيها شيخ الإسلام -رضي الله عنه- في مسألة شد الرحال لزيارة القبور التي أنكرها هو عملاً بالحديث الصحيح [لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى] ولما أجمعت عليه الأمة، أن السفر لزيارة القبور سفر معصية، ولكن عباد القبور في زمانه ألبوا عليه بعض من لا فقه لهم من الأمراء فسجن لذلك ووافته المنية في سجن قلعة دمشق من أجل ذلك وليس من أجل قوله بفناء النار كما زعم أستاذ كلية الشريعة.

ثانياً: قضية القول بفناء النار ليست ابتداعاً لشيخ الإسلام ابن تيمية (الحق أن ابن تيمية ذكر في هذه المسألة قولين للسلف ولم يرجح واحداً منهما وإنما الذي رجح القول بالفناء هو ابن القيم رحمه الله) وابن القيم وإنما قال بها جمهور كبير من الصحابة والتابعين كعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأبو سعيد الخدري، وأبو هريرة وعبدالله بن مسعود، وعلى بن أبي طالب، والحسن البصري، وكثير من أئمة التابعين وعلماء التفسير فكيف تكون هذه القضية من قضايا الإجماع وهؤلاء جميعاً مخالفون لذلك، بل قال الإمام ابن القيم أنه لو طلب ممن يقول بالإجماع في هذه المسألة: أن ينقل عن عشرة فقط من الصحابة فما دونهم إلى الواحد لم يجد إلى ذلك سبيلاً.. فكيف يدعي الإجماع في مثل ذلك؟

الكلام الذي رمى به الأستاذ شيخ الإسلام ابن تيمية كلام عظيم وبهتان كبير فتكفير المسلم شيء عظيم فكيف بتكفير إمام من أئمة المسلمين وعلم من أعلامهم لا يوجد لليوم عالم قد نال من ثناء العلماء عليه مثل ما نال هذا الرجل.

وحسبك من ذلك قول تلميذه الحافظ الذهبي: "لو حُلّفت بين الركن والمقام لحلفت أنني ما رأيت بعيني مثله، ولا رأى هو مثل نفسه في العلم"، وقول تلميذه الحافظ المزي: "ما رأيت مثله، ولا رأى هو مثل نفسه، وما رأيت أحداً أعلم بكتاب الله وسنة رسوله، ولا أتبع لهما منه"، وقول الإمام ابن دقيق العيد: "لما اجتمعت بابن تيمية رأيت رجع كل العلوم بين عينيه يأخذ ما يريد ويدع ما يريده".

ومثل هذا القول أيضاً عن أبي حيان شيخ النحاة.. ولم تؤلف تراجم في الإسلام لرجل مثله. وهو الذي اتبع جنازته أهل دمشق كلها، وقد حضر من النساء فقط خمسة عشر ألف امرأة، ومائتي ألف رجل، ولا يعرف جنازة مثلها في الإسلام إلا للإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه فالإقدام على تكفير رجل مثل هذا في حلقة من حلقات العلم وفي كلية الشريعة شيء عظيم جداً.

* وقد يقول قائل إن كلام الأستاذ لا يتضمن التكفير وأقول هذا قول خاطئ.. أولاً: لأن الأستاذ كان في معرض بيان من خالفوا الإجماع ومعلوم أن مخالف الإجماع كافر، وثانياً: أنه زعم أن علماء عصره حكموا بكفره.. وكان هذا إقرار منه بذلك، وثالثاً: أنه قال لو لم يمت لنفذ فيه حكم القتل وحكم القتل لا ينفذ في مثل هذه الحالة المزعومة إلا للردة.. ورابعاً: أنه زعم أنه لم يعرف له رجوع عن قوله هذا. وخامساً: أن هذا الأستاذ يلقي الكفر على كل من يتوهم أنه يخالفه وهذا دأبه أبداً.

رابعاً: كان بودنا ألا يستغل الأستاذ منصبه ومقامه وسط طالبات قد يظن أنهن لن يتمكن من البحث والمعرفة فيبتلعن السموم التي ينفثها لهن.. أقول كان بودنا ألا يستغل الأستاذ ذلك وأن يعمد إلى مخالفي الإجماع الحقيقيين كمن زعموا أن القرآن فقط كاف لنا دون السنة النبوية، ومن زعموا أن الدين أخلاق وعبادات فقط وليس حكماً وتشريعاً، ومن غيروا بعد الرسول وجعلوا ظاهر القرآن والسنة في زعمهم كفر، ونفوا عن الله أسماءه وصفاته العلية، ومن قالوا بوحدة الوجود وأن المخلوق هو عين الخالق، ومن أجازوا التوسل بالأموات والطواف بالقبور وشد الرحيل إلى المزارات، والسجود على العتبات ونحو هذا كثير من الذين أرادوا هدم دين الإسلام بالفعل. أما أن يعمد إلى إمام عاش طيلة دهره مجاهداً بسيفه وقلمه محارباً في كل اتجاه فلا يجد الأستاذ كافراً في الأمة مخالفاً لإجماعها غيره.. سبحان الله أين الفكر والنظر بل أين الدين والخلق؟

خامساً: نحن نقول للأستاذ: إن زمناً كان يمكن فيه التدليس على الناس وطمس الحقائق قد ولى، وأن الطالبات اللاتي ظننت أنهن ليس أهلاً للبحث والتحري ومعرفة الحق لسن كذلك وسيصلن حتماً بعون الله ومشيئته إلى معرفة الحق إن كان معك أو عليك وأن من يطاول ابن تيمية ويرميه بسهم حتماً سيعود سهمه إلى نحره.. وأن أناساً يدافعون عنك الآن، ولا يدافعون عن حرمة الأموات يغشونك ويغشون أنفسهم، وقد قال عز وجل في الحديث القدسي: [ومن عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب]، والرسول يقول أنتم شهداء في الأرض.. من شهد له وجبت له الجنة، وقد شهد أهل دمشق كلها في عصر ابن تيمية جنازته وشهدوا له وبكوه أحر ما يكون البكاء، ولم يكن ذلك اصطناعاً ولا دعاية وإنما كان شهادة وهداية من الله. فانظر أين وضعت نفسك. وانتظر غداً يوم يعرف الناس الحقائق، وتنجلي الأمور أن العلم ليس باعتجار العمامة، ولا تبديل البشوت، والاختيال في الأردية. وتكفير علماء الإسلام واحتقارهم وتحذير الشباب منهم.

سادساً: وفي الختام نسأل الأستاذ هذه الأسئلة نرجو جوابها.. من أين علمت أن شيخ الإسلام ابن تيمية سجن آخر مرة في قوله بفناء النار؟ وأين إجماع المسلمين الذي زعمته في هذه القضية؟ وهل يكون إجماعاً ما خالفه جمهور من الصحابة والتابعين؟ وماذا تقول في هؤلاء الصحابة الذين خالفوا إجماعك المزعوم؟ هل كفروا هم أيضا مع ابن تيمية وابن القيم؟ ومن الذي حكم في الشيخ بحكم الردة؟ وما هو حكم من كفر إماماً من أئمة المسلمين أجمعت الأمة على إمامته وعدله وعلمه وتقواه؟.. نرجو أن نتلقى رداً منكم على أسئلتنا هذه.

وقد رأيت من واجبي قياماً بحق إمام من أجل أئمة الأمة الإسلامية لا يوجد اليوم مسلم يعرف التوحيد حقاً إلا وهو مدين له بالعلم والفضل فهو الذي أنار للأمة بعده طريق الله بعد تمالأ الباطنية والقرامطة والغلاة والرافضة، والصوفية، والحلولية، والمتفلسفة على إفساد دين المسلمين وطمس طريق رب العالمين، فقام في هذه الأيام يصاول كل هذا الباطل بقلمه السيال، ونور كلماته الوقاد، وسيفه القاطع فما أبقى لهم شبهه إلا ورفعها، ولا تلبيساً إلا وكشفه، ولا ظلاماً إلا وبدده. أقول رأيت من واجبي أن أقتبس جذوة من نور هذا الشيخ الجليل، وأعرض على ناشئتنا الإسلامية لمحة من أضوائه اللامعة ولست في هذا إلا قابساً من جذوته، وناقلاً عمن كتب عنه، وإني لأرجو في مستقبل حياتي إن أطال الله في عمري أن أجمع ترجمة مستفيضة له أجعل القارئ يعيش بها مع هذا الرجل حياته ساعة بساعة، ويجلس في حلقات علمه تلميذاً حلقة حلقة، ودرساً درساً، ولعل الله أن يمكنني من ذلك وأما الآن فإلى هذه اللمحات من حياة شيخنا وأستاذنا شيخ الإسلام أحمد عبدالحليم بن تيمية رحمه الله.

كتبه: عبدالرحمن عبدالخالق

الكويت الأحد 15صفر 1404هـ

الموافق 20/11/1983

الباب الأول

ابن تيمية: الإعداد الرباني

أول ما يطالعنا في دراسة حياة شيخ الإسلام ابن تيمية هو هذا الإعداد والعناية الربانية التي كلأت هذا الإمام منذ أن كان صغيراً وإلى أن توفاه الله سبحانه وتعالى وهذا ما يكاد يجمع عليه كل الذين ترجموا له. وكتبوا عنه ممن أراهم الله حقيقة هذا الرجل العجيب فكأن كل الظروف والأحداث كانت تتهيأ لاستقبال هذا المجدد.. ولا شك أن القارئ الذي سيستمر معنا مطالعاً هذه المقتطفات واللمحات من حياة شيخنا شيخ الإسلام سيخرج بهذه النتيجة.

فالعالم الذي أظلم ظلاماً يكاد أن يكون كاملاً قبل أن يبدأ هذا الرجل دعوته قد كان يتطلع وينتظر قدوم مثل هذا الرجل ليبدد ظلمات الفلسفة والزندقة، والإلحاد، والشرك بكل مظاهره، والباطنية بكل أعلامها والإتحادية، وأيضاً ظلام الحكام المتجبرين والعملاء المأجورين، وأكثر من هذا ظلام وعدوان التتر المتسترين بالإسلام، والنصيرية والرافضة المعادين لأهل الإسلام، والموالين لأهل الكفر والطغيان لقد كان العالم الإسلامي في أمس الحاجة إلى عالم مجدد جرئ شجاع يستطيع أن يقول الحق لكل أولئك وهو لا يخاف في الله لومة لائم، ولا يخشى سجناً ولا تعذيباً، ولا غربة ولا نفياً.. بل ولا قتلاً.. فكان ابن تيمية الذي جعله الله أولا وعاء عظيما استوعب علم الكتاب والسنة، ثم وسع كل علوم وترهات وأكاذيب أولئك الضلال وعرف بعد ذلك كيف يكر عليها ويبطلها باطلا باطلا، ولا يستطيع أحد منهم أن يقف أمامه أو يحاربه أو يلبس على الناس عنده.. والآن تعالوا نطالع عناية الله بهذا الرجل منذ أن كان صبياً.

شهادة ابن عبدالهادي:

قال الحافظ محمد بن أحمد بن عبدالهادي في (العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية): انبهر أهل دمشق من فرط ذكائه، وسيلان ذهنه، وقوة حافظته، وسرعة إدراكه. واتفق أن بعض مشايخ العلماء بحلب قدم إلى دمشق، وقال: سمعت في البلاد بصبي يقال له: أحمد بن تيمية، وأنه سريع الحفظ، وقد جئت قاصداً، لعلي أراه، فقال له خياط: هذه طريق كتّابه، وهو إلى الآن ما جاء. فاقعد عندنا، الساعة يجيء يعبر علينا ذاهباً إلى الكتّاب (مدرسة صغيرة لتحفيظ القرآن). فجلس الشيخ الحلبي قليلاً، فمر صبيان، فقال الخياط: هذاك الصبي الذي معه اللوح الكبير: هو أحمد بن تيمية. فناداه الشيخ. فجاء إليه. فتناول الشيخ اللوح منه، فنظر فيه ثم قال له: امسح يا ولدي هذا، حتى أملي عليك شيئاً تكتبه، ففعل، فأملى عليه من متون الأحاديث أحد عشر، أو ثلاثة عشر حديثاً، وقال له: اقرأ هذا، فلم يزد على أن تأمله مرة بعد كتابته إياه. ثم دفعه إليه، وقال: اسمعه عليّ، فقرأه عليه عرضا كأحسن ما أنت سامع. فقال له: يا ولدي، امسح هذا، ففعل. فأملى عليه عدة أسانيد انتخبها، ثم قال: اقرأ هذا، فنظر فيه، كما فعل أول مرة. ثم أسمعه إياه كالأول. فقام الشيخ وهو يقول: إن عاش الصبي ليكونن له شأن عظيم. فإن هذا لم يُرَ مثله.

الباب الثاني

ابن تيمية: العالم الذي لم ير العلماء مثله

كان لا بد لابن تيمية الذي سيقابل هذا الواقع الأليم بكل مآسيه وعقباته أن يكون عالماً من طراز آخر، وأن يقر له العلماء جميعاً بالفضل والسبق عليهم، وأن يشهدوا أن أعينهم لم تر مثل هذا الرجل ، وذلك حتى يستطيع أن يشق طريقه إلى الإصلاح، ولا يستطيع أحد أن يتهمه بجهل أو قصور وتعالوا نشاهد شهادات العلماء له في عصره وبعد عصره بالعلم الذي لا يضارع ولا يماثل..

1- شهادة تلميذه الإمام الذهبي:

قال الذهبي في معجم شيوخه: أحمد بن عبدالحليم -وساق نسبه- الحراني، ثم الدمشقي، الحنبلي أبو العباس، تقي الدين، شيخنا وشيخ الإسلام، وفريد العصر علماً ومعرفة، وشجاعة وذكاء، وتنويراً إلهياً، وكرماً ونصحاً للأمة، وأمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر. سمع الحديث، وأكثر بنفسه من طلبه، وكتب وخرج، ونظر في الرجال والطبقات، وحصل ما لم يحصله غيره. برع في تفسير القرآن، وغاص في دقيق معانيه بطبع سيال، وخاطر إلى مواقع الإشكال ميال، واستنبط منه أشياء لم يسبق إليها. وبرع في الحديث وحفظه، فقلّ من يحفظ ما يحفظه من الحديث، معزواً إلى أصوله وصحابته، مع شدة استحضاره له وقت إقامة الدليل. وفاق الناس من معرفة الفقه، واختلاف المذاهب، وفتاوي الصحابة والتابعين، بحيث إنه إذا أفتى لم يلتزم بمذهب، بل يقوم بما دليله عنده. وأتقن العربية أصولاً وفروعاً، وتعليلاً واختلافاً. ونظر في العقليات، وعرف أقوال المتكلمين، وردّ عليهم، ونبّه على خطئهم، وحذّر منهم ونصر السنة بأوضح حجج وأبهر براهين. وأوذي في ذات الله من المخالفين، وأخيف في نصر السنة المحضة، حتى أعلى الله مناره، وجمع قلوب أهل التقوى على محبته والدعاء له، وكبت أعداءه، وهدى به رجالاً من أهل الملل والنحل، وجبل قلوب الملوك والأمراء على الإنقياد له غالباً، وعلى طاعته، وأحيى به الشام، بل والإسلام، بعد أن كاد ينثلم بتثبيت أولي الأمر لما أقبل حزب التتر والبغي في خيلائهم، فظنت بالله الظنون، وزلزل المؤمنون، واشرأّب النفاق وأبدى صفحته. ومحاسنه كثيرة، وهو أكبر من أن ينبه على سيرته مثلي، فلو حلفت بين الركن والمقام، لحلفت: أني ما رأيت بعيني مثله، وأنه ما رأى مثل نفسه (طبقات الحنابلة لابن رجب 389،390).

وقال الذهبي أيضاً:

وله خبرة تامة بالرجال، وجرحهم وتعديلهم، وطبقاتهم، ومعرفة بفنون الحديث، وبالعالي والنازل، والصحيح والسقيم، مع حفظه لمتونه، الذي انفرد به، فلا يبلغ أحد في العصر رتبته، ولا يقاربه، وهو عجيب في استحضاره، واستخراج الحجج منه، وإليه المنتهى في عزوه إلى الكتب الستة، والمسند، بحيث يصدق عليه أن يقال: كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث (المصدر السابق).

وقال أيضاً:

ولما كان معتقلاً بالإسكندرية: التمس منه صاحب سبتة أن يجيز لأولاده، فكتب له في ذلك نحواً من ستمائة سطر، منها سبعة أحاديث بأسانيدها، والكلام على صحتها ومعانيها، وبحث وعمل ما إذا نظر فيه المحدث خضع له من صناعة الحديث. وذكر أسانيده في عدة كتب. ونبّه على العوالي. عمل ذلك كله من حفظه، من غير أن يكون عنده ثبت أو من يراجعه.

ولقد كان عجيباً في معرفة علم الحديث. فأما حفظه متون الصحاح وغالب متون السنن والمسند: فما رأيت من يدانيه في ذلك أصلاً.

قال: وأما التفسير فمسلم إليه. وله من استحضار الآيات من القرآن -وقت إقامة الدليل بها على المسألة- قوة عجيبة. وإذا رآه المقرئ تحير فيه. ولفرط إمامته في التفسير، وعظم اطلاعه. يبين خطأ كثير من أقوال المفسرين. ويوهي أقوالاً عديدة. وينصر قولاً واحداً، موافقاً لما دل عليه القرآن والحديث. ويكتب في اليوم والليلة من التفسير، أو من الفقه، أو من الأصلين، أو من الردعلى الفلاسفة والأوائل: نحواً من أربعة كراريس أو أزيد.

قلت: وقد كتب (الحموية) في قعدة واحدة. وهي أزيد من ذلك. وكتب في بعض الأحيان في اليوم ما يبيض منه مجلد. أ.هـ (المصدر السابق).

وقال الذهبي أيضاً في بيان حملاته على المنحرفين:

وغالب حطه على الفضلاء والمتزهدة فبحق، وفي بعضه هو مجتهد، ومذهبه توسعة العذر للخلق، ولا يكفر أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه.

قال: ولقد نصر السنة المحضة، والطريقة السلفية، واحتج لها ببراهين ومقدمات، وأمور لم يسبق إليها، وأطلق عبارات أحجم عنها الأولون والآخرون وهابوا، وجسر هو عليها، حتى قام عليه خلق من علماء مصر والشام قياماً لا مزيد عليه، وبدّعوه وناظروه وكابروه، وهو ثابت لا يداهن ولا يحابي، بل يقول الحق المرّ الذي أدّاه إليه اجتهاده، وحدة ذهنه، وسعة دائرته في السنن والأقوال، مع ما اشتهر عنه من الورع، وكمال الفكر، وسرعة الإدراك، والخوف من الله، والتعظيم لحرمات الله.

فجرى بينه وبينهم حملات حربية، ووقعات شامية ومصرية، وكم من نوبة قد رموه عن قوس واحدة، فينجيه الله فإنه دائم الابتهال، كثير الاستغاثة، والاستعانة به، قوي التوكل، ثابت الجأش، له أوراد وأذكار يدمنها بكيفية وجمعية. وله من الطرف الآخر محبون من العلماء والصلحاء، ومن الجند والأمراء، ومن التجار والكبراء، وسائر العامة تحبه، لأنه منتصب لنفعهم ليلاً ونهاراً، بلسانه وقلمه.

(وله حدة قوية تعتريه في البحث، حتى كأنه ليث حرب. وهو أكبر من أن ينبه مثلى على نعوته. وفيه قلة مداراة، وعدم تؤدة غالباً، والله يغفر له. وله إقدام وشهامة، وقد نفس توقعه في أمور صعبة، فيدفع الله عنه) أ.هـ (المصدر السابق).

وقال أيضاً في وصف شجاعته:

وأما شجاعته: فبها تضرب الأمثال، وببعضها يتضبه أكابر الأبطال. ولقد أقامه الله تعالى في نوبة قازان (ملك من ملوك التتار قابله ابن تيمية وأنكر عليه وأمره بإطلاق أسرى المسلمين ففعل). والتقى أعباء الأمر بنفسه. وقام وقعد وطلع، ودخل وخرج، واجتمع بالملك -يعني قازان- مرتين، وبقطلوشاه، وبولاي. وكان قبجق يتعجب من إقدامه وجراءته على المغول).

وأقول: إن هذه والله الترجمة ما نال أحد من العلماء فيما أعلم منها قط ومن يستطيع أن يكتب الناس فيه كلاماً صحيحاً صادقاً كالذي يكتبه هذا الإمام المدقق الصادق رحمه الله.

2- شهادة تلميذه الشيخ محمد بن أحمد بن عبدالهادي المتوفي سنة 744هـ:

"قال الشيخ ابن عبدالهادي: ثم لم يبرح شيخنا في ازدياد من العلوم، وملازمة الاشتغال والإشغال، وبث العلم ونشره، والاجتهاد في سبيل الخير، حتى انتهت إليه الإمامة في العلم والعمل، والشجاعة والكرم، والتواضع والحلم والأناة والإنابة، والجلالة والمهابة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسائر أنواع الجهاد، مع الصدق والعفة والصيانة، وحسن القصد والإخلاص، والابتهال إلى الله وكثرة الخوف منه، وكثرة المراقبة له، وشدة التمسك بالأثر، والدعاء إلى الله وحسن الأخلاق، ونفع الخلق، والإحسان إليهم، والصبر على من آذاه، والصفح عنه والدعاء له، وسائر أنواع الخير.

وكان رحمه الله سيفاً مسلولاً على المخالفين، وشجى في حلوق أهل الأهواء المبتدعين، وإماماً قائماً ببيان الحق ونصرة الدين. وكان بحراً لا تكدره الدلاء، وحبراً يقتدي به الأخيار الأولياء. طنّت بذكره الأمصار وضنّت بمثله الأعصار.

قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج يوسف المزي (ولد سنة 654 بالمزة. وتوفي سنة 742): ما رأيت مثله. ولا رأى هو مثل نفسه، ولا رأيت أحداً أعلم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا أتبع لهما منه.

وقال الشيخ الحافظ أبو الفتوح محمد بن سيد الناس اليعمري الأندلسي، ثم المصري (ولد سنة 671 وتوفي بالقاهرة سنة 734) -بعد أن ذكر ترجمة الحافظ جمال الدين المزي- وهو الذي حداني على رؤية الشيخ الإمام، شيخ الإسلام، تقي الدين، أبي العباس: أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام بن تيمية- فألفيته: كاد يستوعب السنن والآثار حفظاً، إن تكلم في التفسير: فهو حامل رايته، أو أفتى في الفقه: فهو مدرك غايته، أو ذاكر بالحديث: فهو صاحب علمه وروايته، أو حاضر بالنّحل والملل لم ير أوسع من نحلته في ذلك ولا أرفع من رايته. برز في كل فن على أبناء جنسه. ولم تر عين من رآه مثله.

ولا رأت عينه مثل نفسه. كان يتكلم في التفسير، يحضر مجلسه الجم الغفير، ويرتوون من بحر علمه العذب النمير، ويرتعون من ربيع فضله في روضة وغدير، إلى أن دب إليه من أهل بلده داء الحسد. وألّب أهل النظر منهم ما ينتقد عليه في حنبليته من أمور المعتقد، فحفظوا عنه في ذلك كلاماً، أوسعوه بسببه ملاماً، وفوّقوا لتبديعه سهاماً، وزعموا أنه خالف طريقهم، وفرق فريقهم، فتنازعهم ونازعوه، وقاطع بعضهم وقاطعوه، ثم نازعه طائفة أخرى ينتسبون من الفقر إلى طريقة، ويزعمون أنهم على أدق باطن منها وأجلى حقيقة، فكشف عن عيوب تلك الطوائف، وذكر لها بوائق، فآضت إلى الطائفة الأولى من منازعيه، واستعانت بذوي الضعن عليه من مقاطعيه، فوصلوا بالأمراء أمره، وأعمل كل منهم في كفره فكره، فكتبوا محاضر. وألّبوا الرويبضة للسعي بها بين الأكابر، وسعوا في نقله إلى حضرة المملكة بالديار المصرية، فنقل وأودع السجن ساعة حضوره، واعتقل، وعقدوا لإراقة دمه مجالس، وحشدوا لذلك قوماً من عمار الزوايا وسكان المدارس، من كل متحامل في المنازعة، مخاتل بالمخادعة، ومن مجاهر بالتفكير مبارز بالمقاطعة، يسومونه ريب المنون {وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون}. وليس المجاهر بكفره أسوأ حالاً من المخاتل، وقد دبت إليه عقارب مكره. فرد الله كيد كل في نحره. فنجاه الله على يد من اصطفاه، والله غالب على أمره ثم لم يخل بعد ذلك من فتنة بعد فتنة، ولم ينتقل طول عمره من محنة إلا إلى محنة، إلى أن فوض أمره إلى بعض القضاة، فقلّد ما تقلد من اعتقاله. ولم يزل بمحبسه ذلك إلى حين ذهابه إلى رحمة الله تعالى وانتقاله. وإلى الله ترجع الأمور. وهو المطلع على خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وكان يومه مشهوداً، ضاقت بجنازته الطريق. وانتابها المسلمون من كل فج عميق، وكان موته رحمه الله في ليلة العشرين من ذي القعدة سنة 728 سجيناً بقلعة دمشق (العقود الدرية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية).

3- شهادة قاضي الشافعية ومفتيهم ابن الزملكاني:

قال ابن كثير:-

وأثنى عليه وعلى علومه وفضائله جماعة من علماء عصره، مثل القاضي الخوبي، وابن دقيق العيد، وابن النحاس، والقاضي الحنفي قاضي قضاة مصر ابن الحريري وابن الزملكاني وغيرهم، ووجدت بخط ابن الزملكاني (قال ابن كثير في وصف ابن الزملكاني: شيخ الشافعية بالشام وغيرها، انتهت إليه رياسة المذهب تدريساً وإفتاء ومناظرة، ويقال نسبه السماكي نسبة إلى أبي دجانة سماك بن خرشة والله أعلم. البداية والنهاية ص140 ج14) أنه قال: اجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها، وأن له اليد الطولى في حسن التصنيف وجودة العبارة والترتيب والتقسيم والتدوين، وكتب على تصنيف له هذه الأبيات:

ماذا يقول الواصفون له ومحاسنه جلّت عن الحصر

هـو حجـة لله قاهـرة هو بيننا أعجوبة الدهــر

هو آية في الخلق ظاهرة أنوارها أربت على الفجـر

وبالجملة كان رحمه الله من كبار العلماء وممن يخطئ ويصيب ولكن خطؤه بالنسبة إلى صوابه كنقطة في بحر لجي، وخطؤه أيضاً مغفور له كما في صحيح البخاري: [إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر] فهو مأجور. وقال الإمام مالك بن أنس: "كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر".

4- شهادة الحافظ جلال الدين السيوطي:

ابن تيمية الشيخ الإمام العلامة الحافظ الناقد الفقيه المجتهد المفسر البارع شيخ الإسلام، علم الزهاد، نادرة العصر، تقي الدين أبو العباس أحمد المفتي شهاب الدين عبدالحليم بن الإمام المجتهد شيخ الإسلام مجد الدين عبدالسلام ابن عبدالله بن أبي القاسم الحراني.

أحد الأعلام، ولد في ربيع الأول سنة إحدى وستين وستمائة.

وسمع ابن أبي اليسر. وابن عبدالدائم، وعدّة.

وعني بالحديث، وخرج وانتقى، وبرع في الرجال، وعلل الحديث وفقههه وفي علوم الإسلام وعلم الكلام، وغير ذلك. وكان من بحور العلم، ومن الأذكياء المعدودين، والزهاد، والأفراد، ألف وثلاثمائة مجلدة، وامتحن وأوذي مراراً.

مات في العشرين من ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبعمائة (طبقات الحفاظ ص516،517).

5- شهادة أبو الحسن السبكي قاضي القضاة:

ومما وجد في كتاب كتبه العلامة قاضي القضاة أبو الحسن السبكي إلى الحافظ أبي عبدالله الذهبي في أمر الشيخ تقي الدين المذكور: أما قول سيدي في الشيخ فالمملوك يتحقق كبر قدره. وزخارة بحره. وتوسعه في العلوم الشرعية والعقلية. وفرط ذكائه واجتهاده. وبلوغه في كل من ذلك المبلغ الذي يتجاوز الوصف. والمملوك يقول ذلك دائماً. وقدره في نفسي أكبر من ذلك وأجل. مع ما جمعه الله له من الزهادة والورع والديانة. ونصرة الحق. والقيام فيه لا لغرض سواه. وجريه على سنن السلف. وأخذه من ذلك بالمأخذ الأوفى. وغرابة مثله في هذا الزمان. بل من أزمان.

6- شهادة الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني الشافعي رحمه الله:

قال ابن حجر العسقلاني المولود في القاهرة والمتوفي بها سنة 852هـ وصاحب كتاب فتح الباري شرح البخاري وكتاب التهذيب وهو الذي لقب بأمير المؤمنين في الحديث. قال تقريظاً لكتاب الرد الوافر للإمام ابن ناصر الدين الدمشقي وهو الذي كتبه مؤلفه رداً على أن من زعم من متعصبي الأحناف أنه لا يجوز تسمية ابن تيمية بشيخ الإسلام وأنه من فعل ذلك فقد كفر!! (انظر) فكتب ابن ناصر الدين الدمشقي كتاباً سماه الرد الوافر ذكر فيه أكثر من بضع وثمانين إماماً من أئمة المسلمين كلهم سمى ابن تيمية بشيخ الإسلام ونقل نقولهم من كتبهم بذلك، ولما قرأ الحافظ بن حجر رحمه الله هذا الكتاب الرد الوافر كتب عليه تقريظاً هذا نصه:

الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى.

وقفت على هذا التأليف النافع، والمجموع الذي هو للمقاصد التي جمع لأجلها جامع، فتحققت سعة اطلاع الإمام الذي صنفه، وتضلعه من العلوم النافعة بما عظمه بين العلماء وشرفه، وشهرة إمامة الشيخ تقي الدين أشهر من الشمس، وتلقيبه بشيخ الإسلام في عصره باق إلى الآن على الألسنة الزكية ويستمر غداً كما كان بالأمس، ولا ينكر ذلك إلا من جهل مقداره، أو تجنب الأنصاف، فما أغلط من تعاطي ذلك وأكثر عثاره، فالله تعالى هو المسؤول أن يقينا شرور أنفسنا وحصائد ألسنتنا بمنه وفضله، ولو لم يكن من الدليل على إمامة هذا الرجل إلا ما نبه عليه الحافظ الشهير علم الدين البرزالي في تاريخه: أنه لم يوجد في الإسلام من اجتمع في جنازته لما مات ما اجتمع في جنازة الشيخ تقي الدين، وأشار إلى أن جنازة الإمام أحمد كانت حافلة جداً شهدها مئات ألوف، ولكن لو كان بدمشق من الخلائق نظير من كان ببغداد أو أضعاف ذلك، لما تأخر أحد منهم عن شهود جنازته، وأيضاً فجميع من كان ببغداد إلا الأقل كانوا يعتقدون إمامة الإمام أحمد، وكان أمير بغداد وخليفة ذلك الوقت إذا ذاك في غاية المحبة له والتعظيم، بخلاف ابن تيمية فكان أمير البلد حين مات غائباً. وكان أكثر من بالبلد من الفقهاء قد تعصبوا عليه حتى مات محبوساً بالقلعة، ومع هذا فلم يتخلف منهم عن حضور جنازته والترحم عليه والتأسف (عليه) إلا ثلاثة أنفس، تأخروا خشية على أنفسهم من العامة.

ومع حضور هذا الجمع العظيم فلم يكن لذلك باعث إلا اعتقاد إمامته وبركته لا بجمع سلطان ولا غيره، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [أنتم شهداء الله في الأرض] (رواه البخاري ومسلم). ولقد قام على الشيخ تقي الدين جماعة من العلماء مراراً بسبب أشياء أنكروها عليه من الأصول والفروع، وعقدت له بسبب ذلك عدة مجالس بالقاهرة وبدمشق، ولا يحفظ عن أحد منهم أنه أفتى بزندقته ولا حكم بسفك دمه مع شدة المتعصبين عليه حينئذ من أهل الدولة، حتى حبس بالقاهرة ثم بالإسكندرية، ومع ذلك فكلهم معترف بسعة علمه وكثرة ورعه وزهده، ووصفه بالسخاء والشجاعة، وغير ذلك من قيامه في نصر الإسلام، والدعوة إلى الله تعالى في السر والعلانية، فكيف لا ينكر على من أطلق أنه كافر، بل من أطلق على من سماه شيخ الإسلام الكفر، وليس في تسمية بذلك ما يقتضي ذلك فإنه شيخ في الإسلام بلا ريب، والمسائل التي أنكرت عليه ما كان يقولها بالتشهي ولا يصر على القول بها بعد قيام الدليل عليه عناداً، وهذه تصانيفه طافحة بالرد على من يقول بالتجسيم والتبري منه، ومع ذلك فهو بشر يخطئ ويصيب، فالذي أصاب فيه وهو الأكثر يستفاد منه ويترحم عليه بسببه، والذي أخطأ فيه لا يقلد فيه، بل هو معذور لأن أئمة عصره شهدوا له بأن أدوات الاجتهاد اجتمعت فيه، حتى كان أشد المتعصبين عليه، والقائمين في إيصال الشر إليه، وهو الشيخ كمال الدين الزملكاني شهد له بذلك، وكذلك الشيخ صدر الدين ابن الوكيل الذي لم يثبت لمناظرته غيره، ومن أعجب العجب أن هذا الرجل كان أعظم الناس قياماً على أهل البدع من الروافض والحلولية والاتحادية، وتصانيفه في ذلك كثيرة شهيرة، وفتاويه فيهم لا تدخل تحت الحصر، فيا قرة أعينهم إذ سمعوا بكفره، ويا سرورهم إذا رأوا من يكفر من لا يكفره، فالواجب على من تلبّس بالعلم وكان له عقل أن يتأمل كلام الرجل من تصانيفه المشتهرة، أو من ألسنة من يوثق به من أهل النقل، فيفرد من ذلك ما ينكر فيحذر منه على قصد النصح، ويثني عليه بفضائله فيما أصاب من ذلك كدأب غيره من العلماء، ولو لم يكن للشيخ تقي الدين من المناقب إلا تلميذه الشهير الشيخ شمس الدين بن قيم الجوزية صاحب التصانيف النافعة السائرة التي انتفع بها الموافق والمخالف، لكن غاية في الدلالة على عظم منزلته، فكيف وقد شهد له بالتقدم في العلوم، والتميز في المنطوق والمفهوم، أئمة عصره من الشافعية وغيرهم! فضلاً عن الحنابلة، فالذي يطلق عليه مع هذه الأشياء الكفر، أو على من سماه شيخ الإسلام، لا يلتفت إليه، ولا يعول في هذا المقام عليه، بل يجب ردعه عن ذلك إلى أن يراجع الحق ويذعن للصواب، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

صفة خطه أدام الله بقاءه.

قال وكتبه أحمد بن علي بن محمد بن حجر الشافعي عفا الله عنه، وذلك في يوم الجمعة التاسع من شهر ربيع الأول عام خمسة وثلاثين وثمانمائة حامداً لله، ومصلياً على رسوله محمد وآله ومسلماً. أ.هـ (الرد الوافر للإمام ابن ناصر الدين الدمشقي بتحقيق زهير الشاويش ص145-146).

الباب الثالث

ابن تيمية: العابد الورع

إن مجدداً يقوم في مثل تلك الظلمات التي كانت في القرن الثامن الهجري لا يمكن أن يفلح في دعوته بمجرد العلم حتى لو كان علماً لا يصارع ولا يصاول ولا يطاول.. بل لا بد وأن يكون مع هذا العلم إيمان وتقوى، واستمداد من الله ورجوع دائم إليه، وقيام بحق العباد، وإخلاص في كل ذلك لله حتى يبارك هذا العلم وتؤتي ثماره، وكذلك كان شيخنا شيخ الإسلام العابد الورع التقي وهذه شهادة تلميذه الحافظ أبي عمر بن علي البزار رحمه الله. قال في بيان عبادته وورعه:

قال أما تعبده رضي الله عنه فإنه قل أن سمع بمثله، لأنه كان قد قطع جل وقته وزمانه فيه، حتى إنه لم يجعل لنفسه شاغلة تشغله عن الله تعالى ما يراد له من أهل ولا من مال. وكان في ليلة متفرداً عن الناس كلهم، خالياً بربه عز وجل، ضارعاً، مواظباً على تلاوة القرآن العظيم. مكرّراً لأنواع التعبدات الليلية والنهارية. وكان إذا ذهب الليل وحضر مع الناس بدأ بصلاة الفجر يأتي بسنّها قبل إتيانه إليهم. وكان إذا أحرم بالصلاة يكاد يخلع القلوب لهيبة إتيانه بتكبيرة الإحرام. فإذا دخل في الصلاة ترتعد أعضاؤه حتى يميد يمنة ويسرة. وكان إذا قرأ يمد قراءته مداًّ كما صحّ في قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان ركوعه وسجوده وانتصابه عنهما من أكمل ما ورد في صلاة الفرض. وكان يخف جلوسه للتشهد الأول خفة شديدة، ويجهر بالتسمية الأولى حتى يسمع كل من حضر. فإذا فرغ من الصلاة أثنى على الله عز وجل هو من حضر بما ورد من قوله [اللهم أنت السلام.. الحديث]. ثم يقبل على الجماعة، ثم يأتي بالتهليلات الواردات حينئذ. ثم يسبّح الله ويحمده ويكبره ثلاثاً وثلاثين، ويختم المائة بالتهليل. كما أورد، وكذا الجماعة، ثم يدعو الله تعالى له ولهم وللمسلمين أجناس ما ورد.

وكان غالب دعائه (اللهم انصرنا ولا تنصر علينا، وأمكر لنا ولا تمكر علينا، وأهدنا ويسّر الهدى لنا، اللهم اجعلنا لك شاكرين، لك ذاكرين، إليك راغبين، لك مخبتين، إليك راهبين، لك مطاويع. ربنا تقبل توباتنا، وأغسل حوباتنا، وثبت حججنا، واهد قلوبنا، واسلل سخيمة صدورنا) يفتتحه ويختمه بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

ثم يشرع في الذكر. وكان قد عرفت عادته لا يكلمه أحد بغير ضرورة بعد صلاة الفجر. فلا يزال في الذكر يسمع نفسه، وربما يسمع ذكره من الروحانية، مع كونه في خلال ذلك يكثر من تقليب بصره نحو السماء. هكذا دأبه حتى ترتفع الشمس وتزول، وقت النهي عن الصلاة.

وكنت مدة إقامتي بدمشق ملازمه جل النهار وكثيراً من الليل. وكان يدنيني منه حتى يجلسني إلى جانبه. وكنت أسمع ما يتلو وما يذكر حينئذ. فرأيته يقرأ الفاتحة ويكررها، ويقطع ذلك الوقت كله، أعني من الفجر إلى ارتفاع الشمس في تكرير تلاوتها. ففكرت في ذلك لم قد لزم هذه السورة دون غيرها. فبان لي، والله أعلم، أن قصده بذلك أن يجمع بتلاوتها حينئذ بين ما ورد في الأحاديث وما ذكره العلماء: هل يستحب تقديم الأذكار الواردة على تلاوة القرآن أو العكس؟ فرأى رضي الله عنه أن في الفاتحة وتكرارها حينئذ جمعاً بين القولين، وتحصيلاً للفضيلتين. وهذا من قوة فطنته وثاقب بصيرته. ثم إنه كان يركع، فإذا أراد سماع حديث في مكان آخر سارع إليه من فوره، مع من يصحبه. فقل أن يراه أحد ممن له بصيرة إلا وانكب على يديه فيقبلهما، حتى إنه كان إذا رآه أرباب المعايش يتخبطون من حوانيتهم للسلام عليه والتبرك به، وهو مع هذا يعطي كلا منهم نصيباً وافراً من السلام وغيره، وإذا رأى منكراً في طريقه أزاله، أو سمع بجنازة سارع إلى الصلاة عليها، أو تأسف على فواتها، وربما ذهب إلى قبر صاحبها بعد فراغه من سماع الحديث، فصلى عليه. ثم يعود إلى مسجده، فلا يزال تارة في إفتاء الناس، وتارة في قضاء حوائجهم حتى يصلي الظهر من الجماعة، ثم كذلك بقية يومه. وكان مجلسه عاماً للكبير والصغير، والجليل والحقير، والحر والعبد، والذكر والأنثى. وقد وسع كل من يرد عليه من الناس. يرى كل منهم في نفسه أن لم يكرم أحداً بقدره. ثم يصلّي المغرب، ثم يتطوع بما يسره الله. ثم أقرأ عليه من مؤلفاته أنا أو غيري، فيفدنا بالطرائف، ويمدنا باللطائف، حتى يصلي العشاء ثم بعدها كما كنّا وكان: من الإقبال على العلوم إلى أن يذهب هوي من الليل طويل. وهو في خلال ذلك كله، في النهار والليل، لا يزال يذكر الله تعالى ويوحده، ويستغفره.

وكان رضي الله عنه كثيراً ما يرفع طرفه إلى السماء، لا يكاد يفتر عن ذلك، كأنه يرى شيئاً يثبته بنظره. فكان هذا دأبه مدة إقامتي بحضرته. فسبحان الله ما أقصر ما كانت! يا ليتها كانت طالت. ما مرّ على عمري إلى الآن زمان كان أحبّ إليّ من ذلك الحين، ولا رأيتني في وقت أحسن حالاً منّي حينئذ، وما كان إلاّ ببركة الشيخ رضي الله عنه.

وكان في كل أسبوع يعود المرضى، خصوصاً الذي بالمارستان وأخبرني غير واحد ممن لا يشك في عدالته أن جميع زمن الشيخ ينقضي على من رأيته. فأي عبادة واجتهاد أفضل من ذلك؟ فسبحان الموفق من يشاء لما يشاء.

ورعه رضي الله عنه:

وكان رضي الله عنه في الغاية التي ينتهي إليها في الورع. لأن الله تعالى أجراه مدة عمره كلها عليه. فإنه ما خلط الناس في بيع ولا شراء ولا معاملة، ولا تجارة، ولا مشاركة، ولا زراعة، ولا عمارة. ولا كان ناظراً مباشراً لما وقف، ولا يكن يقبل جراية ولا صلة لنفسه من سلطان ولا أمير ولا تاجر، ولا كان مدخراً ديناراً ولا درهماً ولا متاعاً ولا طعاماً ، وإنما كانت بضاعته مدة حياته، وميراثه بعد وفاته، رضي الله عنه، العلم اقتداء بسيد المرسلين وخاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين، فإنه قال: [إن العلماء ورثة الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً ولكن ورثوا العلم فمن أخذ به فقد أخذ بحظ وافر].

وكان ينبّه العاقل بحسن الملاطفة ورقيق المخاطبة ليختار لنفسه طريقتهم، ويسلك سبيلهم. وإن كان دونها من الطرائق من اتخاذ المباحات جائز، لكان العاقل يدله عقله على طلب الأعلى. فانظر بعين الإنصاف إلى ما وفق الله له هذا الإمام وأجرى، مما أقعد عنه غيره وخذله عن طلبه، ولكن لكل شيء سبب، وعلامة عدم التوفيق سلب للأسباب. ومن أعظم الأسباب لترك فضول الدنيا التخلي عن غير الضروري منها، فلما وفق الله هذا الإمام لرفض غير الضروري منها انصبت عليه العواطف الإلهية فحصل بها كل فضيلة جليلة، بخلاف غيره من علماء الدنيا، مختاريها وطالبيها والساعين لتحصيلها، فإنهم لما اختاروا ملاذها وزينتها ورياستها انسدت عليهم غالباً طرق الرشاد فوقعوا في شركها يخبطون خبط عشواء، ويحطبونها كحاطب ليل، لا يبالون ما يأكلون ولا ما يلبسون ولا ما يتأولون إلا ما يحصل لهم أغراضهم الدنيئة ومقاصدهم الخبيثة الخسيسة، فهم متعاضدون على طلبها متحاسدون بسببها، أجسامهم ميتة، وقلوبهم من غيرها فارغة، وظواهرهم مزخرفة معمورة، وقلوبهم خربة مأبورة. ولم يكفهم ما هم عليه حتى أصبحوا قالين رافضها، معادين باغضها. ولما رأوا هذا الإمام عالم الآخرة، تاركاً هم عليه من تحصيل الحطام من المشتبه الحرام، رافضاً الفضل المباح فضلاً عن الحرام، تحققوا أن أحواله تفضح أحوالهم وتوضح خفي انفعالهم، وأخذتهم الغيرة النفسانية على صفاتهم الشيطانية، المباينة لصفاته الروحانية. فحرصوا على الفتك به أين ما وجدوا، وأنسوا أنهم ثعالب وهو أسد. فحماه الله تعالى منهم بحراسته، وصنع له غير مرة ما صنع لخاصته، وحفظه مدة حياته وحماه، ونشر له عند وفاته علماً في الأقطار بما والاه. انتهى (الأعلام العلية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية 37-43).

الباب الرابع

ابن تيمية: العالم المبتلى والإمام الممتحن

وكان لا بد لإمام للناس، وقدوة للعالمين في زمانه أن يمتحن ويبلى.. ألا تنظر إلى قوله تعالى {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماماً} الآية.

فهل كان إماماً للناس بعد أن ابتلاه الله بأن يقول الحق لا يخاف في الله لومة لائم ويحطم الأصنام ويجادل قومه والنمرود في باطلهم، ويطرد من بلده ويهاجر ويؤمر بذبح ابنه.. باختصار لا إمامة إلا بعد بلاء..

وهذا ما كان من شأن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فكان والبلاء صاحبين لا يفترقان، وكيف لا وهو القائم بأمر الله الداعي إلى سبيل الله، المجاهد أهل الشر جميعاً على اختلاف طوائفهم في ذات الله. متفرغاً فلا زوجة ولا ولد ولا ضيعة ولا تجارة، بل ولا وطن ولا إقامة بل رحيل دائم في الله، ولذلك كان بلاؤه على قدر منزلته من العلم والعمل وإلا بماذا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على قدر دينه فإن كان في دينه شدة زيد له في البلاء] (متفق عليه).

وتفاصيل البلاء التي تعرض لها شيخ الإسلام ابن تيمية شيء طويل جداً. فما كان رضي الله عنه ينتهي من محنة إلا ليدخل في أخرى ولا يخرج من سجن إلا ليوضع في آخر حتى مات مسجوناً آخر عمره، ولا ينتهي من قتال مع طائفة باغية إلا ويدخل قتالاً آخر.. وقد جمع الإمام ابن رجب الحنبلي خلاصة للفتن التي تعرض لها ابن تيمية فيقول:

الابتلاءات التي ابتلي بها الشيخ رضي الله عنه:

قال الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله المتوفي سنة 795هـ

وأما محن الشيخ: فكثيرة، وشرحها يطول جداً.

وقد اعتقله مرة بعض نواب السلطان بالشام قليلاً، بسبب قيامه على نصراني سب الرسول صلى الله عليه وسلم، واعتقل معه الشيخ زين الدين الفاروقي، ثم أطلقهما مكرمين.

ولما وصف المسألة (الحموية) في الصفات: شنع بها جماعة، ونودي عليها في الأسواق على قصبة، وأن لا يستفتي من جهة بعض القضاة الحنفية. ثم انتصر للشيخ بعض الولاة، ولم يكن في البلد حينئذ نائب وضرب المنادي وبعض من معه، وسكن الأمر.

ثم امتحن سنة خمس وسبعمائة بالسؤال عن معتقده بأمر السلطان؟ فجمع نائبه القضاة والعلماء بالقصر، وأحضر الشيخ، وسأله عن ذلك؟ فبعث الشيخ من أحضر من داره (العقيدة الواسطية) فقرأوها في ثلاث مجالس، وحاققوه، وبحثوا معه، ووقع الاتفاق بعد ذلك على أن هذه عقيدة سنية سلفية، فمنهم من قال ذلك طوعاً، ومنهم من قاله كرهاً.

وورد بعد ذلك كتاب من السلطان فيه: إنما قصدنا براءة ساحة الشيخ، وتبين لنا أنه على عقيدة السلف.

ثم إن المصريين دبروا الحيلة في أمر الشيخ، ورأوا أنه لا يمكن البحث معه، ولكن يعقد له مجلس، ويدعى عليه، وتقام عليه الشهادة، وكان القائمون في ذلك منهم: بيبرس الجاشنكير، الذي تسلطن بعد ذلك، ونصر المنجي وابن مخلوف قاضي المالكية، فطلب الشيخ على البريد إلى القاهرة، وعقد له ثاني يوم وصوله -وهو ثاني عشرين رمضان سنة خمس وسبعمائة- مجلس بالقلعة، وادعى عليه عند ابن مخلوف قاضي المالكية، أنه يقول: إن الله تكلم بالقرآن بحرف وصوت، وأنه على العرش بذاته، وأنه يشار إليه بالإشارة الحسية (قلت هذا الذي اتهموه به هو عين عقيدة السلف التي كان عليها الصحابة رضوان الله عليهم وقد أشار الرسول إلى الله وأنه في السماء غير مرة).

وقال المدعي: أطلب تعزيره على ذلك، التعزير البليغ -يشير إلى القتل على مذهب مالك- فقال القاضي: ما تقول يا فقيه؟ فحمد الله وأثنى عليه، فقيل له: أسرع ما جئت لتخطب، فقال أأمنع من الثناء على الله تعالى؟ فقال القاضي: أجب، فقد حمدت الله تعالى: فسكت الشيخ، فقال: أجب. فقال الشيخ له: من هو الحاكم في؟ فأشاروا: القاضي هو الحاكم، فقال الشيخ لابن مخلوف: أنت خصمي، كيف تحكم فيّ؟ وغضب، ومراده: إني وإياك متنازعان في هذه المسائل، فكيف يحكم أحد الخصمين على الآخر فيها؟ فأقيم الشيخ ومعه أخواه، ثم رد الشيخ، وقال: رضيت أن تحكم فيّ، فلم يمكن من الجلوس، ويقال: إن أخاه الشيخ شرف الدين ابتهل، ودعا الله عليهم في حال خروجهم، فمنعه الشيخ، وقال له: بل قل: اللهم هب لهم نوراً يهتدون به إلى الحق.

ثم حبسوا في برج أياماً، ونقلوا إلى الجب ليلة عيد الفطر، ثم بعث كتاب سلطاني إلى الشام بالحط على الشيخ، والزم الناس -خصوصاً أهل مذهبه- بالرجوع عن عقيدته، والتهديد بالعزل والحبس، ونودي بذلك في الجامع والأسواق. ثم قرئ الكتاب بسدة الجامع بعد الجمعة، وحصل أذى كثير للحنابلة بالقاهرة، وحبس بعضهم، وأخذ خطوط بعضهم بالرجوع. وكان قاضيهم الحراني قليل العلم.

ثم في سلخ رمضان سنة ست: أحضر سلار -نائب السلطان بمصر- القضاة والفقهاء، وتكلم في إخراج الشيخ، فاتفقوا على أنه يشترط عليه أمور، ويلزم بالرجوع عن بعض العقيدة، فأرسلوا إليه من يحضره، وليتكلموا معه في ذلك، فلم يجب إلى الحضور، وتكرر الرسول إليه في ذلك ست مرات، وصمم على عدم الحضور، فطال عليهم المجلس، فانصرفوا من غير شيء.

ثم في آخر هذه السنة وصل كتاب إلى نائب السلطنة بدمشق من الشيخ، فأخبر بذلك جماعة ممن حضر مجلسه، وأثنى عليه: وقال: ما رأيت مثله، ولا أشجع منه. وذكر ما هو عليه في السجن: من التوجه إلى الله تعالى، وأنه لا يقبل شيئاً من الكسوة السلطانية، ولا من الأدرار السلطاني، ولا تدنس بشيء من ذلك.

ثم في ربيع الأول من سنة سبع وسبعمائة دخل مهنا بن عيسى أمير العرب إلى مصر، وحضر بنفسه إلى السجن، وأخرج الشيخ منه، بعد أن استأذن في ذلك، وعقد للشيخ مجالس حضرها أكابر الفقهاء، وانفصلت على خير.

وذكر الذهبي والبزالي وغيرهما: أن الشيخ كتب لهم بخطه مجملاً من القول وألفاظاً فيها بعض ما فيها، لما خاف وهدد بالقتل، ثم أطلق وامتنع من المجيء إلى دمشق. وأقام بالقاهرة يقرئ العلم، ويتكلم في الجوامع والمجالس العامة، ويجتمع عليه خلق.

ثم في شوال من السنة المذكورة: اجتمع جماعة كثيرة من الصوفية، وشكوا من الشيخ إلى الحاكم الشافعي، وعقد له مجلس لكلامه في ابن عربي وغيره، وادعى عليه ابن عطاء (هو ابن عطاء الله السكندري الصوفي صاحب الحكم). بأشياء، ولم يثبت منها شيئاً، لكنه اعترف أنه قال: لا يستغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم، استغاثة بمعنى العبادة، ولكن يتوسل به، فبعض الحاضرين قال: ليس في هذا شيء.

ورأى الحاكم ابن جماعة: أن هذا إساءة أدب، وعنفه على ذلك، فحضرت رسالة إلى القاضي: أن يعمل معه ما تقتضيه الشريعة في ذلك، فقال القاضي: قد قلت له ما يقال لمثله.

ثم إن الدولة خيروه بين أشياء، وهي الإقامة بدمشق، أو بالإسكندرية، بشروط، أو الحبس، فاختار الحبس. فدخل عليه أصحابه في السفر إلى دمشق، ملتزماً ما شرط عليه، فأجابهم، فأركبوه خيل البريد، ثم ردوه في الغد، وحضر عند القاضي بحضور جماعة من الفقهاء، فقال له بعضهم: ما ترضى الدولة إلا بالحبس. فقال القاضي: وفيه مصلحة له، واستناب التونسي المالكي وأذن له أن يحكم عليه بالحبس، فامتنع، وقال: ما ثبت عليه شيء، فأذن لنور الدين الزواوي المالكي، فتحير، فقال الشيخ: أنا أمضي إلى الحبس، وأتبع ما تقتضيه المصلحة، فقال الزواوي المذكور: فيكون في موضع يصلح لمثله، فقيل له: ما ترضى الدولة إلا بمسمى الحبس، فأرسل إلى حبس القاضي وأجلس في الموضع الذي أجلس فيه القاضي تقي الدين ابن بنت الأعز لما حبس، وأذن أن يكون عنده من يخدمه. وكان جميع ذلك بإشارة نصر المنبجي.

واستمر الشيخ في الحبس يستفتي ويقصده الناس، ويزورونه، وتأتيه الفتاوى المشكلة من الأمراء وأعيان الناس.

وكان أصحابه يدخلون عليه أولاً سراً، ثم شرعوا يتظاهرون بالدخول عليه، فأخرجوه في سلطنة الششنكير الملقب بالمظفر، إلى الإسكندرية على البريد، وحبس فيها في برج حسن مضيء متسع، يدخل عليه من شاء، ويمنع هو من شاء، ويخرج إلى الحمام إذا شاء. وكان قد أخرج وحده، وأرجف الأعداد بقتله وتفريقه غير مرة، فضاقت بذلك صدور محبيه بالشام وغيره، وكثر الدعاء له. وبقي في الإسكندرية مدة سلطنة المظفر.

فلما عاد الملك الناصر إلى السلطنة وتمكن، وأهلك المظفر، وحمل شيخه نصر المنبجي، واشتدت موجدة السلطان على القضاة لمداخلتهم المظفر، وعزل بعضهم: بادر بإحضار الشيخ إلى القاهرة مكرماً في شوال سنة تسع وسبعمائة، وأكرمه السلطان إكراماً زائداً، وقام إليه، وتلقاه في مجلس حفل، فيه قضاة المصريين والشاميين، والفقهاء وأعيان الدولة. وزاد في إكرامه عليهم، وبقي يسّاره ويستشيره سويعة، وأثنى عليه بحضورهم ثناء كثيراً، وأصلح بينه وبينهم. ويقال: إنه شاوره في أمرهم به في حق القضاة، فصرفه عن ذلك، وأثنى عليهم، وأن ابن مخلوف كان يقول: ما رأينا أتقى من ابن تيمية، سعينا في دمه. فلما قدر علينا عفا عنا.

واجتمع بالسلطان مرة ثانية بعد أشهر، وسكن الشيخ بالقاهرة، والناس يترددون إليه، والأمراء والجند، وطائفة من الفقهاء، ومنهم من يعتذر إليه ويتنصل مما وقع.

قال الذهبي: وفي شعبان سنة إحدى عشرة: وصل النبأ: أن الفقيه البكري -أحد المبغضين للشيخ- استفرد بالشيخ بمصر، ووثب عليه، ونتش بأطواقه، وقال: احضر معي إلى الشرع، فلي عليك دعوى، فلما تكاثر الناس انملص، فطلب من جهة الدولة، فهرب واختفى.

وذكره غيره: أنه ثار بسبب ذلك فتنة، وأراد جماعة الانتصار من البكري فلم يمكنهم الشيخ من ذلك.

واتفق بعد مدة: أن البكري همّ السلطان بقتله، ثم رسم بقطع لسانه (أي أمر بقطع لسانه فانظر كيف رد الله كيد البكري في نحره)، لكثرة فضوله وجراءته، ثم شفع فيه، فنفى إلى الصعيد، ومنع من الفتوى بالكلام في العلم. وكان الشيخ في هذه المدة يقرئ العلم، ويجلس الناس في مجالس عامة.

قدم إلى الشام هو وإخوانه سنة اثنتي عشرة بنية الجهاد، لما قدم السلطان لكشف التتر عن الشام، فخرج مع الجيش، وفارقهم من عسقلان، وزار البيت المقدس.

ثم دخل دمشق بعد غيبته عنها فوق سبع سنين، ومعه أخواه وجماعة من أصحابه، وخرج خلق كثير لتلقيه، وسر الناس بمقدمه، واستمر على ما كان عليه أولاً، من اقراء العلم، وتدريسه بمدرسة السكرية، والحنبلية، وإفتاء الناس ونفعهم.

ثم في سنة ثمان عشرة: ورد كتاب من السلطان بمنعه من الفتوى في مسألة الحلف بالطلاق بالتكفير (أي من حلف بالطلاق لا يلزمه وإنما يكفر كفارة يمين)، وعقد له مجلس بدار السعادة، ومنع من ذلك، ونودي به في البلد.

ثم في سنة تسع عشرة عقد له مجلس أيضاً كالمجلس الأول، وقرئ كتاب السلطان بمنعه من على تأكيد المنع.

ثم بعد مدة عقد له مجلس ثالث بسبب ذلك، وعوتب وحبس بالقلعة. ثم حبس لأجل ذلك مرة أخرى. ومنع بسببه من الفتيا مطلقاً، فأقام مدة يفتي بلسانه، ويقول: لا يسعني كتم العلم (وقد عاد الناس اليوم بحمد الله إلى فتوى ابن تيمية هذه التي سجن فيها وأوذي مرارا).

وفي آخر الأمر: دبروا عليه الحيلة في مسألة المنع من السفر إلى قبور الأنبياء والصالحين، وألزموه من ذلك التنقص بالأنبياء، وذلك كفر، وأفتى بذلك طائفة من أهل الأهواء، وهم ثمانية عشر نفساً، رأسهم القاضي الإخناني المالكي وأفتى قضاة مصر الأربعة بحبسه، فحبس بقلعة دمشق سنتين وأشهراً، وبها مات رحمه الله تعالى.

وقد بين رحمه الله: أن ما حكم عليه به باطل بإجماع المسلمين من وجوه كثيرة جداً، وأفتى جماعة بأنه يخطئ في ذلك خطأ المجتهدين المغفور لهم، ووافقه جماعة من علماء بغداد، وغيرهم. وكذلك ابنا أبي الوليد شيخ المالكية بدمشق أفتيا: أنه لا وجه للاعتراض عليه فيما قاله أصلاً، وأنه نقل خلاف العلماء في المسألة، ورجح أحد القولين فيها.

وبقي مدة في القلعة يكتب العلم ويصنفه، ويرسل إلى أصحابه الرسائل، ويذكر ما فتح الله به عليه في هذه المرة من العلوم العظيمة، والأحوال الجسيمة.

وقال: قد فتح الله علي في هذا الحصن في هذه المرة من معاني القرآن، ومن أصول العلم بأشياء، كان كثير من العلماء يتمنونها، وندمت على تضييع أكثر أوقاتي في غير معاني القرآن، ثم إنه منع من الكتابة، ولم يترك عنده دواة ولا وقلم ولا ورق، فأقبل على التلاوة والتهجد والمناجاة والذكر.

قال شيخنا أبو عبدالله ابن القيم: سمعت شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه، ونور ضريحه، يقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة. قال: وقال لي مرة: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أين رحت فهي معي، لا تفارقني، أنا حبسي خلوة. وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة.

وكان في حبسه في القلعة يقول: لو بذلت ملء هذه القلعة ذهباً ما عدل عندي شكر هذه النعمة -أو قال: ما جزيتهم على ما تسببوا إلي فيه من الخير- ونحو هذا.

وكان يقول في سجوده، وهو محبوس: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، ما شاء الله.

وقال مرة: المحبوس من حبس قلبه عن ربه، والمأسور من أسره هواه ولما دخل إلى القلعة، وصار داخل سورها نظر إليه، وقال: {فضرب بينهم بسور له باب، باطنه فيه الرحمة، وظاهره من قبله العذاب} (الحديد:13) .

قال شيخنا: وعلم الله ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه قط، مع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرجاف، وهو مع ذلك أطيب الناس عيشا، وأشرحهم صدرا، وأقواهم قلبا، وأسرهم نفسا، تلوح نضرة النعيم على وجهه وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت بنا الظنون، وضاقت بنا الأرض: أتيناه، فما هو إلا أن نراه، ونسمع كلامه، فيذهب عنا ذلك كله، وينقلب انشراحا وقوة ويقينا وطمأنينة. فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل، فأتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها، والمسابقة إليها. أ.هـ.(الذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب ص396 إلى 403 نشر دار المعرفة).

 

ابن تيمية والعفو عند المقدرة:

وقد يظن ظان أن ابن تيمية وقد ابتلي بهذه الابتلاءات جميعاً فكر يوماً ما أن ينال من مسلم آذاه أو وشى به حاشا وكلا لقد كان دائماً ذا نفس أبية لم ينتقم يوماً لنفسه مع قدرته ممن آذاه وألب عليه.

*حدث ابن عبدالهادي عن شيخ الإسلام أن سلطان مصر الناصر ابن قلاوون استقدم الشيخ عنده ورحب به ثم أخرج له من جيبه فتاوي لبعض علماء مصر الذين أفتوا بقتل ابن تيمية، واستفتى السلطان ابن تيمية في أن يقتل بعضهم ممن زوروا على ابن تيمية وافتوا في قتله. قال الشيخ ابن تيمية "ففهمت مقصود السلطان ابن قلاوون وعلمت أن عنده حنقاً شديداً عليهم لأنهم كانوا قد خلعوه وبايعوا ركن الدين بيبرس الجاشنكير يقول ابن تيمية فشرعت في مدح هؤلاء العلماء وشكرهم، وأنهم لو ذهبوا لم تجد مثلهم في دولتك، وأما أنا فهم في حل من حقي ومن جهتي".

قال ابن تيمية فكان القاضي زين الدين بن مخلوف قاضي المالكية يقول بعد ذلك: ما رأينا أنقى من ابن تيمية لم نبق ممكنا في السعي لقتله إلا وفعلناه، ولما قدر هو علينا عفى عنا. أ.هـ. (العقود الدرية لابن عبدالهادي ص281-283).

الباب الخامس

ابن تيمية وشهادات العلماء المعاصرين

كتب علماء معاصرون كثيرون لا أستطيع أن أحصيهم في هذه الرسالة الموجزة السريعة وكلهم أطبقوا كما ذكرت في أول الرسالة أن العالم في القرن الثامن كان ينتظر خروج هذا الرجل لحاجة الأمة إلى تجديد الدين، وإزالة الركام الذي ألقاه الظالمون والمنتحلون.. وكان هذا الذي ذكره العلماء المحدثون هو أيضاً ما أطبق عليه العلماء الذين عاصروا ابن تيمية وعايشوه. ولكن المعاصرين الآن من أهل الدين والفهم وممن له اشتغال بالدعوة والجهاد والعلم يرون أنه ما أشبه اليوم بالبارحة، وأنه ما أحوج العالم اليوم إلى ابن تيمية ليجدد لهذه الأمة شبابها، ويعلي للتوحيد مناره، وللإسلام الحق ركنه وفخاره.

وأقول الحمد لله نحن اليوم نعيش عصر ابن تيمية فرجال الدعوة المخلصون، وشباب الأمة العاملون ملهمهم وإمامهم وقدوتهم هو ابن تيمية، ومرجعهم هو كتبه ومؤلفاته، وأقواله ونظرياته.

وإن التجديد الحادث اليوم لدين الأمة هو بفضل الله أولاً ثم بفضل الذين تتلمذوا على كتب هذا الإمام الجليل، وتضلعوا من علمه الغزير وغاصوا في بحره الواسع وهآنذا أذكر طائفة من شهادات بعض العلماء المعاصرين.

*حاجة الأمة إلى ابن تيمية:

1- شهادة الشيخ أبي الحسن الندوي:

كتب الشيخ أبو الحسن الندوي كتاباً مطولاً عن ابن تيمية يقع في نحو ثلاثمائة وخمسين صفحة وكان منه هذه المقدمة الرائعة التي يصف فيها حاجة المسلمين في القرن الثامن إلى ظهور هذا الإمام الذي كان لا بد من ظهوره لإعادة استثارة العالم من جديد بعد أن غطاه الظلام.

كتب حفظه الله يقول:

ظهر علم الكلام لمقاومة الفلسفة ونصرة الدين، وكان ذلك أمراً لازماً، غير أنه تأثر بالفلسفة وتسربت إليه روحها حتى تكونت (فلسفة دينية) تنتهج نفس المنهج، وتبحث نفس الموضوع وتتبع نفس الأسلوب للبحث والإستدلال، وتعيد نفس الخطأ في اعتبار ذات الله وصفاته وقضايا ما وراء العقل أموراً عقلية يمكن إثباتها عن طريق العقل، وكذلك تسيطر عليه روح عدم الاقتناع بما جاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من شرح وتعبير في هذا الموضوع واستخدم مصطلحات يونانية تقوم على علم محدود ناقص وتثير شبهات، الأمر الذي دعا إلى تعقد القضايا وتوسعها بل أن تنحل أو تختصر، ووجدت (فلسفة إلهية) وكتب ضخمة في شرح العقائد إزاء أسلوب مقنع مؤثر كان جديراً بشحن النفوس بالإيمان والإذعان، وإقناع العقول في كل زمان، وكان مؤسساً على نصوص الكتاب والسنة.

وكانت هذه الفلسفة الإلهية الجديدة قد تأثرت بالفكر اليوناني رغم أنها ظهرت ضد الفلسفة اليونانية، فكانت روح الكتاب والسنة تحتج دائماً على هذا الموضوع ووجدت طبقة وجيهة للأمة الإسلامية معارضة لهذه التفاصيل الفلسفية والتآويل الكلامية، غير أن الحاجة إلى عالم كبير نافذ البصيرة، واسع العلم، قوي الإيمان كانت أكيدة لشرح الكتاب والسنة والتعبير القوي المؤثر عنهما، ذلك الذي يعتقد أجزم الاعتقاد أن في نصوص الكتاب والسنة حول ذات الله وصفاته وفي تعبيراتها عنها غنى وكفاية تامة، ذلك العالم الذي يتوصل بذكائه ودراسته إلى أعماق الفلسفة ويطلع على خباياها وكوامنها، ويتمكن من تناول أقوال فلاسفة اليونان ومذاهبهم الفكرية بالنقد العلمي، بما عنده من علم بموضع ضعفها الأساسية، ذلك الذي قد تعمق بتفكيره فوصل إلى أغوار علم الكلام واطلع على الخلافات الدقيقة بين الأديان والفرق الإسلامية ولا يخفى عليه شيء من تاريخ علم الكلام ونموه، ذلك الرجل الذي يكون على جانب عظيم من الثقة والاعتزاز بنصوص الكتاب والسنة ومذهب السلف بفضل دراسته وتجاربه، يفيض عزماً وحماساً بنصرته وشرحه، ويعيش على حسك السعدان لكي يثبت رجحان مذهب السلف وفضله من الناحية العقلية على غيره من الفلسفات والنظم العقلية، كما يكون متمتعاً بجميع تلك الوسائل والمؤهلات التي يتطلبها هذا العمل العظيم ومتميزاً في ذكائه وقوة بيانه واستدلاله وسعة نظره وعمق دراسته عن غيره، يكون فوق مستوى عصره وكفوا للقيام بهذه الخدمة بمعنى الكلمة.

في مواجهة المسيحية، ونقدها العلمي:

هذا وقد كان الإسلام هدفاً للهجمات الداخلية والخارجية بجانب آخر، وكان المسيحيون قد تحمسوا لإثبات أن المسيحية هي الدين الحق، وتوجيه الايرادات إلى الإسلام، أن الهجوم الصليبي المتتابع ووجود عدد وجيه من مسيحيي الغرب في الشام وقبرص شجعهم على مواجهة المسلمين في المجال العلمي وعلى تأليف كتب تثبت فضل دينهم وأخرى ترفض نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.

وللرد على كل ذلك كانت الحاجة ملحة إلى عالم كبير ومتكلم، له دراسة عميقة في المسيحية والديانات الأخرى وله اطلاع واسع على الصحف السماوية وما واجهته من تغيير وتحريف ويستطيع أن يحسن المقارنة بين الديانات ويثبت فضل الإسلام وخلوده في أسلوب علمي مؤثر قوي، ويتمكن من دعوة أتباع الديانات الأخرى إلى الإسلام بحكمة وقوة.

فضح المذاهب المنحرفة والحركات الهدامة:

وقد كان أشد وأكثر خطورة من هذه الهجمات حملة شنها فرقة دخيلة عل الإسلام وهي الفرقة الباطنية التي كانت ديانتها وتعاليمها مجموعة عجيبة للعقائد المجوسية والأفكار الأفلاطونية والأغراض السياسية، وقد كانت هذه الفرقة وفروعها المختلفة من الاسماعيلية والحشاشية والدروزية والنصيرية تتعاون مع القوى العدوانية والمهاجمين الأجانب على الإسلام، وهي التي مهدت الطريق ودبرت المؤامرات للهجوم على الأقطار الإسلامية وساعدت الصليبيين في شن هجومهم على الشام وذلك ما جعل الصليبيين عند استيلائهم على الشام أن قربوا رجال الفرقة الباطنية وجعلوهم موضع ثقتهم ونجواهم وأحسنوا إليهم، اعترافاً بمساعداتهم المخلصة، وقد ظل هؤلاء الباطنيون مشتغلين بتبييت المؤامرات وتدبير الثورات في عهدي صلاح الدين ونور الدين فلما قصد وحوش التتر أرض الشام بهجماتهم العنيفة ساعدهم الباطنيون علناً وجهاراً، وأصابوا المسلمين بضرر بالغ، وذلك عدا ما كانوا يقومون به بصفة دائمة من نشر اضطراب فكري وتشاؤم بالدين وإلحاد وزيغ وثورة على الدين وكانوا (كالطابور الخامس) في حصن المسلمين الديني.

كل ذلك كان يحتم على المسلمين أن يقتلعوا جذور هذه الفرقة من الناحيتين العلمية والعملية، ويكشفوا القناع عن معتقداتها وأغراضها ليطلع المسلمون على نواياها ويعاقبوها معاقبة شديدة على أعمالها العدائية ومحاربتها للإسلام ولم يكن يقوم بهذه المهمة إلا من له اطلاع تام على حقيقة هذه الفرقة وأسرارها وتاريخها، وله معرفة بجميع فروعها ومعتقداتها وأفكارها مع قدرته البالغة على تناولها بالرد والنقد، مضافاً إلى ذلك حماسه الزائد للإسلام ودافعه القوي للجهاد مع أعداء الإسلام.

محاربة العقائد، والأعمال الشركية، والدعوة إلى الدين الخالص:

هذا وكانت الجماهير المسلمة فريسة العقائد الباطلة وأعمال الشرك بضغط عوامل عديدة منها اختلاطهم بغير المسلمين، وتأثير العجم، وتهاون العلماء، وقد أصبح الدين الخالص والتوحد النقي وراء حجاب وحجاب، ونشأ الغلو والإفراط في الاعتقاد في الأولياء والصالحين شأن اليهود والنصارى، حتى بدأت عقيدة التوسط والتقرب بالأولياء ترسخ، وينطبق عليهم ما حكاه القرآن من قول مشركي العرب الأولين {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} وتنتشر هذه الفكرة الجاهلية في أوساط المسلمين وأصبح كثير من العلماء لا يرون بأساً في الاستغاثة بغير الله والاستعانة به، واتخذت قبور الأنبياء والصالحين مساجد وتحقق الخطر الذي كان قد أنذر به النبي صلى الله عليه وسلم وشدد النهي عنه، ولم يكن المسلمون يشعرون بأي غضاضة في التخلق بأخلاق الذميين والكافرين واتخاذ شعائرهم وخصائصهم والحضور في أعيادهم الدينية ومهرجاناتهم واصطناع تقاليدهم وعاداتهم.

فكانت الحاجة ماسة إلى عالم مجاهد يتصدى لمحاربة هذه الجاهلية المشتركة والدعوة إلى التوحيد الخالص بكل قوة وإيضاح ويكون عارفاً بالفرق بين التوحيد والشرك معرفة دقيقة، ولا تخفى عليه الجاهلية مهما تقنعت وتنكرت أو ظهرت في مظاهر، ويكون قد حصل على حقيقة التوحيد مباشرة من الكتاب والسنة وحياة الصحابة الكرام رضي الله عنهم لا من كتب المتأخرين وتعامل المسلمين الجهلاء، وتقاليد الزمان وعادات الناس، ولا يبالي في الجهر بالعقيدة الصحيحة بمعارضة الحكومات وعداوة الناس ومخالفة العلماء ولا يخاف في ذلك لومة لائم، ويكون ذا نظر دقيق وعلم واسع بالكتاب والسنة ومصادر الدين الأولى الموثوق بها، وبأحوال القرون الأولى، وذا اطلاع كامل على تاريخ اليهود والنصارى وقصة انحرافهم ومسخهم وتحريفهم، وعلى عقلية الأمم الجاهلية ونفسيتهم، ويعيش في تأمل وقلق لكي يعيد المسلمين إلى تعاليم القرآن وعقيدة الصدر الأول ويراهم منتهجين طريق الصحابة الكرام رضوان الله عليهم وأتباعهم.

محاربة الانحرافات والمغالطات في الطوائف الدينية وتنقية الدين من الشوائب:

وقد تسرب إلى متصوفين -لأسباب تاريخية وعلمية عديدة- تأثير الفلسفة الاشراقية التي جاءت من يونان والهند، وامتزجت بالعقائد الإسلامية وأفكارها امتزاجاً لا يتسنى لكل واحد فصلها عنها، إن اشراقية الأفلاطونية الجديدة أو تنسك الهنود، وعقيدة الحلول والاتحاد، ومذهب وحدة الوجود، وتقسيم الظاهر والباطن، وفتنة الرموز والأسرار، والعلم الدفين، وسقوط التكاليف الشرعية عن (الكاملين) و (الواصلين) واستثناؤهم عن الأحكام الشرعية كل ذلك كانت معتقدات وأفكاراً نالت إعجاب طبقة كبيرة من المتصوفين، وبالرغم من إنكار أصحاب التحقيق والرسوخ في العلم من هذه الطائفة في كل زمان لهذه المعتقدات الفاسدة كانت طبقة من المتصوفين تلح عليها، حتى تسفل بعض فروع التصوف وسلاسله إلى حد الشعوذة والتهويل، ولا سيما بعض فروع السلسلة الرفاعية التي انحرفت في العهد الأخير (للأسف أن بعض المعاصرين من الرفاعية ما زالوا يفتخرون بمثل هذه الأعمال الشيطانية)، عن أصلها وتعاليم مؤسسها الكبير وآثر كثير من رجالها الذين لم ترسخ قدمهم في العلوم الشرعية والعقائد الإسلامية الأعمال البهلوانية، زاعمين أنها تؤثر في عقول المغول والتتار وترغبهم في الإسلام، وكان لذلك ضرر عظيم على سلامة العقيدة ومكانة الشريعة، وقد استفحلت هذه الفتنة في القرنين السابع والثامن، ووقع العامة وكثير من الخاصة فريسة هذه المغالطات.

ولقمع هذا الخطر الناجم أيضاً والحفاظ على الشريعة كانت الحاجة شديدة إلى مؤمن قوي، ومصلح جريء يتناول هذه الطوائف المنحرفة بالنقد اللاذع ويكشف القناع عن وجه أخطائها ومغالطاتها بكل حرية وجراءة، معرضاً عن صولتها وقوتها، وغير مبال بعدد أتباعها ونفوذهم.

تجديد الفكر الإسلامي:

وكانت الحلقات العلمية والتدريسية مصابة بجمود شديد، فكل طائفة تعتبر الخروج عن دائرتها الفقهية قيد شعرة جريمة لا تغتفر، وكان مألوفاً لدى كل طائفة أن ترى إلى الكتاب والسنة بمنظار مذهبها الفقهي، وتحاول تطبيق الكتاب والسنة في الخلافات الفقهية على آرائها في كل حال فضلاً عن تحكيمها فيها، وكان باب الترجيح والاختيارات الفقهية مغلقاً عملياً، وكانت مشكلات حديثة وقضايا جديدة قد حدثت مع تغير الزمان والأحوال، الأمر الذي كان يحتاج إلى إرشاد المسلمين فيها والبحث عن حلولها إلى رجل يجمع بين سعة النظر في ذخائر الفقه الإسلامي، والتعمق في الكتاب والسنة والاطلاع على تعامل القرون الأولى، والعلم العميق الدقيق بأصول الفقه، وقد كان يتضايق مجال العلم والنظر والدراسة على مر الزمان وتضمحل القوى الفكرية، ولم يكن عالم من علماء الإسلام يتجرأ على استنباط الأحكام الجديدة وكان الفقه الإسلامي قد فقد جدارة النمو والتقدم، ويعتبر من المستحيل أن يزداد إلى ثروة الفقه القديمة أي زيادة.

فكان إصلاح هذا الوضع كذلك يحتاج إلى محدث فقيه وأصولي ضليع يكون قد استعرض ذخائر المكتبة الإسلامية بأسرها ويستحضر الكتاب والسنة بحيث يحير الناس، ويعرف الحديث وأنواعه وطبقاته ومجموعاته معرفة دقيقة تضطر الناس إلى الاعتراف بمكانته في صناعة الحديث، حتى يقولوا: (إن الحديث الذي لا يعرفه هذا الرجل ليس حديثاً) (من الأقوال التي قالها كبار علماء العصر في شيخ الإسلام ابن تيمية كما سيأتي، قلت قاله تلميذه الذهبي) ويكون مستحضراً لخلافات الفقهاء ومراجعهم ودلائلهم في كل حين، كما يكون له اطلاع تام على المذاهب الفقهية الأخرى وفروعها أكثر من أصحاب الاختصاص فيها والمنقطعين إليها من أهل المذهب، ولا يتعدى حدود السلف مع قوة استنباطه وتحقيقه، عارفاً بمكانة الأئمة المجتهدين وفضلهم وحقهم ومتطفلاً على موائد علمهم ودينهم، ويكون ذا قدم راسخة في علوم اللغة وباع طويل فيها حتى تأهل لذلك للنقد والصيرفة في مجالها، يجمع إلى ذلك علو الكعب ودقة النظر في النحو حتى يأخذ على أئمة النحو الكبار أخطاءهم الفنية، ويجدد بقوة عارضته عهد المحدثين الأولين، يعتبر ذكاؤه آية من آيات الله وعلمه دليلاً على فضل الله، ويبرهن بشخصيته على خصوبة تربة الأمة الإسلامية وغضارة دوحة الإسلام، ونضارة العلوم الإسلامية ونموها وازدهارها، ويكون تصديقاً لما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم من قولته الخالدة. [مثل أمتي مثل المطر، لا يدري أوله خير أم آخره] (رواه الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه).

جامع بين العلم والعمل، والسيف والقلم:

ويكون مع ذلك من فرسان العمل والكفاح، ويجمع بين القلم والسيف، جريئاً على الملوك في الصدع بالحق، لا يحجم عن قيادة الجيش الإسلامي أمام أضرى عدد ومثل الوحوش التتر، ويعرفه كل من حلق الدرس، وزوايا المكتبات، وخلوات المساجد، ومجالس المناظرة، ومعتقلات السجون، وساحات الحرب كفارس عظيم ورجل ذي شكيمة، مبجلاً في كل عين ومعترفاً بإمامته في كل طبقة.

كان القرن الثامن بحاجة إلى مثل هذا الرجل الكامل الذي يسع نشاطه كل مجال من مجالات الحياة من غير أن تنزوي جهوده وأعماله في زاوية واحدة أوتتركز على جانب واحد، كان ذلك الرجل هو شيخ الإسلام الحافظ ابن تيمية الذي ملأ العالم الإسلامي بنشاط وحياة تحركات علمية وعملية لا تزال آثارها خالدة باقية على مر القرون والأجيال.

2-شهادة الشيخ محمد أبي زهرة رحمه الله:

وكتب الشيخ محمد أبي زهرة ترجمة مستفيضة لشيخ الإسلام ابن تيمية، وفي مقدمتها يبين الباعث له على هذه الترجمة فيقول:

أ- الفقيه الذي اتصل بالحياة وتعلق قلبه بالكتاب والسنة:

برز إلى الخاطر إمام شغل عصره بفكره ورأيه ومسلكه، فدوى صوته بآرائه في مجتمعه، فتقبلتها عقول واستساغتها، وضاقت عنها أخرى وردتها، وانبرى لمنازلته المخالفون، وشد أزره الموافقون، وهو في الجمعين يصول ويجول، ويجادل ويناضل، والعامة من وراء الفريقين قد سيطر عليهم الإعجاب بشخصه وبيانه، وقوة جنانه وحدة لسانه، واعترتهم الدهشة لما يجيء به من آراء يجدد بها أمر هذه الأمة، ويعيد إليها دينها غضاً قشيباً كما ابتدأ.

ذلكم الإمام الجريء هو تقي الدين بن تيمية صاحب المواقف المشهودة، والرسائل المنضودة، اتجهت لدراسته مستعيناً بالله سبحانه، لأن دراسته دراسة لجيل، وتعرف لقبس من النور أضاء في دياجير الظلام، ولأن آراءه في الفقه والعقائد تعتنقها الآن طائفة من الأمة الإسلامية تأخذ بالشريعة في كل أحكامها وقوانينها، ولأننا نحن المصريين في قوانين الزواج والوصية والوقف قد نهلنا من آرائه، فكثير مما اشتمل عليه القانون رقم 25 لسنة 1929 مأخوذ من آرائه، مقتبس من اختياراته، وشروط الواقفين والوصايا اقتبست أحكامها في قانوني الوقف والوصية من أقواله.

ثم إن دراسة ذلك الإمام الجليل تعطينا صورة للفقيه قد اتصل بالحياة، وتعلق قلبه وعقله وفكره بالكتاب والسنة والهدي النبوي، والسلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، فهو يأتي بفكر سلفي آخذ بأحكام القرآن الكريم، والسنة النبوية، يعالج به مشاكل الحياة الواقعة بالقسطاس المستقيم، بل يلقي في حقل الحياة العاملة الكادحة المتوثبة بالبذرة الصالحة التي استنبطها من الكتاب والسنة فتنبت الزرع، وتخرج الثمر، وتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.

وإنا وقد اتجهنا إلى دراسة ذلك العالم الكاتب الخطيب المجاهد الذي حمل السيف والسنان، كما حمل القلم والبيان، سنجتهد في دراسة حياته، ومجاوبتها لروح عصره، وتأثيرها فيه، ثم ندرس آراءه كعالم من علماء الكلام وآراءه كفقيه، واجتهاده والأصول التي تقيد بها، ومقدار الصلة التي تربطه بالفقه الحنبلي.

وإن نستعين بالله، ونسأله التوفيق، فإنه لولا توفيقه ما تيسر لنا أمر، ولا وصلنا إلى غاية، إنه نعم المولى ونعم النصير. أ.هـ (ابن تيمية لأبي زهرة ص3،4).

ب- لماذا درس ابن تيمية الفلسفة؟

ويشيد أبو زهرة بردود ابن تيمية على الفلاسفة، ويبين لماذا درس الفلسفة ويعقد فصلاً يقارن فيه بين دراسة ابن تيمية للفلسفة ودراسة الغزالي لها فيقول:

درس ابن تيمية الفلسفة وعرفها، ولكنه درسها ليهدمها، وهو قد رآها داء قد أصاب فكر المسلمين، فجعل منهم المتكلمين والمتفلسفين، وأنها سرت إلى العقل الإسلامي فسيطرت على مساربه، ويروي أنه قبل أن يخوض في بيان العقيدة الإسلامية وموافقتها لصريح المعقول لا بد من إبعاد العناصر الفلسفية التي هي أخيلة وأوهام، كما يبعد عن الجسم الإنساني الأخلاط الضارة لتتم سلامته، فيقول في ذلك:

"لما كان بيان مراد الرسول في هذه الأبواب لا يتم إلا بدفع المعارض العقلي، وامتناع تقديم ذلك على نصوص الأنبياء، بينا في هذا الكتاب فساد القانون الفاسد الذي صدوا به الناس عن سبيل الله. وعن فهم مراد الرسول وتصديقه فيما أخبر به، إذ كان أي دليل أقيم على بيان مراد الرسول لا ينفع إذا قدر أن المعارض العقلي ناقضه، بل يصير ذلك قدحاً في الرسول، وقدحاً فيمن استدل بكلامه، وصار هذا بمنزلة المريض الذي تكون به أخلاط فاسدة تمنع انتفاعه بالغذاء، فلا ينفعه مع وجود هذه الأخلاط الفاسدة التي تفسد الغذاء، فكذلك القلب الذي اعتقد قيام الدليل العقلي القاطع على نفي الصفات أو بعضها، أو نفي عموم خلقه لكل شيء وأمره ونهيه، أو امتناع المعاد أو غير ذلك لا ينفعه الاستدلال عليه في ذلك بالكتاب والسنة، إلا مع بيان فساد ذلك المعارض، وفساد المعارض قد يعلم جملة وتفصيلاً" (موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول المطبوع على هامش منهاج السنة ص9 ج1).

الفرق بينه وبين الغزالي:

درس إذن ابن تيمية الفلسفة وما عند الفلاسفة، لا ليطلب الحقائق من ورائها، بل ليبين بطلان ما يعارض الدين منها، فهو آمن بما جاء به الرسول أولاً، ثم أراد أن ينفي عنه خبث الفلسفة، فدرس ذلك الخبث ليعرف حقيقته ثم ليبين بطلانه بعد معرفته.

وهو في هذا يفترق عن منهاج الغزالي رضي الله عنه، فهو قد درس الفلسفة ليطلب الحقيقة من ورائها، وخلص نفسه من كل شيء ليصل إلى الحق المستقيم، واعتبر الشك هو الطريق للوصول إلى الحق، ولكن تبين له بطلان ما يقوله الفلاسفة، فعاد إلى الدين، وأشرق في نفسه نور الحقائق في خلوات صوفية عرف فيها نفسه، ثم حمل حملته على الفلاسفة وبين تهافتهم.

ومع ذلك هل تجرد منها؟ إنه بقيت في نفسه أثارة منها، بل إنه لم يتركها إلا وقد تكون عقله تكوناً فلسفياً، وأخذ أحد شعب الفلسفة وجعله جزءاً من دراساته، وهو المنطق، فهو في مقدمة كتاب المستصفي في عالم الأصول، والذي يعد أحد دعائم علم أصول الفقه الثلاثة (الكتب الثلاثة هي: المعتمد لأبي الحسين البصري، والبرهان لإمام الحرمين، والمستصفي للغزالي) يقرر أن الحقائق لا يمكن أن تعرف في أي علم من العلوم على وجهها إلا إذا كان المنطق ميزانها، ويقول في مقدمة كتاب المستصفي التي شرح بها علم المنطق إجمالاً ما نصه:

"نذكر في هذه المقدمة مدارك العقول وانحصارها في الحد والبرهان، ونذكر شرط الحد الحقيقي، وشرط البرهان الحقيقي، وأقسامها على منهاج أو جزء مما ذكرناه في كتاب محك النظر، وكتاب معيار العلم، وليست هذه المقدمة من جملة علم الأصول، ولا من مقدماته الخاصة به، بل هي مقدمة العلوم كلها، ومن لا يحيط بها فلا ثقة بعلومه أصلاً" (مقدمة المستصفي ص10 الجزء الأول).

وهذا إيمان بشعبة من شعب الفلسفة عميق، فإن علم المنطق فرع من فروعها، بل لعله أعظم تراث تركه أرسطو من بعده.

هذا هو الفرق بين المقصد عند هذين العالمين من دراسة الفلسفة، وقد تأدى بالأول إلى نقضها، وتأدى بالثاني إلى اعتناق بعضها، لذا قال بعض تلاميذ الغزالي: إنه دخل في بطن الفلسفة، ولما أراد الخروج منها لم يستطيع. فكانت منه تلك المناهج الفلسفية التي سلكها في دراسة العقائد، ودراسة أصول الفقه، بل كان منه تلك الحيرة التي بدت في آرائه في الفلسفة والفلاسفة، فبينما تراه يحمل على الفلاسفة، ويبين تهافتهم، تراه يقبض قبضة من علومهم ويجعلها وحدها ميزان العلوم، ولذا قال ابن تيمية فيه:

"كان أبو حامد ما يوجد في كلامه من الرد على الفلاسفة، وتكفيره لهم، وتعظيم النبوة وغير ذلك، ومع ما يوجد فيه من أشياء صحيحة حسنة، بل عظيمة القدر نافعة يوجد في بعض كلامه مادة فلسفية وأمور أضيفت توافق أصول الفلاسفة المخالفة للنبوة، بل المخالفة لصريح العقل، حتى تكلم فيه جماعات من علماء خراسان والعراق والمغرب" (شرح العقيدة الأصفهانية ص115).

ويقول فيه أيضاً:

"وأبو حامد لا يوافق المتفلسفة على كل ما يقولون، بل يكفرهم ويضللهم في موضع، وإن كان في الكتب المضافة إليه ما قد يوافق بعض أصولهم، بل في الكتب التي يقال إنها مضنونة بها على غير أهلها ما هو في الفلسفة مضنونة مخالفة لدين المسلمين واليهود والنصارى، وإن كان قد عبر عنها بعبارات إسلامية، لكن هذه الكتب في الناس من يقول إنها مكذوبة على أبي حامد، ومنهم من يقول: بل رجع عنها، ولا ريب أنه صرح في بعض المواضع ببعض ما قاله في هذه الكتب، وأخبر في المنقذ من الضلال، وغيره في كتبه بما في هذه من الضلال" (الكتاب المذكور ص49).

ثم بين أن الغزالي كان ينقل كتب الفلسفة، وأقوال الفلاسفة، وينقل عن أبي عبدالله المازري الفقيه المتكلم فيقول:

"قال (ابن المازري) ووجدت هذا الغزالي يعول على ابن سينا في أكثر ما يشير إليه في علوم الفلسفة، حتى إنه في بعض الأحايين ينقل نص كلامه من غير تغيير، وأحياناً يغيره، وينقله إلى الشرعيات أكثر مما نقل ابن سينا، لكونه أعلم بأسرار الشرع منه، فعلى ابن سينا ومؤلف رسائل إخوان الصفا عول الغزالي في علم الفلسفة" (الكتاب المذكور ص117).

نقده للفلاسفة:

من هذا يتبين كيف غمر الغزالي نفسه في الفلسفة ولم يستطيع الخروج منها، لأنه طلبها ليعرف الحقيقة من ورائها فكانت نيته في الطلب سبباً في أن أحاط به غمارها، وكان يعيش في أقطارها، فالتقى العلم الشرعي بالعقل الفلسفي، ففلسف الشريعة، أو ألبس الفلسفة لبوس الشرع من حيث يشعر أو لا يشعر.

أما ابن تيمية فقد طلبها ليهدمها، فكان يقرؤها ويفهمها، وهو في غير محيطها، ولم ينغمر في غمارها، وشدد النكير على الغزالي في منهاجه، وأخذ يتبع هفواته ويتقصى هناته.

ولقد كان يرى أن علم الشرع من النبوة وحدها، سواء في ذلك أصول العقيدة، وفروع الفقه والأحكام العلمية، لأن النبوة جاءت بكل ذلك، فما جاءت به النبوة مصدر العلم به وطريق معرفته، ولا طريق سواه، ويرى أن أولئك الذين يضعون مقدمات عقلية تسبق الدراسة الشرعية، ويجعلون ما جاء في القرآن يسير على منهاجها، فيؤولون صريحة ليوافقها، إنما يجعلون علم العقل فوق علم النبوة، ويقول في ذلك:

"يقدمون في كتبهم الكلام في النظر والدليل والعلم، وأن النظر يوجب العلم وأنه واجب، ويتكلمون في جنس النظر وجنس الدليل وجنس العلم بكلام قد اختلط فيه الحق بالباطل، ثم إذا صاروا إلى ما هو الأصل والدليل في الدين استدلوا بحدوث الأعراض على حدوث الأجسام، وهو دليل مبتدع في الشرع" (معارج الوصول ص4 من مجموعة رسائل لابن تيمية طبعة الخانجي).

ينقد ابن تيمية هؤلاء، لأنهم يقدمون عند دراستهم لما جاءت به النبوة تلك الدراسة العقلية عليها، ثم يحكمون على الأوصاف التي جاءت في القرآن بقوانينها، ويوجهونها بتوجيهها، فما يوافقها أقروه كما ورد، وما لم يوافقها وجهوه على اتجاهها، وأولوه بتأويلها، ثم هم في هذا السبيل لم يلتفتوا إلى السنة، ولم يعلموا أنها شارحة الكتاب، مبينة لكل ما جاء فيه، وأنها الطريق الوحيد لتفسيره.

نقد ابن تيمية هذا المسلك، لأنه يجعل الحاكم محكوماً، فيجعل النبوة التي هي حاكمة هادية للعقول محكومة بها خاضعة.

3- شهادة الشيخ أبو بكر الجزائري -رئيس قسم التفسير بالجامعة الإسلامية-:

الشيخ الداعية:

"تصدى ابن تيمية لمحاربة الفساد المستشري في أمة الإسلام والمتمثل في الحكام والعباد من المتصوفة والمبتدعة والخرافيين، فقاومه بالحجة والبرهان وانبرى لمقاومته الحكام بالوعيد والتهديد، والسجن والحرمان، وتصدى له العلماء، بالإنكار والتشنيع والوشايات لدى الحكام وتصدى له المتصوفة والمبتدعة بالكيد والمكر والدس والخداع والكذب والتضليل.

ووقف الشيخ وحده في الميدان ليس له من ولي ولا نصير إلا ربه تعالى وكفى بالله ولياً ونصيراً، وكان ما أجمع عليه أعداؤه فيه ثلاث مسائل ادعوا أنه خالف فيها الاجماع وهي طلاق الثلاث، والوسيلة، وشد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة. هذه أبرز ما اجتمع عليه أعداء الشيخ فحاربوه عليها حرباً ضروساً بلا رحمة ولا شفقة، فما تركوا وسيلة للنيل من الشيخ إلا استعملوها، فكذبوا عليه، وزوروا وافتروا، وقالوا ما لم يقله عدو في عدوه والشيخ صابر محتسب يقرع الحجة بالحجة، ويبين زيف الدعاوي، وافتراء المفترين، كل ذلك بأسلوب نزيه، وكلام طيب، وقول حسن فلا يغلظ في قول، ولا يجفو في عبارة، ولا يحاول انتقاص أحد، أو النيل من كرامته إن كان من ذوي الكرامات. الأمر الذي يعد فيه ابن تيمية فريداً وحيداً أشبه رجل بنبي في دنيا الرجال" (مجلة الجامعة الإسلامية ص169).

4- شهادة الشيخ محمد سليمان العبدة المدرس بالجامعة الإسلامية:

"إن هذا العالم -وبتقديري الخاص- لم يقدر التقدير الكافي أو يفهم الفهم المطلوب حتى الآن، رغم ما بذل من جهود مشكورة في نشر كتبه أو الحديث عنه.

إن علم ابن تيمية من خلال كتبه كان المصدر الرئيسي لأكثر الحركات الإسلامية المعاصرة، وكما يقول مالك بن نبي: "إن تراث ابن تيمية يكون الترسانة الفكرية التي لا زالت تمد الحركات الإصلاحية بالأفكار النموذجية إلى اليوم".

وإن ما نعانيه اليوم ليس نقصاً في الكتب بل نقصاً في الرجال وابن تيمية هو من الرجال القلائل الذين ظهرت فيهم سيرة السلف بجمعهم بين العلم والجهاد، ومن اليوم الذي انفصل فيه هذا الشعور عند المسلمين تأخروا وأصبح العلماء بعيدين عن الحياة وعن القيادة والريادة" أ.هـ (من مجلة الجامعة الإسلامية ص277).

الباب السادس

ابن تيمية: ألوان من جهاده

قدمنا أن ابن تيمية جاهد في كل ميدان تقريباً بالقلم والكلمة والسيف، ولا نستطيع أن نأتي في هذا المختصر على شيء كثير من جهاده وإنما نذكر هنا لوناً فريداً من ألوان جهاده وهو جهاده بالرسائل إلى تلاميذه وإلى بعض الأمراء والحكام.. ولا نستطيع أيضاً أن نذكر هنا كل مخاطباته ورسائله في هذا الصدد وإنما نذكر ألواناً من ذلك فقط.

جهاده للنصيريين

وفضحه لعقائد الباطنيين

*رسالة الشيخ ابن تيمية إلى السلطان محمد بن قلاوون يبين فيها مشروعية حربه للباطنيين من النصيرية وأضرابهم ممن كانوا بجبال سوريا ولبنان.

خاض الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية حروباً كثيرة بعضها في مقابل التتر المتسترين بالإسلام وبعضها ضد النصيرية والباطنية الكفرة المعادين لأهل الإسلام والموالين لأعدائه من التتر والصليبيين، وبعد واقعة جبل كسروان (بلبنان) سنة 704هـ التي هزم فيها هؤلاء المارقون كتب ابن تيمية كتاباً إلى السلطان المذكور يذكر فيها ما أنعم الله سبحانه وتعالى به على الإسلام وأهله. في هذه الغزوة كتب ابن تيمية يقول:

بسم الله الرحمن الرحيم

من الداعي أحمد بن تيمية إلى سلطان المسلمين، ومن أيد الله في دولته الدين، وأعز بها عباده المؤمنين، وقمع فيها الكفار والمنافقين والخوارج المارقين، نصره الله ونصر به الإسلام، وأصلح له وبه أمور الخاص والعام، وأحيى به معالم الإيمان، وأقام به شرائع القرآن، وأذلّ به أهل الكفر والفسوق والعصيان.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فانّا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير. ونسأله أن يصلي على خاتم النبيين، وإمام المتقين محمد عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً.

أما بعد. فقد صدق الله وعده، ونصر عبده وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده. وأنعم الله على السلطان، وعلى المؤمنين في دولته نعماً لم تعهد في القرون الخالية. وجدد الإسلام في أيامه تجديداً بانت فضيلته على الدول الماضية. وتحقق في ولايته خبر الصادق المصدوق، أفضل الأولين والآخرين، الذي أخبر فيه عن تجديد الدين في رؤوس المئين والله تعالى يوزعه والمسلمين شكر هذه النعم العظيمة في الدنيا والدين، ويتمها بتمام النصر على سائر الأعداء المارقين.

وذلك: أن السلطان -أتم الله نعمته- حصل للأمة بيمن ولايته وحسن نيته، وصحة إسلامه وعقيدته، وبركة إيمانه ومعرفته، وفضل همته، وشجاعته، وثمرة تعظيمه للدين وشرعته، ونتيجة اتباعه لكتاب الله وحكمته، ما هو شبيه بما كان يجري في أيام الخلفاء الراشدين وما كان يقصده أكابر الأئمة العادلين: من جهاد أعداء الله المارقين من الدين، وهم صنفان:

أهل الفجور والطغيان، وذوو الغي والعدوان، الخارجون عن شرائع الإيمان، طلباً للعلو في الأرض والفساد، وتركا لسبيل الهدى والرشاد. وهؤلاء هم التتار، ونحوهم من كل خارج عن شرائع الإسلام وإن تمسك بالشهادتين، أو ببعض سياسة الإسلام.

والصنف الثاني: أهل البدع المارقون، وذوو الضلال المنافقون، الخارجون عن السنة والجماعة، المفارقون للشرعة والطاعة. مثل هؤلاء الذين غزوا بأمر السلطان من أهل الجبل، والجرد، والكسروان. فإن ما منّ الله به من الفتح والنصر على هؤلاء الطغام، هو من عزائم الأمور التي أنعم الله بها على السلطان وأهل الإسلام.

وذلك: أن هؤلاء وجنسهم من أكابر المفسدين في أمر الدنيا والدين فإن اعتقادهم: أن أبا بكر وعمر وعثمان، وأهل بدر، وبيعة الرضوان وجمهور المهاجرين والأنصار، والتابعين لهم بإحسان، وأئمة الإسلام وعلماؤهم أهل المذاهب الأربعة وغيرهم، ومشايخ الإسلام وعبادهم، وملوك المسلمين وأجنادهم، وعوام المسلمين وأفرادهم. كل هؤلاء عندهم كفار مرتدون، أكفر من اليهود والنصارى. لأنهم مرتدون عندهم والمرتد شر من الكافر الأصلي. ولهذا السبب يقدمون الفرنج والتتار على أهل القرآن والإيمان.

ولهذا لما قدم التتار إلى البلاد، وفعلوا بعسكر المسلمين ما لا يحصى من الفساد، وأرسلوا إلى أهل قبرص فملكوا بعض الساحل، وحملوا راية الصليب، وحملوا إلى قبرص من خيل المسلمين وسلاحهم وأسراهم ما لا يحصى عدده إلا الله، وأقام سوقهم بالساحل عشرين يوماً يبيعون فيه المسلمين والخيل والسلاح على أهل قبرص، وفرحوا بمجيء التتار، هم وسائر أهل هذا المذهب الملعون، مثل أهل جزين (مدينة معروفة بالبقاع بلبنان). وما حواليها. وجبل عامل ونواحيه.

ولما خرجت العساكر الإسلامية من الديار المصرية، ظهر فيهم (أي في النصيرية وأهل الجبل المارقين) من الخزي والنكال ما عرفه الناس منهم. ولما نصر الله الإسلام النصرة العظمى عند قدوم السلطان (هو السلطان الناصر بن قلاوون سلطان مصر والشام)، كان بينهم شبيه بالعزاء.

كل هذا، وأعظم منه، عند هذه الطائفة التي كانت من أعظم الأسباب في خروج جنكسخان إلى بلاد الإسلام، وفي استيلاء هولاكو على بغداد، وفي قدومه إلى حلب، وفي نهب الصالحية، وفي غير ذلك من أنواع العداوة للإسلام وأهله.

لأن عندهم أن كل من لم يوافقهم على ضلالهم فهو كافر مرتد، ومن استحل الفقّاع (شراب يصنع من الشعير وسمي كذلك لما يعلوه من الزبد-لسان العرب) فهو كافر. ومن مسح على الخفين فهو عندهم كافر. ومن حرم المتعة فهو عندهم كافر. ومن أحب أبا بكر أو عمر، أو عثمان، أو ترضي عنهم أو عن جماهير الصحابة فهو عندهم كافر. ومن لم يؤمن بمنتظرهم فهو عندهم كافر.

وهذا المنتظر صبي عمره سنتان أو ثلاث، أو خمس. يزعمون أنه دخل السرداب بسامرا من أكثر من أربعمائة سنة. وهو يعلم كل شيء. وهو حجة الله على أهل الأرض. فمن لم يؤمن به فهو عندهم كافر. وهو شيء لا حقيقة له، ولم يكن هذا في الوجود قط.

وعندهم من قال: إن الله يرى في الآخرة فهو كافر. ومن قال: إن الله تكلم بالقرآن حقيقة فهو كافر. ومن قال: إن الله فوق السموات فهو كافر ومن آمن بالقضاء والقدر وقال: إن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وأن الله يقلب قلوب عباده، وأن الله خالق كل شيء، فهو عندهم كافر. وعندهم أن من آمن بحقيقة أسماء الله وصفاته التي أخبر بها في كتابه وعلى لسان رسوله، فهو عندهم كافر.

هذا هو المذهب الذي تلقنه لهم أئمتهم. مثل بني العود. فإنهم شيوخ أهل هذا الجبل. وهم الذين كانوا يأمرونهم بقتال المسلمين. ويفتونهم بهذه الأمور.

وقد حصل بأيدي المسلمين طائفة من كتبهم تصنيف ابن العود وغيره. وفيها هذا وأعظم منه. وهم اعترفوا لنا بأنهم الذين علموهم وأمروهم لكنهم مع هذا يظهرون التقية والنفاق. ويتقربون ببذل الأموال إلى من يقبلها منهم. وهكذا كان عادة هؤلاء الجبلية. فإنما أقاموا بجبلهم لما كانوا يظهرونه من النفاق، ويبذلونه من البرطيل (الرشاوي) لمن يقصدهم.

والمكان الذي لهم في غاية الصعوبة. ذكر أهل الخبرة أنهم لم يروا مثله. ولهذا كثر فسادهم. فقتلوا من النفوس، وأخذوا من الأموال، ما لا يعلمه إلا الله.

ولقد كان جيرانهم من أهل البقاع وغيرها معهم في أمر لا يضبط شره، كل ليلة تنزل عليهم منهم طائفة، ويفعلون من الفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد. كانوا في قطع الطرقات وإخافة سكان البيوتات على أقبح سيرة عرفت من أهل الجنايات، ويرد إليهم النصارى من أهل قبرص فيضيفونهم ويعطونهم سلاح المسلمين، ويقعون بالرجل الصالح من المسلمين. فإما أن يقتلوه أو يسلبوه. وقليل منهم من يفلت منهم بالحيلة.

فأعان الله ويسر، بحسن نية السلطان وهمته، في إقامة شرائع الإسلام، وعنايته بجهاد المارقين أن غزوا غزوة شرعية، كما أمر الله ورسوله، بعد أن كشفت أحوالهم، وأزيحت عللهم، وأزيلت شبههم، وبذل لهم من العدل والإنصاف ما لم يكونوا يطمعون به، وبين لهم أن غزوهم اقتداء بسيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قتال الحرورية (الحرورية: هم الخوارج الذين خرجوا على علي بن أبي طالب وسموا كذلك لأن أول خروجهم كان ببلدة تسمى حروراء).

المارقين، الذين تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بقتالهم ونعت حالهم، من وجوه متعددة. أخرج منها أصحاب الصحيح عشرة أوجه: من حديث علي بن أبي طالب، وأبي سعيد الخدري. وسهل بن حنيف، وأبي ذر الغفاري. ورافع بن عمرو، وغيرهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

قال فيهم: [يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية. لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد. لو يعلم الذين يقاتلونهم ماذا لهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم لاتكلوا عن العمل. يقتلون أهل الإسلام. ويدعون أهل الأوثان. يقرأون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم، شر قتلى تحت أديم السماء. خير قتلى من قتلوه].

وأول ما خرج هؤلاء، زمن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه. وكان لهم من الصلاة، والصيام، والقراءة، والعبادة، والزهادة ما لم يكن لعموم الصحابة. لكن كانوا خارجين عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن جماعة المسلمين. وقتلوا من المسلمين رجلاً اسمه عبدالله بن خباب (هو عبدالله بن خباب بن الأرت -بفتح الخاء وتشديد الباء وفتح الهمز والراء المهملة وتشديد التاء-. له رؤية ولأبيه صحبة. قال في أسد الغابة: كان طائفة من الخوارج أقبلوا من البصرة إلى إخوانهم من أهل الكوفة، فلقوا عبدالله بن خباب ومعه امرأته. فقالوا له: من أنت؟ قال أنا عبدالله بن خباب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، فأثنى خيراً عليهم، فذبحوه، فسال دمه في الماء، وقتلوا المرأة وهي حامل ملم منه، فقالت: أنا امرأة، ألا تتقون الله؟ فبقروا بطنها، وذلك سنة سبع وثلاثين، وكان من سادات المسلمين) وأغاروا على دواب للمسلمين.

وهؤلاء القوم كانوا أقل صلاة وصياماً. ولم نجد في جبلهم مصحفاً ولا فيهم قارئاً للقرآن. وانما عندهم عقائدهم التي خالفوا فيها الكتاب والسنة. وأباحوا بها دماء المسلمين. وهم مع هذا فقد سفكوا من الدماء وأخذوا من الأموال مالا يحصى عدده إلا الله تعالى.

فإذا كان علي بن أبي طالب قد أباح لعسكره أن ينهبوا ما في عسكر الخوارج، مع أنه قتلهم جميعهم، وأن هؤلاء أحق بأخذ أموالهم. وليس هؤلاء بمنزلة المتأولين الذين نادى فيهم علي بن أبي طالب يوم الجمل: "أنه لا يقتل مدبرهم ولا يجهز على جريحهم، ولا يغم لهم مالاً ولا يسبى لهم ذرية" لأن مثل أولئك لهم تأويل سائغ. وهؤلاء ليس لهم تأويل سائغ. ومثل أولئك إنما يكونون خارجين عن طاعة الإمام. وهؤلاء خرجوا عن شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته. وهم شر من التتار من وجوه متعددة. لكن التتر أكثر وأقوى. فلذلك يظهر كثرة شرهم.

وكثير من فساد التتر هو لمخالطة هؤلاء لهم، كما كان في زمن قازان وهولاكو، وغيرهما. فإنهم أخذوا من أموال المسلمين أضعاف ما أخذوا من أموالهم. وأرضهم لبيت المال.

وقد قال كثير من السلف: إن الرافضة لا حق لهم في الفيء. لأن الله إنما جعل الفيء للمهاجرين والأنصار {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم} فمن لم يكن قلبه سليماً لهم، ولسانه مستغفراً لهم، لم يكن من هؤلاء.

وقطعت أشجارهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما حاصر بني النضير قطع أصحابه نخلهم وحرقوه. فقال اليهود: هذا فساد. وأنت يا محمد تنهى عن الفساد. فأنزل الله {ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين}.

وقد اتفق العلماء على جواز قطع الشجر، وتخريب العامر، عند الحاجة إليه، فليس ذلك بأولى من قتل النفوس وما أمكن غير ذلك.

فإن القوم لم يحضروا كلهم من الأماكن التي اختفوا فيها، وأيسوا من المقام في الجبل إلا حين قطعت الأشجار. وإلا كانوا يختفون حيث لا يمكن العلم بهم. وما أمكن أن يسكن الجبل غيرهم. لأن التركمان إنما قصدهم الرعي، وقد صار لهم مرعى، وسائر الفلاحين لا يتركوا عمارة أرضهم ويجيئون إليه.

فالحمد لله الذي يسر هذا الفتح في دولة السلطان بهمته وعزمه وأمره، وإخلاء الجبل منهم، وإخراجهم من ديارهم.

وهم يشبهون ما ذكره الله في قوله: {هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر. ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله. فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب. يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار. ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار. ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب. ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين} (الحشر:2-5).

وأيضاً فإنه بهذا قد انكسر من أهل البدع والنفاق بالشام ومصر والحجاز، واليمن والعراق ما يرفع الله بن درجات السلطان، ويعز به أهل الإيمان.

ثم يستطرد الشيخ ناصحاً للسلطان بوجوب إقامة أحكام الإسلام فيقول:

تمام هذا الفتح وبركته تقدم مراسم السلطان بحسم مادة أهل الفساد، وإقامة الشريعة في البلاد. فإن هؤلاء القوم لهم من المشايخ والإخوان في قرى كثيرة من يقتدون، بهم وينتصرون لهم. وفي قلوبهم غلّ عظيم. وإبطان معاداة شديدة، لا يؤمنون معها على ما يمكنهم. ولو أنه مباطنة العدو. فإذا أمسك رؤوسهم الذين يضلونهم -مثل نبي العود- زال بذلك من الشر ما لا يعلمه إلا الله.

ويتقدم إلى قراهم. وهي قرى متعددة بأعمال دمشق، وصفد، وطرابلس، وحماة، وحمص، وحلب بأن يقام فيهم شرائع الإسلام، والجمعة، والجماعة، وقراءة القرآن، ويكون لهم خطباء ومؤذنون، كسائر قرى المسلمين، وتقرأ فيهم الأحاديث النبوية. وتنشر فيهم المعالم الإسلامية، ويعاقب من عرف منهم بالبدعة والنفاق بما توجبه شريعة الإسلام.

فإن هؤلاء المحاربين وأمثالهم قالوا: نحن قوم جبال. وهؤلاء كانوا يعلموننا ويقولون لنا: أنتم إذا قاتلتم هؤلاء تكونون مجاهدين. ومن قتل منكم فهو شهيد.

وفي هؤلاء كثير لا يقرون بصلاة، ولا صيام، ولا حج ولا عمرة، ولا يحرمون الميتة، والدم، ولحم الخنزير، ولا يؤمنون بالجنة والنار. من جنس الاسماعيلية، والنصيرية والحاكمية، والباطنية، وهم كفار أكفر من اليهود والنصارى بإجماع المسلمين.

فتقدم المراسيم السلطانية بإقامة شعائر الإسلام: من الجمعة، والجماعة، وقراءة القرآن، وتبليغ أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في قرى هؤلاء من أعظم المصالح الإسلامية. وأبلغ الجهاد في سبيل الله.

وذلك سبب لانقماع من يباطن العدو من هؤلاء، ودخولهم في طاعة الله ورسوله، وطاعة أولي الأمر من المسلمين.

وهو من الأسباب التي يعين الله بها على قمع الأعداء.

فإن ما فعلوه بالمسلمين في أرض (سيس) نوع من غدرهم الذي به ينصر الله المسلمين عليهم. وفي ذلك لله حكمة عظيمة. ونصرة للإسلام جسيمة.

قال ابن عباس "ما نقض قوم العهد إلا أديل عليهم العدو".

ولولا هذا وأمثاله ما حصل للمسلمين من العزم بقوة الإيمان، وللعدو من الخذلان، ما ينصر الله به المؤمنين، ويذل به الكفار والمنافقين.

والله هو المسئول أن يتم نعمته على سلطان الإسلام خاصة، وعلى عباده المؤمنين عامة.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

والحمد لله وحده. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. (العقود الدرية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية ص182-194) انتهى.

رسائل للشيخ من داخل السجن

*رسالة من الشيخ إلى تلاميذه وإخوانه يرسلها من داخل سجنه، وقد كتبها بالفحم بعد مصادرة أوراقه وكتبه ومنعه من الكتابة: قال ابن عبدالهادي:

وقد رأيت أوراقاً عدة بعثها إلى أصحابه، وبعضها مكتوب بفحم، منها ورقة يقول فيها:

بسم الله الرحمن الرحيم

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ونحن لله الحمد والشكر في نعم متزايدة، متوافرة، وجميع ما يفعله الله فيه نصر الإسلام، وهو من نعم الله العظام. و{هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً} فإن الشيطان استعمل حزبه في إفساد دين الله، الذي بعث به رسله، وأنزل كتبه.

ومن سنة الله: أنه إذا أراد إظهار دينه، أقام من يعارضه، فيحق الحق بكلماته، ويقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق.

والذي سعى فيه حزب الشيطان لم يكن مخالفة لشرع محمد صلى الله عليه وسلم وحده، بل مخالفة لدين جميع المرسلين: إبراهيم، وموسى والمسيح، ومحمد خاتم النبيين صلى الله عليهم أجمعين (وذلك في مسألة شد الرحال وتشييد القبور ودعائها من دون الله).

وكانوا قد سعوا في أن لا يظهر من جهة حزب الله ورسوله خطاب ولا كتاب، وجزعوا من ظهور الاخنائية، فاستعملهم الله تعالى. حتى أظهروا أضعاف ذلك وأعظم، وألزمهم بتفتيشه ومطالعته، ومقصودهم إظهار عيوبه، وما يحتجون به، فلم يجدوا فيه إلا ما هو حجة عليهم، وظهر لهم جهلهم، وكذبهم وعجزهم، وشاع هذا في الأرض، وأن هذا مما لا يقدر عليه إلا الله، ولم يمكنهم أن يظهروا علينا فيه عيباً في الشرع والدين، بل غاية ما عندهم: أنه خولف مرسوم بعض المخلوقين، والمخلوق كائناً من كان، إذا خالف أمر الله تعالى ورسوله، لم يجب، بل ولا يجوز طاعته، في مخالفة أمر الله ورسوله باتفاق المسلمين.

وقول القائل: إنه يظهر البدع، كلام يظهر فساده لكل مستبصر ويعلم أن الأمر بالعكس، فإن الذي يظهر البدعة، إما أن يكون لعدم علمه بسنة الرسول، أو لكونه له غرض وهوى يخالف ذلك، وهو أولى الجهل بسنة الرسول، واتباع هواهم بغير هدى من الله {ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله}، ممن هو أعلم بسنة الرسول منهم، وأبعد عن الهوى والغرض في مخالفتها (ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون. إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً، وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض، والله وليالمتقين).

وهذه قضية كبيرة لها شأن عظيم. ولتعلمن نبأه بعد حين.

ثم ذكر الشيخ في الورقة كلاماً، لا يمكن قراءة جميعه، لانطماسه وقال بعده:

وكانوا يطلبون تمام الاخنائية (رسالة ألفها في الرد على الاخنائي المالكي في مسألة الزيارة)، فعندهم ما يطمهم أضعافها، وأقوى فقهاً منها، وأشد مخالفة لأغراضهم. فإن الزملكانية قد بين فيها من نحو خمسين وجهاً: أن ما حكم به ورسم به، مخالف لإجماع المسلمين وما فعلوه -لو كان ممن يعرف ما جاء به الرسول، ويتعمد مخالفته- لكان كفراً وردة عن الإسلام، لكنهم جهال دخلوا في شيء ما كانوا يعرفونه، ولا ظنوا أنه يظهر منه أن السلطنة تخالف مرادهم والأمر أعظم مما ظهر لكم، ونحن ولله الحمد، على عظيم الجهاد في سبيله.

ثم ذكر كلاماً وقال:

بل جهادنا في هذا مثل جهادنا يوم قازان (عندما تصدى لقازان ملك التتر وناقشه ورده عن بلاد المسلمين)، والجبلية (الجبلية هم النصيرية وأشكالهم الذين حاربهم الشيخ)، والجهمية، والإتحادية (اتباع ابن عربي ومن على شاكلته)، وأمثال ذلك.. من أعظم نعم الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

*وكتب من داخل السجن رسالة أخرى يقول فيها:

نحن ولله الحمد والشكر، في نعم عظيمة، تتزايد كل يوم، ويجدد الله تعالى من نعمه نعماً أخرى، وخروج الكتب كان من أعظم النعم فإني كنت حريصاً على خروج شيء منها، لتقفوا عليه، وهم كرهوا خروج الاخنائية، فاستعملهم الله تعالى في إخراج الجميع، وإلزام المنازعين بالوقوف عليه. وبهذا يظهر ما أرسل الله به رسوله من الهدى ودين الحق.

فإن هذه المسائل كانت خفية على أكثر الناس. فإذا ظهرت فمن كان قصده الحق هداه الله، ومن كان قصده الباطل قامت عليه حجة الله، واستحق أن يذله الله ويخزيه.

وما كتبت شيئاً من هذا ليكتم عن أحد، ولو كان مبغضاً، والأوراق التي فيها جواباتكم غسلت وأنا طيب وعيناي طيبتان أطيب ما كانتا، ونحن في نعم عظيمة لا تحصى ولا تعد، والحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه.

ثم ذكر كلاماً. وقال:

كل ما يقضيه الله تعالى فيه الخير والرحمة والحكمة {إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو القوي العزيز}، العليم الحكيم، ولا يدخل على أحد ضرر إلا من ذنوبه ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك فالعبد عليه أن يشكر الله ويحمده دائماً على كل حال، ويستغفر من ذنوبه، فالشكر يوجب المزيد من النعم، والإستغفار يدفع النقم، ولا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيراً له [إن أصابته سراء شكر وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيراً له]. أ.هـ (العقود الدرية ص364-367).

*رسالة من داخل السجن أيضاً من الشيخ إلى بعض أقاربه في دمشق:

تعلمون أنا بحمد الله في نعم عظيمة، ومنن جسيمة، وآلاء متكاثرة، وأياد متظاهرة. لم تكن تخطر لأكثر الخلق ببال، ولا تدور لهم في خيال. والحمد لله كثيراً طيباً مباركاً فيه. كما يحب ربنا ويرضى. إلى أن قال:

والحق دائماً في انتصار وعلو وازدياد، والباطل في انخفاض وسفال ونفاد. وقد أخضع الله رقاب الخصوم وأذلهم غاية الذل، وطلب أكابرهم من السلم والانقياد ما يطول وصفه.

ونحن -ولله الحمد- قد اشترطنا عليهم في ذلك من الشروط ما فيه عز الإسلام والسنة، وانقماع الباطل والبدعة، وقد دخلوا في ذلك كله، وامتنعنا، حتى يظهر ذلك إلى الفعل، فلم نثق لهم بقول ولا عهد، ولم نجبهم إلى مطلوبهم، حتى يصير المشروط معمولاً، والمذكور مفعولاً، ويظهر من عز الإسلام والسنة للخاصة والعامة ما يكون من الحسنات التي تمحو سيئاتهم. وقد أمد الله من الأسباب التي فيها عز الإسلام والسنة، وقمع الكفر والبدعة، بأمور يطول وصفها في كتاب. وكذلك جرى من الأسباب التي هي عز الإسلام وقمع اليهود والنصارى، بعد أن كانوا قد استطاعوا وحصلت لهم شوكة، وأعانهم من أعانهم على أمر فيه ذل كبير من الناس، فلطف الله باستعمالنا في بعض ما أمر الله به ورسوله. وجرى في ذلك مما فيه عز المسلمين، وتأليف قلوبهم، وقيامهم على اليهود والنصارى وذل المشركين وأهل الكتاب، مما هو من أعظم نعم الله على عباده المؤمنين.

ووصف هذا يطول.

وقد أرسلت إليكم كتاباً أطلب ما صنفته في أمر الكنائس، وهي كراريس بخطي، قطع النصف البلدي، فترسلون ذلك إن شاء الله تعالى. وتستعينون على ذلك بالشيخ جمال الدين المزي فإنه يقلب الكتب ويخرج المطلوب. وترسلون أيضاً من تعليق القاضي أبي يعلى الذي بخط القاضي أبي الحسين، إن أمكن الجميع، وهو أحد عشر مجلداً، وإلا فمن أوله مجلداً، أو مجلدين، أو ثلاثة (الكواكب الدرية ص384).

الباب السابع

ابن تيمية: اختياراته واجتهاداته

لم يكن ابن تيمية معصوماً، ولا عصمة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بل كان عالماً مجتهداً له صوابه وخطؤه، ردّ على أناس كثيرين ورد عليه أيضاً أناس كثيرون، وقد قال الإمام مالك بن أنس (ما منا إلا ورَدَّ وَرُدَّ عليه إلا صاحب هذا القبر) وهذه جملة الأمور التي تفرد بها مخالفاً غيره من أئمة الفقه ومتبعاً فيها أيضاً من سلف من الصحابة والتابعين فليس له بحمد الله قول لا سلف له فيه هكذا كان دينه وديدنه لا يقول قولاً لا سلف له فيه. وقد آتاه الله من العلم ما يستطيع به أن يرجح ما يراه راجحاً، ويبطل ما يراه باطلاً، ولا أقول إن كل ما رجحه صواب، وكل ما أبطله باطل وهذه هي جملة اختياراته كما نقلها تلميذه ابن عبدالهادي: قال:

ومن اختياراته التي خالفهم فيها، أو خالف المشهور من أقوالهم: القول بقصر الصلاة في كل ما يسمى سفراً، طويلاً كان أو قصيراً. كما هو مذهب الظاهرية. وقول بعض الصحابة.

والقول بأن البكر لا تستبرأ، وإن كانت كبيرة. كما هو قول ابن عمر. واختاره البخاري صاحب الصحيح.

والقول بأن سجود التلاوة لا يشترط له وضوء. كما يشترط للصلاة. كما هو مذهب ابن عمر. واختيار البخاري أيضاً.

والقول بأن من أكل في شهر رمضان معتقداً أنه ليل. فبان نهاراً لا قضاء عليه. كما هو الصحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وإليه ذهب بعض التابعين، وبعض الفقهاء بعدهم.

والقول بأن المتمتع يكفيه سعي واحد بين الصفا والمروة. كما هو في حق القارن والمفرد. كما هو قول ابن عباس رضي الله عنهما. ورواية عن الإمام أحمد بن حنبل. رواها عنه ابنه عبدالله. وكثير من أصحاب الإمام أحمد يعرفونها.

والقول بجواز المسابقة بلا محلل. وإن خرج المتسابقان.

والقول باستبراء المختلعة بحيضه. وكذلك الموطوءه بشبهة. والمطلقة آخر ثلاث تطليقات.

والقول بإباحة وطء عقد الرداء في الإحرام. ولا فدية في ذلك، وجواز طواف الحائض. ولا شيء عليها، إذا لم يمكنها أن تطوف طاهراً.

والقول بجواز بيع الأصل بالعصير. كالزيتون بالزيت. والسمسم بالشيرج. والقول بجواز الوضوء بكل ما يسمى ماء، مطلقاً كان أو مقيداً.

والقول بجواز بيع ما يتخذ من الفضة للتحلي وغيره. كالخاتم ونحوه، بالفضة متفاضلاً، وجعل الزائد من الثمن في مقابلة الصنعة.

والقول بأن المائع لا ينجس بوقوع النجاسة فيه إلا أن يتغير، قليلاً كان أو كثيراً.

والقول بجواز التيمم لمن خاف فوات العيد والجمعة باستعمال الماء.

والقول بجواز التيمم في مواضع معروفة.

والجمع بين الصلاتين في أماكن مشهورة.

وغير ذلك من الأحكام المعروفة من أقواله.

وكان يميل أخيراً لتوريث المسلم من الكافر الذمي، وله في ذلك مصنف وبحث طويل.

ومن أقواله المعروفة المشهورة التي جرى بسبب الإفتاء بها محن وقلاقل: قوله بالتكفير في الحلف بالطلاق.

وأن الطلاق الثلاث لا يقع إلا واحدة.

وأن الطلاق المحرم لا يقع.

وله في ذلك مصنفات ومؤلفات كثيرة منها:

قاعدة كبيرة سماها "تحقيق الفرقان بين التطليق والأيمان" نحو أربعين كراسة.

وقاعدة سماها "الفرق المبين بين الطلاق واليمين" بقدر النصف من ذلك.

وقاعدة في أن جميع أيمان المسلمين مكفرة، مجلد لطيف.

وقاعدة في تقرير أن الحلف بالطلاق من الأيمان حقيقة.

وقاعدة سماها "التفصيل بين التكفير والتحليل".

وقاعدة سماها "اللمعة" (الكواكب الدرية 222-224).

وغير ذلك من القواعد والأجوبة في ذلك لا ينحصر ولا ينضبط وله في ذلك جواب اعتراض، ورد عليه من الديار المصرية. وهو جواب طويل في ثلاث مجلدات، بقطع نصف البلدي.

وقال ابن رجب الحنبلي:

ذكر نبذة من مفرداته وغرائبه

اختار ارتفاع الحدث بالمياه المتعصرة، كماء الورد ونحوه، واختار جواز المسح على النعلين والقدمين، وكل ما يحتاج في نزعه من الرجل إلى معالجة باليد أو بالرجل الآخر، فإنه يجوز عنده المسح عليه مع القدمين.

واختار أن المسح على الخفين لا يتوقف مع الحاجة، كالمسافر على البريد ونحوه، وفعل ذلك في ذهابه إلى الديار المصرية على خيل البريد ويتوقف مع إمكان النزع وتيسره.

واختار جواز المسح على اللفائف ونحوها.

واختار جواز التيمم لخشية فوات الوقت في حق غير المعذور، كمن أخر الصلاة عمداً حتى تضايق وقتها. وكذا من خشي فوات الجمعة والعيدين وهو محدث. فأما من استيقظ أو ذكر في آخر وقت الصلاة: فإنه يتطهر بالماء ويصلي، لأن الوقت متسع في حقه.

واختار أن المرأة إذا لم يمكنها الاغتسال في البيت، أو شق عليها النزول إلى الحمام وتكرره: أنها تتيمم وتصلي.

واختار أن لا حد لأقل الحيض ولا لأكثره، ولا لأقل الطهر بين الحيضين، ولا لسن الإياس من الحيض. وأن ذلك راجع إلى ما تعرفه كل امرأة من نفسها.

واختار أن تارك الصلاة عمداً: لا يجب عليه القضاء (الذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب 404،405). ولا يشرع له. بل يكثر من النوافل، وأن القصر يجوز في قصير السفر وطويله، وأن سجود التلاوة لا يشترط له طهارة.

الباب الثامن

ابن تيمية: جنازة مشهودة

وشهادة من الخلق له بالكرامة والولاية

سبع وخمسون عاماً أمضاها الشيخ وهي عمره في جهاد مرير وسعي متواصل، ودعوة دائمة إلى الله عز وجل حتى أتته المنية مسجوناً بقلعة دمشق في سعاية للواشين والحاسدين من عباد القبور أنه يمنع الناس من زيارة الرسول والصالحين والصحيح أنه نهى الناس عن شد الرحال إليها مؤكداً أن زيارتهم سنة مستحبة وهذا قد ذكرناه في مقدمة الكتاب، وفي ردنا على المفتري الكذاب.. أقول كان لا بد بعد ذلك أن يستريح الشيخ ويؤوي -بحمد الله ومشيئته وفضله- إلىجنة الله ورضوانه وكانت جنازة لا يعهد تاريخ الإسلام مثلها إلا لإمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل رضي الله عنه وهاك وصفاً حياً لجنازته كما رواها ابن كثير في تاريخه.

وفاة شيخ الإسلام أبي العباس تقي الدين أحمد بن تيمية

قال الشيخ علم الدين البرزالي في تاريخه: وفي ليلة الاثنين العشرين من ذي القعدة توفي الشيخ الإمام العالم العلم العلامة الفقيه الحافظ الزاهد العابد المجاهد القدرة شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن شيخنا الإمام العلامة المفتي شهاب الدين أبي المحاسن عبدالحليم بن الشيخ الإمام شيخ الإسلام أبي البركات عبدالسلام بن عبدالله بن أبي القاسم محمد بن الخضر بن محمد بن الخضر بن علي بن عبدالله بن تيمية الحراني ثم الدمشقي، بقلعة دمشق بالقاعة التي كان محبوساً بها، وحضر جمع كثير إلى القلعة، وأذن لهم في الدخول عليه، وجلس جماعة عنده قبل الغسل وقرأوا القرآن وتبركوا برؤيته وتقبيله، ثم انصرفوا، ثم حضر جماعة من النساء ففعلن مثل ذلك ثم انصرفن واقتصروا على من يغسله، فلما فرغ من غسله أخرج ثم اجتمع الخلق بالقلعة والطريق إلى الجامع وامتلأ الجامع أيضاً وصحنه والكلاسة وباب البريد وباب الساعات إلى باب اللبادين والغوارة، وحضرت الجنازة في الساعة الرابعة من النهار أو نحو ذلك ووضعت في الجامع، والجند قد احتاطوا بها يحفظونها من الناس من شدة الزحام، وصلى عليه أولاً بالقلعة، تقدم في الصلاة عليه أولاً الشيخ محمد بن تمام، ثم صلى عليه بالجامع الأموي عقيب صلاة الظهر، وقد تضاعف اجتماع الناس على ما تقدم ذكره، ثم تزايد الجمع إلى ضاقت الرحاب والأزقة والأسواق بأهلها ومن فيها، ثم حمل بعد أن صلى عليه على الرؤوس والأصابع، وخرج النعش به من باب البريد واشتد الزحام وعلت الأصوات بالبكاء والنحيب والترحم عليه والثناء والدعاء له، وألقى الناس على نعشه مناديلهم وعمائمهم وثيابهم، وذهبت النعال من أرجل الناس وقباقيبهم ومناديل عمائم لا يلتفتون إليها لشغلهم بالنظر إلى الجنازة، وصار النعش على الرؤوس تارة يتقدم وتارة يتأخر، وتارة يقف حتى تمر الناس.

وخرج الناس من الجامع من أبوابه كلها وهي شديدة الزحام، كل باب أشد زحمة من الآخر، ثم خرج الناس من أبواب البلد جميعها من شدة الزحام فيها، لكن كان معظم الزحام من الأبواب الأربعة: باب الفرج الذي أخرجت منه الجنازة، وباب الفراديس، وباب النصر، وباب الجابية. وعظم الأمر بسوق الخيل وتضاعف الخلق وكثر الناس، ووضعت الجنازة هناك وتقدم للصلاة عليه هناك أخوه زين الدين عبدالرحمن، فلما قضيت الصلاة حمل إلى مقبرة الصوفية فدفن إلى جانب أخيه شرف الدين عبدالله رحمهما الله، وكان دفنه قبل العصر بيسير، وذلك من كثرة من يأتي ويصلي عليه من أهل البساتين وأهل الغوطة وأهل القرى وغيرهم، وأغلق الناس حوانيتهم ولم يتخلف عن الحضور إلا من هو عاجز عن الحضور، مع الترحم والدعاء له، ولو أنه قدر ما تخلف، وحضر نساء كثيرات بحيث حزرن بخمسة عشر ألف امرأة، غير اللاتي كن على الأسطح وغيرهن، الجميع يترحمن ويبكين عليه فيما قيل.

وأما الرجال فحزروا بستين ألفاً إلى مائة ألف إلى أكثر من ذلك إلى مائتي ألف وشرب جماعة الماء الذي فضل من غسله، واقتسم جماعة بقية السدر الذي غسل به، ودفع في الخيط الذي كان فيه الزئبق الذي كان في عنقه بسبب القمل مائة وخمسون درهماً وقيل إن الطاقية التي كانت على رأسه دفع فيها خمسمائة درهم. وحصل في الجنازة ضجيج وبكاء كثير وتضرع وختمت له ختمات كثيرة بالصالحية وبالبلد وتردد الناس إلى قبره أياماً كثيرة ليلاً ونهاراً يبيتون عنده ويصحون، ورؤيت له منامات صالحة كثيرة، ورثاه جماعة بقصائد جمة.

ثم استطرد ابن كثير قائلاً:

قال: وقد اتفق موته في سحر ليلة الاثنين المذكور، فذكر ذلك مؤذن القلعة على المنارة بها وتكلم به الحراس على الأبرجة، فما أصبح الناس إلا وقد تسامعوا بهذا الخطب العظيم والأمر الجسيم، فبادر الناس على الفور إلى الاجتماع حول القلعة من كل مكان أمكنهم المجيء منه، حتى من الغوطة والمرج، ولم يطبخ أهل الأسواق شيئاً، ولا فتحوا كثيراً من الدكاكين التي من شأنها أن تفتح أوائل النهار على العادة، وكان نائب السلطنة تنكز قد ذهب يتصيد في بعض الأمكنة، فحارت الدولة ماذا يصنعون، وجاء الصاحب شمس الدين غبريال نائب القلعة فعزاه فيه، وجلس عنده، وفتح باب القلعة لمن يدخل من الخواص والأصحاب والأحباب، فاجتمع عند الشيخ في قاعته خلق من أخصاء أصحابه من الدولة وغيرهم من أهل البلد والصالحية، فجلسوا عنده يبكون ويثنون *على مثل ليلى يقتل المرء نفسه* وكنت فيمن حضر هناك مع شيخنا الحافظ أبي الحجاج المزي رحمه الله، وكشفت عن وجه الشيخ ونظرت إليه وقبلته، وعلى رأسه عمامة بعذب مغروزة وقد علاه الشيب أكثر مما فارقناه. وأخبر الحاضرين أخوه زين الدين عبدالرحمن أنه قرأ هو والشيخ منذ دخل القلعة ثمانين ختمة وشرعاً في الحادية والثمانين، فانتهينا فيها إلى آخر اقتربت الساعة {إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر} فشرع عند ذلك الشيخان الصالحان الخيران عبدالله بن المحب وعبدالله الزرعي الضرير -وكان الشيخ رحمه الله يحب قراءتهما- فابتدأ من أول سورة الرحمن حتى ختموا القرآن وأنا حاضر أسمع وأرى.

ثم شرعوا في غسل الشيخ وخرجت إلى مسجد هناك ولم يدعوا عنده إلا من ساعد في غسله، منهم شيخنا الحافظ المزي وجماعة من كبار الصالحين الأخيار، أهل العلم والإيمان، فما فرغ منه حتى امتلأت القلعة وضج الناس بالبكاء والثناء والدعاء والترحم، ثم ساروا به إلى الجامع فسلكوا طريق العمادية على العادية الكبيرة، ثم عطفوا على ثلث الناطفانيين، وذلك أن سويقة باب البريد كانت قد هدمت لتصلح، ودخلوا بالجنازة إلى الجامع الأموي، والخلائق فيه بين يدي الجنازة وخلفها عن يمينها وشمالها مالا يحصى عدتهم إلا الله تعالى، فصرخ صارخ وصاح صائح هكذا تكون جنائز أئمة السنة فتباكى الناس وضجوا عند سماع هذا الصارخ ووضع الشيخ في موضع الجنائز مما يلي المقصورة، وجلس الناس من كثرتهم وزحمتهم على غير صفوف، بل مرصوصين رصاً لا يتمكن أحد من السجود إلا بكلفة جُوّ الجامع وبرّى الأزقة والأسواق، وذلك قبل آذان الظهر بقليل، وجاء الناس من كل مكان، ينوي خلق الصيام لأنهم لا يتفرغون في هذا اليوم لأكل ولا لشرب، وكثر الناس كثرة لا تحد ولا توصف، فلما فرغ من أذان الظهر أقيمت الصلاة عقبه على السدة خلاف العادة، فلما فرغوا من الصلاة خرج نائب الخطيب لغيبة الخطيب بمصر فصلى عليه إماماً، وهو الشيخ علاء الدين الخراط، ثم خرج الناس من كل مكان من أبواب الجامع والبلد كما ذكرنا، واجتمعوا بسوق الخيل، ومن الناس من تعجل بعد أن صلى في الجامع إلى مقابر الصوفية، والناس في بكاء وتهليل في مخافته كل واحد بنفسه، وفي ثناء وتأسف، والنساء فوق الأسطحة من هناك إلى المقبرة يبكين ويدعين ويقلن هذا العالم.

وبالجملة كان يوماً مشهوداً لم يعهد مثله بدمشق إلا أن يكون في زمن بني أمية حين كان الناس كثيرين، وكانت دار الخلافة، ثم دفن عند أخيه قريباً من أذان العصر على التحديد، ولا يمكن أحد حصر من حضر الجنازة، وتقريب ذلك أنه عبارة عمن أمكنه الحضور من أهل البلد وحواضره ولم يتخلف من الناس إلا القليل من الصغار والمخدرات أ.هـ.

يوم الجنائز شهادة لأهل الحق:

قال ابن كثير:

"ثم ذكر الشيخ علم الدين بعد إيراد هذه الترجمة جنازة أبي بكر بن أبي داود وعظمها، وجنازة الإمام أحمد ببغداد وشهرتها، وقال الإمام أبو عثمان الصابوني: سمعت أبا عبدالرحمن السيوفي يقول: حضرت جنازة أبي الفتح القواس الزاهد مع الشيخ أبي الحسن الدارقطني فلما بلغ إلى ذلك الجمع العظيم أقبل علينا وقال سمعت أبا سهل بن زياد القطان يقول سمعت عبدالله بن أحمد بن حنبل يقول سمعت أبي يقول: قولوا لأهل البدع بيننا وبينكم الجنائز، قال ولا شك أن جنازة أحمد بن حنبل كانت هائلة عظيمة، بسبب كثرة أهل بلده واجتماعهم لذلك، وتعظيمهم له، وأن الدولة كانت تحبه، والشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله توفي ببلدة دمشق، وأهلها لا يعشرون أهل بغداد حينئذ كثرة، ولكنهم اجتمعوا لجنازته اجتماعاً لو جمعهم سلطان قاهر، وديوان حاصر لما بلغوا هذه الكثرة التي اجتمعوها في جنازته، وانتهوا إليها. هذا مع أن الرجل مات بالقلعة محبوساً من جهة السلطان، وكثير من الفقهاء والفقراء يذكرون عنه للناس أشياء كثيرة، مما ينفر منها طباع أهل الأديان، فضلاً عن أهل الإسلام. وهذه كانت جنازته" (البداية والنهاية ص137-138 ج14).

الذين تخلفوا عن جنازته:

وقال أيضاً:

"وما علمت أحداً من أهل العلم إلا النفر اليسير تخلف عن الحضور في جنازته، وهم ثلاثة أنفس: وهم ابن جمله، والصدر، والقفجاري، وهؤلاء كانوا قد اشتهروا بمعاداته فاختفوا من الناس خوفاً على أنفسهم، بحيث أنهم علموا متى خرجوا قتلوا وأهلكهم الناس" أ.هـ.

ثناء الناس عليه بعد وفاته:

وقال أيضاً:

وتردد شيخنا الإمام العلامة برهان الدين الفزاري إلى قبره في الأيام الثلاثة وكذلك جماعة من علماء الشافعية، وكان برهان الدين الفزاري يأتي راكباً على حماره وعليه الجلالة والوقار رحمه الله.

وعملت له ختمات كثيرة ورؤيت له منامات صالحة عجيبة، ورثي بأشعار كثيرة وقصائد مطولة جداً. وقد أفردت له تراجم كثيرة، وصنف في ذلك جماعة من الفضلاء وغيرهم، وسألخص من مجموع ذلك ترجمة وجيزة في ذكر مناقبه وفضائله وشجاعته وكرمه ونصحه وزهادته وعبادته وعلومه المتنوعة الكثيرة المجودة وصفاته الكبار والصغار، التي احتوت على غالب العلوم ومفرداته في الاختيارات التي نصرها بالكتاب والسنة وأفتى بها. أ.هـ

الباب التاسع

واجبنا نحو شيخ الإسلام ابن تيمية

لم أجد في هذا الصدد خيراً من رسالة كتبها الشيخ الإمام القدوة الزاهد عماد الدين أبوالعباس بن إبراهيم بن عبدالرحمن الواسطي المتوفي سنة 711هـ، والتي كتب هذه الرسالة التي يوصي فيها اتباع الشيخ شيخ الإسلام ابن تيمية وتلاميذه أن يقوموا بحق شيخهم وإمامهم وقدوتهم، ويذكر فيها ما من الله سبحانه وتعالى به عليهم من معرفة الدين الحق والهداية إلى الصراط المستقيم على يد شيخهم ابن تيمية في وقت يعيش فيه الناس في الضلال المبين والظلمات العظيمة، ويذكر أنهم هم الفئة الذين قال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم:

[لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك].

فالشيخ ابن تيمية وتلاميذه وأحبابه وأنصاره كانت هي هذه الفئة حتماً في زمانه فهم الفئة التي حاربت جميع المرتدين والمارقين بالحجة والبيان والسيف والسنان، فلقد حاربوا التتار المعتدين المتلبسين بظاهر الشهادة فقط والمخالفين شرائع الإسلام، وحارب الشيخ كذلك بسيفه طوائف النصيرية، والاسماعيلية والرافضة والباطنية الموالين لأهل الصليب المكفرين لصدر الإسلام، وكذلك لم نبق طائفة من أهل الباطن كأهل الحلول، والتأويل والزندقة وعباد القبور، وأمراء الظلم إلا وقد ناقشهم الشيخ وتلاميذه وأبطلوا حججهم وأظهروا كذبهم وتحريفهم أو جهلهم وانتحالهم..

لقد رأى الشيخ عماد الدين هذه النعم العظيمة على شيخ الإسلام ابن تيمية وتلاميذه، فأخذته الحمية والشهامة، والعزة على جناب الشيخ العظيم فقام يوصي أتباعه بالشيخ أن يعرفوا له حرمته، ويقدروا له مكانته وينزلوه منزلته.. واترك المجال بعد هذه المقدمة للشيخ عماد الدين ليقدم وصيته الخالدة حيث يقول:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وسبحان الله وبحمده، تقدس في علوه وجلاله. وتعالى في صفات كماله. وتعاظم في سبحات فرادنيته وجماله، وتكرم في افضاله وجمال نواله، جل أن يمثل بشيء من مخلوقاته، أو يحاط به، بل هو المحيط بمبتدعاته، لا تصوره الأوهام، ولا تقله الأجرام، ولا يعقل كنه ذاته البصائر ولا الأفهام.

الحمد لله مؤيد الحق وناصره، ودافع الباطل وكاسره، ومعز الطائع وجابره، ومذل الباغي ودائره، الذي سعد بخطوة الاقتراب من قدسه من قام بأعباء الاتباع في بنانه وأسه، وفاز بمحبوبيته في ميادين أنسه من بذل ما يهواه في طلبه من قلبه وحسه، وتثبت في مهامه الشكوك منتظراً زوال لبسه، سبحانه وبحمده له المثل الأعلى، والنور الأتم الأجلى، والبرهان الظاهر في الشريعة المثلى.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. الذي شهدت لوحدانيته الفطر، وأسلم لربوبيته ذو العقل والنظر، وظهرت أحكامه في الآي والسور، وتم اقتداره في تنزل القدر.

وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، الذي شهدت بنبوته الهواتف والأحبار، فكان قبل ظهوره ينتظر، وتلاحقت عند مبعثه معجزاته من حنين الجذع وانقياد الشجر، صلوات الله عليه وعلى آله وأصحابه أهل الخشية والحذر، والعلم المنور، فهم قدوة التابع للأثر.

وبعد. فهذه رسالة سطرها العبد الضعيف الراجي رحمة ربه وغفرانه، وكرمه وامتنانه. أحمد بن إبراهيم الواسطي. عامله الله بما هو أهله فإنه أهل التقوى وأهل المغفرة.

إلى إخوانه في الله السادة العلماء، والأئمة الأتقياء، ذوي العلم النافع، والقلب الخاشع، والنور الساطع، الذين كساهم كسوة الأتباع، وأرجو من كرمه أن يحققهم بحقائق الانتفاع:

السيد الأجل العالم، الفاضل فخر المحدثين، ومصباح المتعبدين المتوجه إلى رب العالمين، تقي الدين أبي حفص عمر بن عبدالله بن عبدالأحد بن شقير.

والشيخ الأجل، العالم الفاضل السالك الناسك ذي العلم والعمل، المكتسي من الصفات الحميدة أجمل الحلل، الشيخ شمس الدين محمد بن عبدالأحد الآمدي.

والسيد الأخ، العالم الفاضل، السالك الناسك، التقي الصالح، الذي سيماء نور قلبه لائح على صفحات وجهه، شرف الدين محمد بن المنجى.

والسيد الأخ، الفقيه العالم النبيل، الفاضل فخر المحصلين، زين الدين، عبدالرحمن بن محمود بن عبيدان البعلبكي.

والسيد الأخ العالم الفاضل، السالك الناسك، ذي اللب الراجح والعمل الصالح، والسكينة الوافرة، والفضيلة الغامرة، نور الدين محمد بن محمد بن محمد بن الصائغ.

وأخيه السيد الأخ، العالم التقي الصالح، الخير الدين، العالم الثقة، الأمين الراجح، ذي السمت الحسن، والدين المتين، في اتباع السنن، فخر الدين محمد.

والأخ العزيز الصالح، الطالب لطريق ربه، والراغب في مرضاته وحبه والعالم الفاضل، الولد شرف الدين محمد بن سعد الدين سعدالله ابن نجيح.

وغيرهم من اللائذين بحضرة شيخهم وشيخنا الإمام، الأمة الهمام، محيي السنة، وقامع البدعة، ناصر الحديث، مفتي الفرق، الفائق عن الحقائق، وموصلها بالأصول الشرعية للطالب الذائق، الجامع بين الظاهر والباطن، فهو يقضي بالحق ظاهراً وقلبه في العلي قاطن، أنموذج الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، الذين غابت عن القلوب سيرهم، ونسيت الأمة حذوهم وسبلهم، فذكرهم بها الشيخ، فكان في دارس نهجهم سالكاً، ولموات حذوهم محيياً، ولأعنة قواعدهم مالكاً: الشيخ الإمام تقي الدين أبو العباس، أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام ابن تيمية، أعاد الله علينا بركته، ورفع إلى مدارج العلى درجته، وأدام توفيق السادة المبدوّ بذكرهم وتسديدهم، وأجزل لهم حظهم، ومزيدهم.

السلام عليكم معشر الإخوان ورحمة الله وبركاته، جعلنا الله وإياكم ممن ثبت على قرع نوائب الحق جأشه، واحتسب لله ما بذله من نفسه في إقامة دينه، وما احتوشته من ذلك وحاشه، واحتذى حذو السبق الأولين، من المهاجرين والأنصار، والذين لم تأخذهم في الله لومة لائم، فما ضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، مع قلة عددهم في أول الأمر، فكانوا مع ذلك كل منهم مجاهد بدين الله قائم. ونرجو من كرم الله تعالى أن يوفقنا لأعمالهم، ويرزق قلوبنا قسطاً من أحوالهم، وينظمنا في سلكهم، تحت سجفتهم ولوائهم، مع قائدهم وإمامهم سيد المرسلين، وإمام المتقين، محمد صلوات الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أذكركم رحمكم الله بما أنتم به عالمون عملاً بقوله تعالى: {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين}.

وأبدأ من ذلك بأن أوصي نفسي وإياكم بتقوى الله، وهي وصية الله تعالى إلينا وإلى الأمم من قبلنا، كما بين سبحانه وتعالى قائلاً وموصياً: {ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله}.

وقد علمتم تفاصيل التقوى على الجوارح والقلوب، بحسب الأوقات والأحوال: من الأقوال، والأعمال، والإيرادات، والنيات.

وينبغي لنا جميعاً أن لا نقنع من الأعمال بصورها حتى نطالب قلوبنا بين يدي الله تعالى بحقائقها. ومع ذلك فلتكن لنا همة علوية، تترامى إلى أوطان القرب، ونفحات المحبوبية والحب. فالسعيد من حظي من ذلك بنصيب. وكان مولاه منه على سائر الأحوال قريباً بخصوص التقريب.

فيكتسي العبد من ذلك ثمرة الخشية والتعظيم، للعزيز العظيم، فالحب والخشية ثابتان في الكتاب العزيز والسنة المأثورة. قال تعالى: {يحبهم ويحبونه} (المائدة:54) {والذين آمنوا أشد حباً لله} (البقرة:165) وقال تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} (فاطر:28) وفي الحديث [أسألك حبك وحب من أحبك وحب عمل يقربني إلى حبك] (رواه الترمذي عن ابن عباس في دعاء طويل) وفي الحديث [لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله] (رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أنس بدون قوله [ولخرجتم الخ] وهو بهذه الزيادة عند الطبراني في الكبير والحاكم والبيهقي عن أبي الدرداء).

ومعلوم أن الناس يتفاوتون في مقامات الحب والخشية، في مقام أعلى من مقام، ونصيب أرفع من نصيب، فلتكن همة أحدنا من مقامات الحب والخشية أعلاه، ولا يقنع إلا بذروته وذراه، فالهمم القصيرة تقنع بأيسر نصيب، والهمم العلية تعلو مع الأنفاس إلى قريب الحبيب لا يشغلنا عن ذلك ما هو دونه من الفضائل، والعاقل لا يقنع بأمر مفضول عن حال فاضل. ولتكن الهمة منقسمة على نيل المراتب الظاهرة، وتحصيل المقامات الباطنة. فليس من الإنصاف الانضباب إلى الظواهر والتشاغل عن المطالب العلوية ذوات الأنوار البواهر.

وليكن لنا جميعاً بين الليل والنهار ساعة، نخلو فيها بربنا جل اسمه وتعالى قدسه، نجمع بين يديه في تلك الساعة همومنا، ونطرح أشغال الدنيا من قلوبنا، فنزهد فيما سوى الله ساعة من نهار، فبذلك يعرف الإنسان حاله مع ربه، فمن كان له مع ربه حال، تحركت في تلك الساعة عزائمه. وابتهجت بالمحبة والتعظيم سرائره، وطارت إلى العلى زفراته وكوامنه. وتلك الساعة أنموذج لحاله العبد في قبره، حين خلوه عن ماله وحبه. فمن لم يخل قلبه لله ساعة من نهار، لما احتوشه من الهموم الدنيوية وذوات الآصار. فليعلم أنه ليس له ثم رابطة علوية، ولا نصيب من المحبة ولا المحبوبية، فليبك على نفسه، ولا يرضى منها إلا بنصيب من قرب ربه وأنسه.

فإذا حصلت تلك الساعة، أمكن إيقاع الصلوات الخمس على نمطها من الحضور والخشوع، والهيبة للرب العظيم في السجود والركوع فلا ينبغي لنا أن نبخل على أنفسنا في اليوم والليلة من أربع وعشرين ساعة بساعة واحدة لله الواحد القهار، نعبده فيها حق عبادته، ثم نجتهد على إيقاع الفرائض على ذلك النهج في رعايته، وذلك طريق لنا جميعاً إن شاء الله تعالى إلى النفوذ، فالفقيه إذا لم ينفذ في علمه حصل له الشطر الظاهر، وفاته الشطر الباطن. لاتصاف قلبه بالجمود. وبعده في العبادة والتلاوة عن لين القلوب والجلود. كما قال تعالى: {تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله} (الزمر:23) وبذلك يرتقي الفقيه عن فقهاء عصرنا. ويتميز به عنهم، فالنافذ من الفقهاء له البصيرة المنورة، والذوق الصحيح، والفراسة الصادقة، والمعرفة التامة، والشهادة على غيره بصحيح الأعمال وسقيمها. ومن لم ينفذ لم تكن له هذه الخصوصية، وأبصر بعض الأشياء وغاب عنه بعضها.

فيتعين علينا جميعاً طلب النفوذ إلى حضرة قرب المعبود، ولقائه بذوق الإيقان، لنعبده كأننا نراه كما جاء في الحديث (حديث جبريل في سؤاله عن الإسلام والإيمان والإحسان فقال له [الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك] رواه البخاري ومسلم عن عمر وعن ابنه رضي الله عنهما).

وبعد ذلك الخطوة في هذه الدار بلقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، غيباً في غيب، وسراً في سر، بالعكوف على معرفة أيامه وسننه واتباعها. فتبقى البصيرة شاخصة إليه، تراه عيانا في الغيب، كأنها معه صلى الله عليه وسلم، وفيأيامه. فيجاهد على دينه. ويبذل ما استطاع من نفسه في نصرته.

وكذلك من سلك في طريق النفوذ يرجى له أن يلقى ربه بقلبه غيباً في غيب، وسراً في سر، فيرزق القلب قسطاً من المحبة والخشية. والتعظيم اليقيني، فيرى الحقائق بقلبه من وراء ستر رقيق. وذلك هو المعبر عنه بالنفوذ. ويصل إلى قلبه من وراء ذلك الستر ما يغمره من أنوار العظمة والجلال والبهاء والكمال، فيتنور العلم الذي اكتسبه العبد. ويبقى له كيفية أخرى زائدة على الكيفية المعهودة من البهجة والأنوار والقوة في الاعلان والأسرار.

فلا ينبغي لنا أن نتشاغل عن نيل هذه الموهبة السنية، بشواغل الدنيا وهمومها، فتنقطع بذلك -ما تقدم- بالشيء المفضول عن الأمر المهم الفاضل. فإذا سلكنا في ذلك برهة من الزمان، ورزقنا الله تعالى نفوذاً، وتمكنا في ذلك النفوذ فلا تعود هذه العوارض الجزئيات الكونيات تؤثر فينا إن شاء الله تعالى.

وليكن شأن أحدنا اليوم: التعديل بين المصالح الدنيوية والفضائل العلمية، والتوجهات القلبية، ولا يقنع أحدنا بأحد هذه الثلاثة عن الأخريين. فيفوته المطلوب. ومتى اجتهد في التعديل فإنه إن شاء الله تعالى بقدر ما يحصل للعبد جزء من أحدهم، حصل جزءاً من الآخر. ثم بالصبر على ذلك تجتمع الأجزاء المحصلة، فتصير مرتبة عالية عند النهاية - إن شاء الله تعالى.

هذا وإن كنتم -أيدكم الله تعالى- بذلك عالمين، لكن الذكرى تنفع المؤمنين.

ثم يستطرد الشيخ عماد الدين قائلاً في رسالته:

واعلموا -أيدكم الله- أنه يجب عليكم أن تشكروا ربكم تعالى في هذا العصر، حيث جعلكم بين جميع أهل هذا العصر كالشامة البيضاء في الحيوان الأسود. لكن من لم يسافر إلى الأقطار، ولم يتعرف أحوال الناس، لا يدري قدر ما هو فيه من العافية. فأنتم إن شاء الله تعالى في حق هذه الأمة الأولى كما قال تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس. تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} (آل عمران:110) وكما قال تعالى: {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور} (الحج:41).

أصبحتم إخواني تحت سنجق (أي تحت لوائه ورايته) رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن شاء الله تعالى، مع شيخكم وإمامكم، وشيخنا وإمامنا المبدوء بذكره رضي الله عنه. قد تميزتم عن جميع أهل الأرض، فقائها وفقرائها، وصوفيتها، وعوامها: بالدين الصحيح.

وقد عرفتم ما أحدث الناس من الأحداث، في الفقهاء والفقراء والصوفية والعوام. فأنتم اليوم في مقابلة الجهمية من الفقهاء. نصرتم الله ورسوله في حفظ ما أضاعوه من دين الله، تصلحون ما أفسدوه من تعطيل صفات الله.

وأنتم أيضاً في مقابلة من لم ينفذ في علمه من الفقهاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجمد على مجرد تقليد الأئمة فإنكم قد نصرتم الله ورسوله في تنفيذ العلم إلى أصوله من الكتاب والسنة، واتحاد أقوال الأئمة، تأسياً بهم لا تقليداً لهم.

وأتم أيضاً في مقابلة ما أحدثته أنواع الفقراء من الأحمدية (أتباع أحمد الرفاعي البطائحي وسموا أيضاً بالبطائحية)، والحريرية (فرقة صوفية)، من إظهار شعار المكاء والتصدية (المكاء صوت القطط، والتصديد: التصفيق وكان كفار قلة يطوفون بالبيت ويصفقون ويصفرون في طوافهم، وشبه الشيخ الصوفية بذلك لأن أذكارهم برفع الأصوات لقولهم هوهو. تكون كالمكاء أو النباح ولأنهم يصفقون في أذكارهم ويتمايلون ويصرخون)، ومؤاخاة النساء والصبيان، والأعراض عن دين الله إلى خرافات مكذوبة عن مشايخهم، واستنادهم إلى شيوخهم وتقليدهم في صائب حركاتهم وخطئها، وإعراضهم عن دين الله الذي أنزله من السماء. فأنتم بحمد الله تجاهدون هذا الصنف أيضاً كما تجاهدون من سبق. حفظتم من دين الله ما أضاعوه. وعرفتم ما جهلوه تقومون من الدين ما عوجوه، وتصلحون ما أفسدوه.

وأنتم أيضاً في مقابلة رسمية الصوفية والفقهاء، وما أحدثوه من الرسوم الوضعية، والآصار الابتداعية، من التصنع باللباس، والاطراق والسجادة لنيل الرزق من المعلوم، ولبس البقيار، والاكمام الواسعة في حضرة الدرس، وتنميق الكلام، والعدو بين يدي المدرس راكعين، حفظاً للمناصب، واستجلاباً للرزق والادرار.

فحفظ هؤلاء في عبادة الله غيره، وتألهوا سواه. ففسدت قلوبهم من حيث لا يشعرون. يجتمعون لغير الله بل للمعلوم، ويلبسون للمعلوم وكذلك في أغلب حركاتهم يراعون ولاة المعلوم. فضيعوا كثيراً من دين الله وأماتوه. وحفظتم أنتم ما ضيعوه، وقومتم ما عوجوه.

وكذلك أنتم في مقابلة ما أحدثته الزنادقة من الفقراء والصوفية من قولهم بالحلول والاتحاد، وتأله المخلوقات. كاليونسية، والعربية، والصدرية، والسبعينية، والتلمسانية. فكل هؤلاء بدلوا دين الله تعالى وقلبوه. وأعرضوا عن شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فاليونسية يتألهون شيخهم، ويجعلونه مظهراً للحق، ويستهينون بالعبادات، ويظهرون بالفرعنة والصولة، والسفاهة والمحالات، لما وقر في بواطنهم من الخيالات الفاسدة، وقبلتهم الشيخ يونس. ورسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن المجيد عنهم بمعزل، يؤمنون به بألسنتهم، ويكفرون به بأفعالهم.

وكذلك الاتحادية، يجعلون الوجود مظهراً للحق، باعتبار أن لا متحرك في الكون سواه، ولا ناطق في الأشخاص غيره. وفيهم من لا يفرق بين الظاهر والمظهر، فيجعل الأمر كموج البحر، فلا يفرق بين عين الموجة وبين عين البحر، حتى إن أحدهم يتوهم أنه الله، فينطق على لسانه، ثم يفعل ما أراد من الفواحش والمعاصي، لأنه يعتقد ارتفاع الثنوية فمن العابد ومن المعبود؟ صار الكل واحداً.

اجتمعنا بهذا الصنف في الربط والزوايا.

فأنتم بحمد الله قائمون في وجه هؤلاء أيضاً تنصرون الله ورسوله، وتذبون عن دينه، وتعملون على إصلاح ما أفسدوا وعلى تقويم ما عوجوا فإن هؤلاء محوا رسم الدين، وقلعوا أثره. فلا يقال أفسدوا ولا عوجوا بل بالغوا في هدم الدين ومحو أثره. ولا قربة أفضل عند الله من القيام بجهاد هؤلاء بمهما أمكن، وتبين مذاهبهم للخاص والعام. وكذلك جهاد كل من الحد في دين الله وزاغ عن حدوده وشرعيته. كائنا في ذلك ما كان من فتنة وقول. كما قيل:

إذا رضي الحبيب فلا أبالي * أقام الحي أم جد الرحيل.

وبالله المستعان.

وكذلك أنتم بحمد الله قائمون بجهاد الأمراء والأجناد، تصلحون ما أفسدوا من المظالم والاجحافات، وسوء السيرة الناشئة عن الجهل بدين الله، بما أمكن. وذلك لبعد العهد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. لأن اليوم له سبعمائة سنة، فأنتم بحمد الله تجددون ما دثر من ذلك واندثر.

وكذلك أنتم بحمد الله قائمون في وجوه العامة، مما أحدثوا من تعظيم الميلادة. والقلندس، وخميس البيض. والشعانين، وتقبيل القبور والأحجار، والتوسل عندها. ومعلوم أن ذلك كله من شعائر النصارى والجاهلية. وإنما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ليوحد الله ويعبد وحده، ولا يأله معه شيء من مخلوقاته. بعثه الله تعالى ناسخاً لجميع الشرائع والأديان والأعياد. فأنتم بحمد الله قائمون بإصلاح ما أفسد الناس من ذلك.

وقائمون في وجوه من ينصر هذه البدع من مارقي الفقهاء، أهل الكيد والضرار لأولياء الله، أهل المقاصد الفاسدة. والقلوب التي هي عن نصر الحق حائدة.

وإنما أعرض هذا الضعيف عن ذكر قيامكم في وجوه التتر والنصارى، واليهود، والرافضة، والمعتزلة، والقدرية، وأصناف أهل البدع والضلالات لأن الناس متفقون على ذمهم. يزعمون أنهم قائمون برد بدعتهم. ولا يقومون بتوفية حق الرد عليهم كما تقومون. بل يعلمون ويجبنون عن اللقاء فلا يجاهدون، وتأخذهم في الله اللائمة. لحفظ مناصبهم، وإبقاء على أعراضهم.

سافرنا البلاد فلم نر من يقوم بدين الله في وجوه مثل هؤلاء -حق القيام- سواكم، فأنتم القائمون في وجوه هؤلاء إن شاء الله. بقيامكم بنصرة شيخكم وشيخنا -أيده الله- حق القيام، بخلاف من ادعى من الناس أنهم يقومون بذلك.

فصبراً يا إخواني على ما أقامكم الله فيه، من نصرة دينه وتقويم اعوجاجه، وخذلان أعدائه. واستعينوا بالله، ولا تأخذكم فيه لومة لائم. وإنما هي أيام قلائل. والدين منصور. قد تولى الله اقامته ونصره، ونصرة من قام به من أوليائه، إن شاء الله، ظاهراً وباطناً.

وابذلوا فيما أقمتم فيه ما أمكنكم من الأنفس والأموال، والأفعال، والأقوال، عسى أن تلحقوا بذلك بسلفكم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلقد عرفتم ما لقوا في ذات الله، كما قال خبيب حين صلب على الجذع:

وذلك في ذات الإله، وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع

وقد عرفتم ما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم من الضر والفاقة في شعب بني هاشم، وما لقي السابقون الأولون من التعذيب والهجرة إلى الحبشة، وما لقي المهاجرون والأنصار في أحد، وفي بئر معونة، وفي قتال أهل الردة، وفي جهاد الشام والعراق، وغير ذلك.

وانظروا كيف بذلوا نفوسهم وأموالهم لله، حبا له، وشوقاً إليه. فكذلك أنتم، رحمكم الله. كل منكم على قدر إمكانه واستطاعته، بفعله، وبقوله، وبخطه، وبقلبه، وبدعائه. كل ذلك جهاد. أرجو أن لا يخيب من عامل الله بشيء من ذلك. إذ لا عيش إلا في ذلك، ولو لم يكن فيه إلا همكم، مزاحمة لأهل الزيغ، مشوشة لهم، تبغضونهم في الله، وتطلبون استقامتهم في دين الله. وذلك من الجهاد الباطن إن شاء الله تعالى.

ثم يستطرد الشيخ علم الدين أيضاً قائلاً:

ثم اعرفوا إخواني حق ما أنعم الله عليكم من قيامكم بذلك. واعرفوا طريقكم إلى ذلك، واشكروا الله تعالى عليها. وهو أن أقام لكم ولنا في هذا العصر مثل سيدنا الشيخ الذي فتح الله به أقفال القلوب، وكشف به عن البصائر عمى الشبهات وحيرة الضلالات، حيث تاه العقل بين هذه الفرق، ولم يهتد إلى حقيقة دين الرسول صلى الله عليه وسلم.

ومن العجب أن كلا منهم يدعي أنه على دين الرسول، حتى كشف الله لنا ولكم بواسطة هذا الرجل عن حقيقة دينه الذي أنزله من السماء وارتضاه لعباده.

واعلموا أن في آفاق الدنيا أقواماً يعيشون أعمارهم بين هذه الفرق، يعتقدون أن تلك البدع حقيقة الإسلام. فلا يعرفون الإسلام إلا هكذا.

فاشكروا الله الذي أقام لكم في رأس السبعمائة من الهجرة من بين لكم أعلام دينكم.

وهداكم الله به وإيانا إلى نهج شريعته.وبين لكم بهذا النور المحمدي ضلالات العباد وانحرافاتهم، فصرتم تعرفون الزائغ من المستقيم، والصحيح من السقيم. وأرجو أن تكونوا أنتم الطائفة المنصورة. الذين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم. وهم بالشام إن شاء الله تعالى.

فصل

ثم إذا علمتم ذلك، فاعرفوا حق هذا الرجل الذي هو بين أظهركم وقدره، ولا يعرف حقه وقدره إلا من عرف دين الرسول صلى الله عليه وسلم وحقه وقدره. فمن وقع دين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من قلبه بموقع يستحقه، عرف حق ما قام به هذا الرجل بين أظهر عباد الله، يقوم معوجهم، ويصلح فسادهم، ويلم شعثهم، جهد إمكانه، في الزمان المظلم، الذي انحرف فيه الدين، وجهلت السنن، وعهدت البدع، وصار المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، والقابض على دينه، كالقابض على الجمر، فإن أجر من قام بإظهار هذا النور في هذه الظلمات لا يوصف، وخطره لا يعرف.

فالله الله في حفظ الأدب معه، والانفعال لأوامره، وحفظ حرماته في الغيب والشهادة، وحب من أحبه، ومجانبة من أبغضه وتنقصه ورد غيبته، والانتصار له في الحق.

واعلموا رحمكم الله، أن هنا من سافر إلى الأقاليم، وعرف الناس وأذواقهم وأشرف على غالب أحوالهم، فوالله، ثم والله ثم والله، لم ير أديم تحت السماء مثل شيخكم: علماً، وعملاً، وحالاً، وخلقاً، واتباعاً، وكرماً وحلماً. في حق نفسه، وقياماً في حق الله عند انتهاك حرماته. أصدق الناس عقداً، وأصلحهم علماً وعزماً، وأنفذهم وأعلاهم في انتصار الحق وقيامه همة، وأسخاهم كفاً، وأكملهم اتباعاً لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم.

ما رأينا في عصرنا هذا من تستجلي النبوة المحمدية وسنتها من أقواله وأفعاله إلا هذا الرجل. بحيث يشهد القلب الصحيح أن هذا هو الإتباع حقيقة.

وبعد ذلك كله فقول الحق فريضة، فلا ندعي فيه العصمة عن الخطأ، ولا ندعي إكماله لغايات الخصائص المطلوبة. فقد يكون في بعض الناقصين خصوصية مقصودة مطلوبة، لا يتم الكمال إلا بهاتيك الخصوصية وهذا القدر لا يجهله منصف عارف. ولولا أن قول الحق فريضة، والتعصب للإنسان هوى، لأعرضت عن ذكر هذا -لكن يجب قول الحق- إن ساء أو سر. والله المستعان.

إذا علمتم ذلك -أيدكم الله تعالى- فاحفظوا قلبه، فإن مثل هذا قد يدعي عظيماً في ملكوت السماء. واعملوا على رضاه بكل ممكن واستجلبوا وده لكم، وحبه إياكم بمهما قدرتم عليه. فإن مثل هذا يكون شهيداً، والشهداء في العصر لمثله، فإن حصلت لكم محبته رجوت لكم بذلك خصوصية أكتمها ولا أذكرها، وربما يفطن لها الأذكياء منكم، وربما سمحت نفسي بذكرها، كيلا أكتم عنكم نصحي.

وتلك الخصوصية: هي أن ترزقوا قسطاً من نصيبه الخاص المحمدي مع الله تعالى. فإن ذلك إنما يسري بواسطة محبة الشيخ للمريد، واستجلاب المريد محبة الشيخ بتأتيه معه، وحفظ قلبه وخاطره، واستجلاب وده ومحبته، فأرجو بذلك لكم قسطاً مما بينه وبين الله تعالى، فضلاً عما تكسبونه من ظاهر علمه وفوائده وسياسته، إن شاء الله تعالى.

وأرجو أنكم إذا فتحتم بينكم وبين ربكم تعالى بصحيح المعاملة بحفظ تلك الساعة في الصلوات الخمس والتهجد أن ينفتح لكم معرفة حقيقة هذا الرجل ونبأه إن شاء الله تعالى.

وإنما ذكرت حفظ الساعة -وإن كان في الصلوات الخمس كفاية. إذا قام العبد فيها لحق الله تعالى- وذلك لأن الصلوات قد تهجم على العبد وقلبه مأخوذ في جوانب الظاهر، فلا يعرف نصيب قلبه من ربه فيها، فإذا كان للعبد ساعة بين الليل والنهار عرف فيها نصيب قلبه من ربه، فإذا جاءت الصلوات، عرف فيها حاله وزيادته ونقصانه باعتبار حالته مع ربه في تلك الساعة. وبالله المستعان.

وإذا عرفتم قدر دين الله تعالى الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وعرفتم قدر حقائق الدين الذي يعبر عنه بالنفوذ إلى الله تعالى، والحظوة بقربه. ثم عرفتم اجتماع الأمرين في شخص معين، ثم عرفتم انحراف الأمة عن الصراط المستقيم، وقيام الرجل المعين الجامع الظاهر والباطن في وجوه المنحرفين، بنصر الله تعالى ودينه، ويقوم معوجهم، ويلم شعثهم، ويصلح فاسدهم. ثم سمعتم بعد ذلك طعن طاعن عليه من أصحابه أو من غيرهم، فإنه لا يخفى عنكم محق هو، أو مبطل؟ إن شاء الله.

وبرهان ذلك: أن المحق طالب الهدى والحق بغرض عند من أنكر عليه ذلك الفعل الذي أنكره، إما بصيغة السؤال أو الاستفهام بالتلطف عن ذلك النقص الذي رآه فيه، أو بلغه عنه، فإن وجد هناك اجتهاداً، أو رأياً أو حجة، قنع بذلك، وأمسك، ولم يفش ذلك إلى غيره، إلا مع إقامة ما بينه من الاجتهاد، أو الرأي، أو الحاجة، ليسد الخلل بذلك. فمثل هذا يكون طالب هدى، محباً، ناصحاً، يطلب الحق، ويروم تقويم أستاذه عن انحرافه بتعريفه وتفويضه. كما يروم أستاذه تقويمه. كما قال بعض الخلفاء الراشدين (هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه -كذا في المنقول عنه- أ.هـ من هامش الأصل وذلك في أول خطبة قام بها بعد الخلافة ويروى أيضاً عن عمر) -ولا يحضرني اسمه- "إذا اعوججت فقوموني".

فهذا حق واجب بين الأستاذ والطالب. فإن الأستاذ يطلب إقامة الحق على نفسه ليقوم به، ويتهم نفسه أحياناً، ويتعرف أحواله من غيره، مما عنده من النصفة وطلب الحق، والحذر من الباطل، كما يطلب المريد ذلك من شيخه من التقويم، وإصلاح الفاسد من الأعمال والأقوال.

ومن براهين المحق: أن يكون عدلاً في مدحه، عدلاً في ذمه، لا يحمله الهوى -عند وجود المراد- على الإفراط في المدح، ولا يحمله الهوى -عند تعذر المقصود- على نسيان الفضائل والمناقب، وتعديد المساوئ والمثالب.

فالمحق في حالتي غضبه ورضاه ثابت على مدح من مدحه وأثنى عليه، ثابت على ذم من ثلبه وحطط عليه.

وأما من عمل كراسة في عد مثالب هذا الرجل القائم بهذه الصفات الكاملة بين أصناف هذا العالم المنحرف، في هذا الزمان المظلم، ثم ذكر مع ذلك شيئاً من فضائله، ويعلم أنه ليس المقصود ذكر الفضائل، بل المقصود تلك المثالب. ثم أخذ الكراسة يقرؤها على أصحابه واحداً واحداً في خلوة، يوقف بذلك همهم عن شيخهم، ويريهم قدحاً فيه. فإني أستخير الله تعالى وأجتهد رأيي في مثل هذا الرجل، وأقول انتصاراً لمن ينصر دين الله، بين أعداء الله في رأس السبعمائة، فإن نصره مثل هذا الرجل واجبة على كل مؤمن كما قال ورقة بن نوفل: "لئن أدركني يومك لأنصرنك نصراً مؤزراً" (رواه البخاري في بدء الوحي) ثم أسأل الله تعالى العصمة فيما أقول عن تعدي الحدود والإخلاد إلى الهوى.

أقول: مثل هذا -ولا أعين الشخص المذكور بعينه- لا يخلو من أمور:

أحدها: أن يكون ذا سن تغير رأيه لسنه. لا بمعنى أن اضطراب بل بمعنى أن السن إذا كبر يجتهد صاحبه للحق. ثم يضعه في غير مواضعه. مثلاً يجتهد أن إنكار المنكر واجب. وهذا منكر. وصاحبه قد راج على الناس. فيجب على تعريف الناس ما راج عليهم، وتغيب عليه المفاسد في ذلك.

فمنها: تخذيل الطلبة، وهم مضطرون إلى محبة شيخهم، ليأخذوا عنه. فمتى تغيرت قلوبهم عليه ورأوا فيه نقصاً حرموا فوائده الظاهرة والباطنة. وخيفت عليهم المقت من الله أولاً. ثم من الشيخ ثانياً.

المفسدة الثانية: إذا شعر أهل البدع الذين نحن وشيخنا قائمون الليل والنهار بالجهاد والتوجه في وجوههم لنصرة الحق: أن في أصحابنا من ثلب رئيس القوم بمثل هذا. فإنهم يتطرقون بذلك إلى الاشتفاء من أهل الحق ويجعلونه حجة لهم.

المفسدة الثالثة: تعديد المثالب في مقابلة ما يستغرقها ويزيد عليها بأضعاف كثيرة من المناقب، فإن ذلك ظلم وجهل.

والأمر الثاني، من الأمور الموجبة لذلك: تغير حالة وقلبه. وفساد سلوكه بجسد كان كامناً فيه. وكان يكتمه برهة من الزمان. فظهر ذلك الكمين في قالب، صورته حق ومعناه باطل.

وفي الجملة -أيدكم الله- إذا رأيتم طاعنا على صاحبكم فافتقدوه في عقله أولاً، ثم في فهمه، ثم في صدقه، ثم في سنه. فإذا وجدتم الاضطراب في عقله، دلكم على جهله بصاحبكم. وما يقول فيه وعنه. ومثله قلة الفهم. ومثله عدم الصدق، أو قصوره، لأن نقصان الفهم يؤدي إلى نقصان الصدق بحسب ما غاب عقله عنه. ومثله العلو في السن فإنه يشيخ فيه الرأي والعقل كما تشيخ فيه القوى الظاهرة الحسية، فاتهموا مثل هذا الشخص واحذروه، واعرضوا عنه إعراض مداراة بلا جدل ولا خصومة.

وصفة الامتحان بصحة إدراك الشخص وعقله وفهمه: أن تسألوه عن مسألة سلوكية. أو علمية، فإذا أجاب عنها فأوردوا على الجواب إشكالاً متوجهاً بتوجيه صحيح، فإن رأيتم الرجل يروح يميناً وشمالاً، ويخرج عن ذلك المعنى إلى معان خارجة، وحكايات ليست في المعنى حتى يتسنى رب المسألة سؤاله، حيث توهه عنه بكلام لا فائدة فيه، فمثل هذا لا تعتمدوا على طعنه، ولا على مدحه، فإنه ناقص الفطرة، كثير الخيال، لا يثبت على تحري المدارك العلمية، ولا تنكروا مثل إنكار هذا. فإنه اشتهر قيام ذي الخويصرة التميمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله له: "اعدل -فإنك لم تعدل- إن هذه قسمة لم يرد بها وجه الله تعالى" أو نحو ذلك.

فوقوع هذا وأمثاله من بعض معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه قال: [لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة] وإن كان ذلك في اليهود والنصارى، لكن لما كانوا منحرفين عن نهج الصواب، فكذلك يكون في هذه الأمة من يحذو حذو كل منحرف وجد في العالم، متقدماً كان أو متأخراً، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلوه.

يا سبحان الله العظيم، أين عقلاء هؤلاء؟ أعميت أبصارهم وبصائرهم؟ أفلا يرون ما الناس فيه من العمى والحيرة في الزمان المظلم المدلهم، الذي قد ملكت فيه الكفار معظم الدنيا؟ وقد بقيت هذه الخطة الضيقة، يشم المؤمنون فيها رائحة الإسلام؟ وفي هذه الخطة الضيقة من الظلمات من علماء السوء والدعاة إلى الباطل وإقامته، ودحض الحق وأهله ما لا يحصر في كتاب. ثم إن الله تعالى قد رحم هذه الأمة بإقامة رجل قوي الهمة، ضعيف التركيب، قد فرق نفسه وهمه في مصالح العالم، وإصلاح فسادهم، والقيام بمهماتهم، وحوائجهم، ضمن ما هو قائم بصدد البدع والضلالات، وتحصيل مواد العلم النبوي الذي يصلح به فساد العالم، ويردهم إلى الدين الأول العتيق جهد إمكانه، وإلا فأين حقيقة الدين العتيق؟

فهو مع هذا كله قائمبجملة ذلك وحده، وهو منفرد بين أهل زمانه، قليل ناصره، كثير خاذله، وحاسده، والشامت فيه!!

فمثل هذا الرجل في هذا الزمان، وقيامه بهذا الأمر العظيم الخطير فيه. أيقال له: لم ترد على الأحمدية؟ لم لا تعدل في القسمة؟ لم تدخل على الأمراء؟ لم تقرب زيداً وعمراً؟

أفلا يستحي العبد من الله؟ يذكر مثل هذه الجزئيات في مقابلة هذا العبء الثقيل؟ ولو حوقق الرجل على هذه الجزئيات وجد عنده نصوص صحيحة، ومقاصد صحيحة ونيات صحيحة!! تغيب عن الضعفاء العقول، بل عن الكمل منهم، حتى يسمعوها.

أما رده على الطائفة الفلانية أيها المفرط التائه، الذي لا يدري ما يقول. أفيقوم دين محمد بن عبدالله الذي أنزل من السماء، ألا بالطعن على هؤلاء؟ وكيف يظهر الحق إن لم يخذل الباطل؟ لا يقول مثل هذا إلا تائه، أو مسن أو حاسد.

وكذلك القسمة للرجل، في ذلك اجتهاد صحيح. ونظر إلى مصالح تترتب على إعطاء قوم دون قوم، كما خص الرسول صلى الله عليه وسلم الطلقاء بمائة من الإبل، وحرم الأنصار! حتى قال منهم إحداثهم شيئاً في ذلك. لاذووا أحلامهم، وفيها قام ذو الخويصرة فقال ما قال، وأما دخوله على الأمراء، فلو لم يكن، كيف كان شم الأمراء رائحة الدين العتيق الخاص؟ ولو فتش المفتش، لوجد هذه الكيفية التي عندهم من رائحة الدين، ومعرفة المنافقين، إنما اقتبسوها من صاحبكم.

وخاتمة الخير على عمله، وأن يرده عن انحرافه إلى نهج الصواب، بحيث لا يبقى معشره يعيبه بعلمه، وتصنيفه، من أولي العقول والأحكام ونستغفر الله العظيم، من الخطأ والزلل، في القول والعمل. والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم أ.هـ (تمت هذه الرسالة التي سماها مؤلفها الشيخ علم الدين رحمه الله التذكرة والإغيار، والانتصار للأبرار وقد نقلناها من كتاب العقود الدرية لابن عبدالهادي من ص291 إلى 321).

الباب العاشر

ابن تيمية: مصنفاته وتآليفه

مصنفات ابن تيمية تربو على ثلاثمائة مجلد وقد وزعت مصنفاته على سني عمره فوجد أنها تبلغ في كل يوم أربعة كراريس، ولا غرر في ذلك فقد كتب الرسالة الحموية وهي تقع في نحو سبعين صفحة من القطع المتوسط في جلسة بين الظهر والعصر كما قال الذهبي. وكتب أربعة مجلدات كاملة في الرد على الاخنائي المالكي في مسألة شد الرحال إلى زيارة القبور وأربع مجلدات على سؤال واحد سماه (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح). وهذه طائفة من تصانيفه كما ذكرها ابن رجب. قال:

وأما تصانيفه رحمه الله: فهي أشهر من أن تذكر، واعرف من أن تنكر. سارت مسير الشمس في الأقطار، وامتلأت بها البلاد والأمصار. قد جاوزت حد الكثرة، فلا يمكن أحد حصرها، ولا يتسع هذا المكان لعد المعروف منها، ولا ذكرها.

ولنذكر نبذة من أسماء أعيان المصنفات الكبار: كتاب (الإيمان) مجلد، كتاب (الاستقامة) مجلدان (جواب الاعتراضات المصرية على الفتاوي الحموية)، أربع مجلدات، كتاب (تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية) في ست مجلدات كبار، كتاب (المحنة المصرية) مجلدان (المسائل الاسكندرانية) مجلد (الفتاوى المصرية) سبع مجلدات.

وكل هذه التصانيف ما عدا كتاب (الإيمان) كتبه وهو بمصر في مدة سبع سنين صنفها في السجن. وكتب معها أكثر من مائة لفة ورق أيضاً، كتاب (درء تعارض العقل والنقل) أربع مجلدات كبار. والجواب عما أورده للشيخ كمال الدين بن الشربشي على هذا الكتاب، نحو مجلد كتاب (منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية) أربع مجلدات (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح) مجلدان (شرح أول المحصل للرازي) مجلد (شرح بضعة عشر مسألة من الأربعين للرازي) مجلدان (الرد على المنطق) مجلد كبير (الرد على البكري في مسألة الاستغاثة) مجلد (الرد على أهل كسروان الروافض) مجلدان (الصفدية)، جواب من قال: إن معجزات الأنبياء قوى نفسانية مجلد (الهلاونية) مجلد (شرح عقيدة الأصبهاني) مجلد (شرح العمدة) للشيخ موفق الدين. كتب منه نحو أربع مجلدات (تعليقة على المحرر) في الفقه لجده عدة مجلدات (الصارم المساول على شاتم الرسول) مجلد (بيان الدليل على بطلان التحليل) مجلد (اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم) مجلد (التحرير في مسألة حفير) مجلد في مسألة من القسمة، كتبها اعتراضاً على الخوى في حادثة حكم فيها (الرد الكبير على من اعترض عليه في مسألة الحلف بالطلاق) ثلاث مجلدات، كتاب (تحقيق الفرقان بين التطليق والأيمان) مجلد كبير (الرد على الأخنائي في مسألة الزيارة) مجلد. وأما القواعد المتوسطة والصغار وأجوبة الفتاوي: فلا يمكن الإحاطة بها، لكثرتها وانتشارها وتفرقها. ومن أشهرها (الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان) مجلد لطيف (الفرقان بين الحق والبطلان) مجلد لطيف (الفرقان بين الطلاق والأيمان) مجلد لطيف (السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية) مجلد لطيف (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) مجلد لطيف.

*السبب في إكثاره في الأصول:

قال الحافظ أبو حفص عمر بن علي البزار المتوفي سنة 749-تلميذ شيخ الإسلام:

"ولقد أكثر رضي الله عنه التصنيف في الأصول فضلاً عن غيره من بقية العلوم فسألته عن سبب ذلك والتمست منه تأليف نص في الفقه يجمع اختياراته وترجيحاته ليكون عمدة في الإفتاء. فقال لي ما معناه: الفروع أمرها قريب، فإذا قلد المسلم فيها أحد العلماء المقلدين جاز له العمل بقوله، ما لم يتيقن خطأه. وأما الأصول فإني رأيت أهل البدع والضلالات والأهواء كالمتفلسفة والباطنية والملاحدة، والقائلين بوحدة الوجود، والدهرية، والقدرية والنصيرية والجهمية والحلولية والمعطلة، والمجسمة والمشبهة والراوندية والكلابية والسلمية وغيرهم من أهل البدع قد تجاذبوا فيها، بأزمة الضلال، وبان لي أن كثيراً منهم إنما قصد إبطال الشريعة المقدسة المحمدية، الظاهرة على كل دين، العلية. وأن جمهورهم أوقع الناس في التشكيك في أصول دينهم، ولهذا قل أن سمعت أو رأيت معرضاً عن الكتاب والسنة، مقبلاً على مقولاتهم إلا وقد تزندق أو صار على غير يقين في دينه أو اعتقاده. فلما رأيت الأمر على ذلك بان لي أنه يجب على كل من يقدر على دفع شبههم وأباطيلهم وقطع حجتهم وأضاليلهم أن يبذل جهده ليكشف رذائلهم. وزيف دلائلهم ذبا عن الملة الحنيفية، والسنة الصحيحة الجلية. ولا والله ما رأيت فيهم أحداً ممن صنف في هذا الشأن، وادعى علو المقام، إلا وقد ساعد بمضمون كلامه في هدم قواعد دين الإسلام. وسبب ذلك إغضاؤه عن الحق الواضح المبين، وعن ما جاءت به الرسل الكرام عن رب العالمين، وأتباعه طرق الفلسفة في الاصطلاحات التي سموها بزعمهم حكميات وعقليات، وإنما هي جهالات وضلالات، وكونه التزمها معرضاً عن غيرها أصلاً ورأساً. فغلبت عليه حتى غطت على عقله السليم فتخبط حتى خبط فيها خبط عشواء، ولم يفرق بين الحق والباطل، وإلا فالله أعظم لطفاً بعباده من أن لا يجعل لهم عقلاً يقبل الحق ويثبته، ويبطل الباطل وينفيه. لكن عدم التوفيق وغلبة الهوى أوقع من أوقع في الضلال. وقد جعل الله تعالى العقل السليم من الشوائب ميزاناً يزن به العبد الواردات فيفرق به بين ما هو من قبيل الحق، وما هو من قبيل الباطل. ولم يبعث الله الرسل إلا إلى ذوي العقل، ولم يقع التكليف إلا مع وجوده، فكيف يقال إنه مخالف لبعض ما جاءت به الرسل الكرام عن الله تعالى؟ هذا باطل قطعاً يشهد له كل عقل سليم، لكن {ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور} (النور:40).

قال الشيخ الإمام قدس الله روحه: فهذا ونحوه هو الذي أوجب أني صرفت جل همي إلى الأصول، وألزمني أن أوردت مقالاتهم وأجبت عنها بما أنعم الله تعالى به من الأجوبة العقلية والنقلية".

الباب الحادي عشر

تحقيق القول في مسألة خلود الجنة والنار

ذكرت في المقدمة أن السبب الذي حداني أن أجمع هذه الرسالة هو اتهام ذلك الأستاذ للامام شيخ الإسلام ابن تيمية أنه خالف الإجماع لأنه قال بفناء نار الآخرة.

والحقيقة أن الامام ابن تيمية نفسه ليس له قول صريح في هذا بل أقواله في الفتاوي أن الجنة والنار مخلوقتان باقيتان لا تفنيان، وأما الذي قال صراحة بفناء النار فهو الإمام ابن القيم تلميذ الشيخ ابن تيمية وقد كتب في هذا فصلاً مطولاً جداً في كتابه الفريد (حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح) وقد استدل لقوله الذي رجحه هذا بأنه هو المنقول عن عامة الصحابة وجمهور التابعين، وأنه لا يذكر للصحابة قول مخالف وقد كتب أيضاً ابن أبي العز الحنفي رحمه الله في هذه المسألة فصلاً في شرح العقيدة الطحاوية بين فيه مذاهب المسلمين في هذه القضية حيث يقول:

"وأما أبدية النار ودوامها، فللناس في ذلك ثمانية أقوال: أحدهما: أن من دخلها لا يخرج منها أبداً الآباد، وهذا قول الخوارج والمعتزلة. والثاني: أن أهلها يعذبون فيها، ثم تنقلب طبيعتهم وتبقى طبيعة النارية يتلذذون بها لموافقتها لطبعهم! وهذا قول إمام الاتحادية ابن عربي الطائي!! الثالث: أن أهلها يعذبون فيها إلى وقت محدود، ثم يخرجون منها، ويخلفهم فيها قوم آخرون، وهذا القول حكاه اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم، وأكذبهم فيه، وقد أكذبهم الله تعالى، فقال عز من قائل: {وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة، قل أتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده، أم تقولون على الله ما لا تعلمون. بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} (البقرة:80-81). الرابع: يخرجون منها، وتبقى على حالها ليس فيها أحد. الخامس: أنها تفني نفسها بنفسها، لأنها حادثة وما ثبت حدوثه استحال بقاءه!! وهذا قول الجهم وشيعته، ولا فرق عنده في ذلك بين الجنة والنار، كما تقدم. السادس: تفنى حركات أهلها ويصيرون جماداً، لا يحسون بألم، وهذا قول أبي الهذيل العلاف كما تقدم. السابع: أن الله يخرج منها من يشاء، كما ورد في الحديث، ثم يبقيها شيئاً، ثم يفنيها، فإنه جعل لها أمدا تنتهي إليه. الثامن: أن الله تعالى يخرج منها من شاء، كما ورد في السنة، ويبقي فيها الكفار، بقاء لا انقطاع له، كما قال الشيخ رحمه الله. وما عدا هذين القولين الأخيرين ظاهر البطلان.

وهذان القولان لأهل السنة ينظر في أدلتهما.

فمن أدلة القول الأول منهما: قوله تعالى: {قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم} (الأنعام:128). وقوله تعالى: {فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق. خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد} (هود:106-107). ولم يأت بعد هذين الاستثنائين ما اتى بعد الاستثناء المذكور لأهل الجنة، وهو قوله: {عطاء غير مجذوذ} (هود:108). وقوله تعالى: {لابثين فيها أحقاباً} (النبأ:23) وهذا القول، -أعني القول بفناء النار دون الجنة- منقول عن عمر، وابن مسعود، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وغيرهم. وقد روى عبد بن حميد في تفسيره المشهور، بسنده إلى عمر رضي الله عنه، أنه قال: "لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج، لكان لهم على ذلك وقت يخرجون فيه" (قال ناصر الدين الألباني ضعيف، لأنه من روايته عن الحسن قال: قال عمر. والحسن لم يدرك عمر رضي الله عنه. وقال ابن القيم في (حادي الأرواح) (2/71 طبع الكردي) عقبه: والحسن لم يسمع من عمر. ومع ذلك فقد حاول تقويته بكلام خطابي، لا غناء فيه (راجع المستدرك) وقد روي نحوه عن عبدالله بن عمرو موقوفاً بسند ضعيف، وعن ابي امامة مرفوعاً بسند فيه تآلف، وقد تكلمت عليه في (سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة) ضمن المائة السابعة)، ذكر ذلك في قوله تعالى: {لابثين فيها أحقاباً} (النبأ:23). قالوا: والنار موجب غضبه، والجنة موجب رحمته. وقد قال صلى الله عليه وسلم: [لما قضى الله الخلق، كتب كتاباً، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي] (متفق عليه). وفي رواية: [تغلب غضبي]. رواه البخاري في (صحيحه) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قالوا: والله سبحانه يخبر عن العذاب أنه: {عذاب يوم عظيم} (الأنعام:15). و {أليم} (هود:26). و {عقيم} (الحج:55). ولم يخبر ولا في موضع أحد عن النعيم أنه نعيم يوم. وقد قال تعالى: {عذابي أصيب به من أشاء، ورحمتي وسعت كل شيء} (الأعراف:155). وقال تعالى حكاية عن الملائكة: {ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً} (غافر:7)، فلا بد أن تسع رحمته هؤلاء المعذبين، فلو بقوا في العذاب لا إلى غاية لم تسعهم رحمته. وقد ثبت في (الصحيح) تقدير يوم القيامة بخمسين ألف سنة (أخرجه مسلم في حديث لأبي هريرة في عقوبة مانع الزكاة يوم القيامة. وفي الباب عن ابن عمرو عند الحاكم (4/572) وصححه ووافقه الذهبي)، والمعذبون فيها متفاوتون في مدة لبثهم في العذاب بحسب جرائمهم، وليس في حكمة أحكم الحاكمين ورحمة أرحم الراحمين أن يخلق خلقاً يعذبهم أبد الآباد عذاباً سرمداً لا نهاية له. وأما أنه يخلق خلقاً ينعم عليهم ويحسن إليهم نعيماً سرمداً، فمن مقتضى الحكمة. والإحسان مراد لذاته، والانتقام مراد بالعرض. قالوا: وما ورد من الخلود فيها، والتأييد، وعدم الخروج، وأن عذابها مقيم، وأنه غرام: كله حق مسلم، لا نزاع فيه، وذلك يقتضي الخلود في دار العذاب ما دامت باقية، وإنما يخرج منها في حال بقائها أهل التوحيد. ففرق بين من يخرج من الحبس وهو حبس على حاله، وبين من يبطل حبسه بخراب الحبس وانتقاضه.

ومن أدلة القائلين ببقائها وعدم فنائها: قوله: {ولهم عذاب مقيم} (المائدة:40)، {لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون} (الزخرف:43)، {فلن نزيدكم إلا عذاباً} (النبأ:30)، {خالدين فيها أبداً} (البينة:8)، {وما هم منها بمخرجين} (الحجر:48) (هذه الآية في أهل الجنة فلعله اراد آية المائدة (وما هم بخارجين منها)، {وما هم بخارجين من النار} (البقرة:167)، {لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط} (الأعراف:40)، {لا يقضى عليهم فيموتوا، ولا يخفف عنهم من عذابها} (فاطر:36).

{إن عذابها كان غراماً} (الفرقان:65)، أي مقيماً لازماً. وقد دلت السنة المستفيضة أنه يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله: وأحاديث الشفاعة صريحة في خروج عصاة الموحدين من النار، وأن هذا حكم مختص بهم، فلو خرج الكفار منها لكانوا بمنزلتهم، ولم يختص الخروج بأهل الإيمان. وبقاء الجنة والنار ليس لذاتهما، بل بإبقاء الله لهما". أ.هـ منه بلفظه.

وهكذا يتبين من هذا النقل أن علماء أهل السنة في هذه المسألة على قولين وأن المنقول عن بعض خيار الصحابة هو القول بفناء النار في نهاية الأمر، دون الجنة. فإنهم مجمعون على بقائها بقاءاً سرمدياً.

* ولأهمية البحث الذي كتبه ابن القيم رحمه الله حول هذه القضية ننقله بنصوصه من كتابه حادي الأرواح ليتبين لقارئ هذه الرسالة منزلة هذين الإمامين في العلم الشرعي وتحري الحق ومعرفة الدليل والوقوف عند أقوال السلف وأنهما لا يقولان قولاً لم يسبقا إليه وأن ابن القيم تلميذ شيخ الإسلام إنما هو قبس من نور شيخ الإسلام وشعلة من ناره ولذلك قال ابن حجر رحمه الله لو لم يكن من فضل لابن تيمية إلا تلميذه ابن القيم لكفى: والآن إلى تحقيق ابن القيم الفريد في مسألة خلود الجنة والنار.

علماً أن جامع هذه الرسالة لا يذهب إلى ما ذهب إليه ابن القيم في المسألة وإنما ننقل ما ذكره ابن القيم هنا لبيان أنه متأول للنصوص القرآنية وناقل عن سلف له، وليس متحكماً برأيه وهواه. ولكننا مع ذلك نرى أن الأسلم هو الإيمان بخلود النار أيضاً خلوداً سرمدياً لأن هذا هو الذي يتماشى مع ظاهر النصوص، ولا يجوز لنا التحول عن هذا الظاهر إلا بدليل شرعي ظاهر قوي، ويبدو أن هذا الدليل ليس موجوداً هنا. والله تعالى أعلم وعلى كل حال فهذه المسألة لا ينبني عليها عمل ومن الأفضل ترك تفصيل القول فيها.. وهذا هو ما حققه ابن القيم في هذه المسألة:

قال:

الباب السابع والستون

في أبدية الجنة وأنها لا تفنى ولا تبيد:

وهذا مما يعلم بالاضطرار أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر به قال تعالى: {وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ} (هود:108، (22-حادي الأرواح))، أي مقطوع. ولا تنافي بين هذا وبين قوله إلا ما شاء ربك. واختلف السلف في هذا الاستثناء. فقال معمر عن الضحاك: هو في الذين يخرجون من النار فيدخلون الجنة يقول سبحانه: إنهم خالدون في الجنة ما دامت السموات والأرض إلا مدة مكثهم في النار.

قلت: وهذا يحتمل أمرين:

أحدهما: أن يكون الإخبار عن الذين سعدوا وقع عن قوم مخصوصين هم هؤلاء.

والثاني: وهو الأظهر أن يكون وقع عن جملة السعداء والتخصيص بالمذكورين هو في الاستثناء وما دل عليه. وأحسن من هذين التقديرين أن ترد المشيئة إلى الجميع حيث لم يكونوا في الجنة في الموقف. وعلى هذا فلا يبقى في الآية تخصيص. وقالت فرقة أخرى: هو استثناء استثناه الرب تعالى ولا يفعله كما تقول: والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك وأنت لا تراه. بل تجزم بضربه.

وقالت فرقة أخرى: العرب إذا استثنت شيئاً كثيراً مع مثله ومع ما هو أكثر منه، كان معنى إلا في ذلك ومعنى الواو سواء والمعنى على هذا سوى ما شاء الله من الزيادة مدة دوام السموات والأرض. هذا قول الفراء وسيبويه: يجعل إلا بمعنى سوى قالوا: ونظير ذلك أن تقول: لي عليك ألف إلا الألفين الذين قبلها أي سوى الألفين. قال ابن جرير: وهذا هو أحب الوجهين إلي، لأن الله تعالى لا خلف لوعده وقد وصل الاستثناء بقوله {عطاء غير مجذوذ}.

قالوا: ونظير أن نقول: أسكنتك داري حولا إلا ما شئت أي سوى ما شئت من الزيادة عليه.

وقالت فرقة أخرى: هذا الاستثناء إنما هو مدة احتباسهم عن الجنة ما بين الموت والبعث وهو البرزخ إلى أن يصيروا إلى الجنة ثم هو خلود الأبد فلم يغيبوا عن الجنة إلا بمقدار إقامتهم في البرزخ. وقالت فرقة أخرى: العزيمة قد وقعت لهم من الله بالخلود الدائم إلا أن يشاء الله خلاف ذلك إعلاماً لهم بأنهم مع خلودهم في مشيئته هذا كما قال لنبيه {ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك} (الإسراء:86)، وقوله {فإن يشأ الله يختم على قلبك} (الشورى:24)، وقوله {قل لو شاء الله ما تلوته عليكم} (يونس:16)، ونظائره وأخبر عباده سبحانه أن الأمور كلها بمشيئته ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.

وقالت فرقة أخرى: المراد بمدة دوام السموات والأرض في هذا العالم فأخبر سبحانه أنهم خالدون في الجنة مدة دوام السماوات والأرض إلا ما شاء الله أن يزيدهم عليه. ولعل هذا قول من قال أن إلا بمعنى سوى ولكن اختلف عبارته وهذا اختيار ابن قتيبة. قال: المعنى خالدين فيها مدة العالم سوى ما شاء أن يزيدهم من الخلود على مدة العالم وقالت فرقة أخرى: ما بمعنى من قوله {فانكحا ما طاب لكم من النساء} (النساء:3) والمعنى إلا من شاء ربك أن يدخله النار بذنوبه من السعداء والفرق بين هذا القول وبين أول الأقوال: أن الاستثناء على ذلك القول من المدة وعلى هذا القول من الأعيان.

وقالت فرقة أخرى: المراد بالسموات والأرض سماء الجنة وأرضها، وهما باقيتان أبداً وقوله: {إلا ماشاء ربك} إن كانت ما بمعنى من فهم الذين يدخلون النار ثم يخرجون منها، وإن كانت بمعنى الوقت فهو مدة احتسابهم في البرزخ والموقف، قال الجعفي: سألت عبدالله بن وهب عن هذا الاستثناء، فقال سمعت فيه أنه قدر وقوفهم في الموقف يوم القيامة إلى أن يقضي بين الناس.

وقالت فرقة أخرى: الاستثناء راجع إلى مدة لبثهم في الدنيا وهذه الأقوال متقاربة ويمكن الجمع بينها بأن يقال أخبر سبحانه عن خلودهم في الجنة كل وقت إلا وقتا يشاء أن يكونوا فيها وذلك يتناول وقت كونهم في الدنيا وفي البرزخ وفي موقف القيامة وعلى الصراط، وكون بعضهم في النار مدة وعلي كل تقدير فهذه الآية من المتشابه وقوله فيها {عطاء غير مجذوذ} محكم وكذلك قوله {إن هذا لرزقنا ما له من نفاد} وقوله {أكلها دائم وظلها} وقوله {وما هم منها بمخرجين}.

وقد أكد الله سبحانه خلود أهل الجنة بالتأييد في عدة مواضع من القرآن وأخبر أنهم لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى. وهذا الاستثناء منقطع وإذا ضممته إلى الاستثناء في قوله {إلا ما شاء ربك} تبين لك المراد من الآيتين واستثناء الوقت الذي لم يكونوا في الجنة من مدة الخلود كاستثناء الموتة الأولى من جملة الموت فهذه موتة تقدمت على حياتهم الأبدية. وذلك مفارقة للجنة تقدم على خلودهم فيها. وبالله التوفيق.

وقد تقدم قول النبي صلى الله عليه وسلم [من يدخل الجنة ينعم ولا ييأس، ويخلد ولا يموت] وقوله [ينادي مناد يا أهل الجنة إنلكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وأن تشبوا فلا تهرموا أبداً وأن تحيوا فلا تموتوا أبداً].

وثبت في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [يجاء بالموت في صورة كبش أملح فيوقف بين الجنة ثم يقال: يا أهل الجنة فيطلعون مشفقين ويقال: يا أهل النار فيطلعون فرحين فيقال هل تعرفون هذا فيقولون: نعم هذا الموت فيذبح بين الجنة والنار ثم يقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت].

فصل

وهذا موضع اختلف فيه المتأخرون على ثلاثة أقوال:

أحدهما: أن الجنة والنار فانيتان غير أبديتين بل كما هما حادثتان فهما فانيتان.

والقول الثاني: أنهما باقيتان دائمتان لا يفنيان أبداً.

والقول الثالث: إن الجنة باقية أبدية والنار فانية، ونحن نذكر هذه الأقوال وما قابلها وما احتج به أرباب كل قول، ونرد ما خالف كتاب الله وسنة رسوله. فأما القول بفنائهما فهو قول قاله جهم بن صفوان إمام المعطلة الجهمية، وليس له فيه سلف قط من الصحابة ولا من التابعين ولا أحد من أئمة الإسلام ولا قال به أحد من أهل السنة. وهذا القول مما أنكره عليه وعلى أتباعه أئمة الإسلام وكفروهم به وصاحوا بهم من أقطار الأرض، كما ذكره عبدالله ابن الإمام أحمد في كتاب السنة عن خارجة بن مصعب أنه قال: كفرت الجهمية بثلاث آيات من كتاب الله عز وجل، بقول الله سبحانه وتعالى: {أكلها دائم وظلها} (الرعد:35) وهم يقولون لا يدوم، وبقول الله تعالى: {إن هذا لرزقنا ما له من نفاذ} (ص:54) وهم يقولون ينفد، ويقول الله عز وجل {ما عندكم ينفد وما عند الله باق} (النحل:96).

قال شيخ الإسلام: وهذا قاله جهم لأصله الذي اعتقده وهو امتناع وجود ما لا يتناهى من الحوادث وهو عمدة أهل الكلام التي استدلوا بها على حدوث الأجسام وحدوث ما لم يحل من الحوادث وجعلوا ذلك عمدتهم في حدوث العالم، فرأى الجهم أن ما يمنع من حوادث لا أول لها في الماضي يمنع في المستقبل فداوم الفعل ممتع عنده على الرب تبارك وتعالى في المستقبل، كما هو ممتنع عنده عليه في الماضي.

وأبو الهذيل العلاف شيخ المعتزلة وافقه على هذا الأصل، لكن قال: إن هذا يقتضي فناء الحركات لكونها متعاقبة شيئاً بعد شيء. فقال بفناء حركات أهل الجنة والنار حتى يصيروا في سكون دائم لا يقدر أحد منهم على حركة، وزعمت فرقة ممن وافقهم على امتناع حوادث لا نهاية لها أن هذا القول مقتضى العقل، لكن لما جاء السمع ببقاء الجنة والنار قلنا بذلك، وكأن هؤلاء لم يعلمون ما كان ممتعاً في العقل لا يجيء الشرع بوقوعه إذ يستحيل عليه أن يخبر بوجودها ما هو ممتنع في العقل وكأنهم لم يفرقوا بين مجالات العقول ومجازاتها، فالسمع يجيء بالثاني لا بالأول فالسمع يجيء بما يعجز العقل عن إدراكه ولا يستقل به ولا يجيء بما يعلم العقل إحالته.

والأكثرون الذين وافقوا جهماً وأبا الهذيل على هذا الأصل فرقوا بين الماضي والمستقبل، وقالوا: الماضي قد دخل في الوجود بخلاف المستقبل، والممتنع إنما هو دخول ما لا يتناهى في الوجود لا تقدير دخوله شيئاً بعد شيء. قالوا: وهذا نظير أن يقول القائل: لا أعطيك درهماً إلا وأعطيك بعده درهماً آخر فهذا ممكن، والأول نظير أن يقول: لا أعطيك درهماً إلا وأعطيك قبله درهماً فهذا محال، وهؤلاء عندهم وجود مالا يتناهى في الماضي محال ووجوده في المستقبل واجب، ونازعهم في ذلك آخرون فقالوا: بل الأمر في الماضي كهو في المستقبل ولا فرق بينهما، بل الماضي والاستقبال أمر نسبي فكل ما يكون مستقبلاً يصير ماضياً وكل ماض فقد كان مستقبلاً فلا يعقل إمكان الدوام في أحد الطرفين وإحالته في الطرف الآخر.

قالوا: وهذه مسألة دوام فاعلية الرب تبارك وتعالى وهو لم يزل رباً قادراً فعالاً فإنه لم يزل عليماً قديراً، ومن المحال أن يكون الفعل ممتنعاً عليه لذاته، ثم ينقلب فيصير ممكناً لذاته من غير تجديد شيء وليس للازم حد محدود حتى يصير الفعل ممكناً عند ذلك الحد ويكون قبله ممتنعاً عليه فهذا القول تصوره كاف في الجزم بفساده ويكفي في فساده أن الوقت الذي انقلب فيه من الإحالة الذاتية إلى الإمكان الذاتي أما أن يصح أن يفرض قبله وقت يمكن فيه الفعل أو لا يصح.

فإن قلتم لا يصح كان هذا تحكماً غير معقول وهو من جنس الهوس، وإن قلتم يصح: قيل وكذلك ما يفرض قبله لا إلى غاية، فما من زمن محقق أو مقدار إلا والفعل ممكن فيه وهو صفة كمال وإحسان ومتعلق حمد رب تعالى وربوبيته وملكه وهو لم يزل رباً حميداً ملكاً قادراً لم تتجدد له هذه الأوصاف كما أنه لم يزل حياً مريداً عليماً. والحياة والإرادة والعلم والقدرة تقضي آثارها ومتعلقاتها، فكيف يعقل حي قدير عليم مريد ليس له مانع ولا قاهر يقهره يستحيل عليه أن يفعل شيئاً البتة؟

وكيف يجعل هذا أصل من أصول الدين ويجعل معياراً على ما أخبر الله به ورسوله ويفرق به بين جائزات العقول ومحالاتها؟ فإذا كان هذا شأن الميزان فكيف يستقيم الموزون به، وأما قول من فرق بأن الماضي قد دخل في الوجود دون المستقبل فكلام لا تحقيق وراءه، فإن الذي يحضره الوجود من الحركات هو المتناهي ثم يعدم فيصير ماضياً، كما معدوماً لما كان مستقبلاً فوجوده بين عدمين وكلما انتقضت جملة حدثت بعدها جملة أخرى، فالذي صار ماضياً هو بعينه الذي كان مستقبلاً فإن الدليل على امتناع مالا يتناهى شيئاً قبل شيء فهو بعينه، دل على امتناعه شيئاً بعد شيء.

وأما تفريقكم بقولكم المستقبل نظير قوله: ما أعطيك درهماً إلا وأعطيك قبله درهما، فهذا ممكن. والماضي نظير قوله ما أعطيك درهماً إلا وأعطيك قبله درهماً، فهذا الفرق فيه تلبيس لا يخفى وليس بنظير ما نحن فيه بل نظيره أن يقول ما أعطيك درهماً إلا وقد تقدم مني إعطاء درهم قبله. فهذا ممكن الدوام في الماضي على حد إمكانه في المستقبل ولا فرق في العقل الصحيح بينهما البتة، ولما لم يجد الجهم وأبو الهذيل وأتباعهما بين الأمرين فرقاً قالوا: بوجوب تناهي الحركات في المستقبل كما يجب ابتداؤها عندهم في الماضي.

وقال أهل الحديث بل هما سواء في الإمكان والوقوع ولم يزل الرب سبحانه وتعالى فعالاً لما يريد ولم يزل موصوفاً بصفات الكمال منعوتاً بنعوت الجلال. وليس المتمكن من الفعل كل وقت كالذي لا يمكنه الفعل إلا في وقت معين وليس من يخلق كمن لا يخلق، ومن يحسن كمن لا يحسن، ومن يدبر الأمر كمن لا يدبر، وأي كمال في أن يكون رب العالمين معطلاً عن الفعل في مدة مقدرة أو محققة لا تتناهى يستحيل منه الفعل وحقيقة ذلك أنه لا يقدر عليه.

وإن أبيتم هذا الإطلاق وقلتم إن المحال لا يوصف بكونه غير مقدور عليه، فجمعتم بين محالين الحكم بإباحة الفعل من غير موجب لإحالته وانقلابه من الإحالة الذاتية إلى الإمكان الذاتي من غير تجدد سبب وزعمتم أن هذا هو الأصل الذي تثبتون به وجود الصانع وحدوث العالم وقيامة الأبدان فجنيتم على العقل والشرع، والرب تعالى لم ينزل قادراً على الفعل والكلام بمشيئته ولم يزل فعالاً لما يريد ولم يزل رباً محسناً.

والمقصود: أن القول بفناء الجنة والنار قول مبتدع لم يقله أحد من الصحابة ولا التابعين ولا أحد من أئمة المسلمين. والذين قالوه إنما تلقوه عن قياس فاسد كما اشتبه أصله على كثير من الناس فاعتقدوه حقاً وبنوا عليه القول بخلق القرآن ونفي الصفات وقد دل القرآن والسنة والعقل الصريح على أن كلمات الله وأفعاله لا تتناهى ولا تنقطع بآخر ولا تحد بأول قال تعالى: {قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً} (الكهف:109).

وقال تعالى: {ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم} (لقمان:27)، فأخبر عن عدم نفاذ كلماته لعزته وحكمته وهذان وصفان ذاتيان له سبحانه وتعالى لا يكون إلا كذلك.

وذكر ابن أبي حاتم في تفسيره عن سليمان بن عامر قال: سمعت الربيع بن أنس يقول إن مثل علم العباد كلهم في علم الله عز وجل كقطرة من هذه البحور كلها وقد أنزل الله سبحانه وتعالى في ذلك {ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام} - الآية.

وقوله {قل لو كان البحر مداداً} - الآية، يقول سبحانه وتعالى قل لو كان البحر مداداً لكلمات الله والشجر كلها أقلام لانكسرت الأقلام وفني ماء البحر وكلمات الله تعالى باقية لا يفنيها شيء لأن أحداً لا يستطيع أن يقدر قدره ولا يثني عليه كما ينبغي بل هو كما أثنى على نفسه إن ربنا كما يقول وفوق ما يقول، ثم إن مثل نعيم الدنيا أوله وآخره في نعيم الآخرة كحبة من خردل في خلال الأرض كلها.

فصل

وأما أبدية النار ودوامها فقال فيها شيخ الإسلام: فيها قولان معروفان عن السلف والخلف والنزاع في ذلك معروف من التابعين، وقلت: ههنا أقوال سبعة:

أحدها: أن من دخلها لا يخرج منها أبداً بل من دخلها خلد فيها أبد الآباد بإذن الله، وهذا قول الخوارج والمعتزلة.

والثاني: أن أهلها يعذبون فيها مدة ثم تنقلب عليهم وتبقى طبيعة نارية لهم يتلذذون بها لموافقتها لطبيعتهم، وهذا قول إمام الإتحادية ابن عربي الطائي.

قال في فصوصه: الثناء بصدق الوعد لا يصدق الوعيد والحضرة الإلهية تطلب الثناء المحمود بالذات، فيثني عليها بصدق الوعد لا بصدق الوعيد بل بالتجاوز {فلا تحسبنّ الله مخلف وعده رسله} (إبراهيم:47)، لم يقل وعيده بل قال {ونتجاوز عن سيئاتهم} (الأحقاف:16)، مع أنه توعد على ذلك، وأثنى على إسماعيل بأنه كان صادق الوعد وقد زال الإمكان في حق الحق من طلب المرجح:

فلم يبق إلا صادق الوعد وحده وما لوعيد الحق عين تعايـن

إن دخلوا دار الشقاء فإنهــم على لذة فيها نعيــم مبايـن

نعيم جنان الخلد والأمر واحد وبينهما عند التجلي تبايــن

يسمى عذاباً من عذوبة طعمه وذاك له كالقشر والقشر صاين

وهذا في طرف والمعتزلة الذين يقولون لا يجوز على الله أن يخالف وعيده بل يجب عليه تعذيب من توعده بالعذاب في طرف، فأولئك عندهم لا ينجو من النار من دخلها أصلاً، وهذا عنده لا يعذب بها أحد أصلاً. والفريقان مخالفان لما علم بالاضطرار أن الرسول جاء وأخبر به عن الله عز وجل.

الثالث: قول من يقول إن أهلها يعذبون فيها إلى وقت محدودثم يخرجون منها ويخلفهم فيها قوم آخرون، وهذا القول حكاه اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم فأكذبهم الله تعالى في القرآن فيه:

فقال تعالى: {وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة قل أتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده، أم تقولون على الله ما لا تعلمون* بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} (البقرة:80،81).

وقال تعالى: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم. ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون* ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون} (آل عمران:23،24).

فهذا القول إنما هو قول أعداء الله اليهود فهم شيوخ أربابه والقائلين به. وقد دل القرآن والسنة وإجماع الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام على فساده.

قال تعالى: {وما هم بخارجين من النار}، وقال: {وما هم منها بمخرجين}، وقال: {كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها}.

وقال تعالى: {كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها}، وقال تعالى: {لا يقضى عليهم فيموتوا لا يخفف عنهم من عذابها} (فاطر:36)، وقال تعالى: {ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط} (الأعراف:40).

وهذا أبلغ ما يكون في الإخبار عن استحالة دخولهم الجنة.

الرابع: قول من يقول: يخرجون منها وتبقى ناراً على حالها ليس فيها أحد يعذب. حكاه شيخ الإسلام. والقرآن والسنة أيضاً يردان على هذا القول كما تقدم.

الخامس: قول من يقول: بل تفني نفسها لأنها حادثة بعد أن لم تكن: وما ثبت حدوثه استحال بقاؤه وأبديته. وهذا قول جهم بن صفوان وشيعته ولا فرق عنده في ذلك بين الجنة والنار.

السادس: قول من يقول تفني حياتهم وحركاتهم ويصيرون جماداً لا يتحركون ولا يحسون بألم. وهذا قول أبي الهذيل العلاف إمام المعتزلة طرداً لامتناع حوادث لا نهاية لها. والجنة والنار عنده سواء في هذا الحكم.

السابع: قول من يقول: بل يفنيها ربها وخالقها تبارك وتعالى، فإنه جعل لها أمداً تنتهي إليه تفنى ويزول عذابها.

قال شيخ الإسلام: وقد نقل هذا القول عن عمر وابن مسعود وأبي هريرة وأبي سعيد وغيرهم. وقد روى عبد بن حميد وهو من أجل أئمة الحديث في تفسيره المشهور حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن الحسن قال: قال عمر: "لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج، لكان لهم على ذلك يوم يخرجون فيه".

وقال: حدثنا حجاج بن منهال عن حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن أن عمر بن الخطاب قال: "لو لبث أهل النار في النار عدد رمل عالج لكان لهم يوم يخرجون فيه" ذكر ذلك في تفسير قوله تعالى: {لابثين فيها أحقاباً} (النبأ:23)، فقد رواه عبد وهو من الأئمة الحفاظ وعلماء السنة عن هذين الجليلين سليمان بن حرب وحجاج بن منهال كلاهما عن حماد بن سلمة وحسبك به وحماد يرويه عن ثابت وحميد وكلاهما يرويه عن الحسن، وحسبك بهذا الإسناد جلالة.

والحسن وإن لم يسمع من عمر، فإنما رواه عن بعض التابعين ولو لم يصح عنده ذلك عن عمر لما جزم به. وقال: عمر بن الخطاب، ولو قدر أنه لم يحفظ عن عمر فتداول هؤلاء الأئمة له غير مقابلين له بالإنكار والرد مع أنهم ينكرون على من خالف السنة بدون هذا فلو كان هذا القول عند هؤلاء الأئمة من البدع المخالفة لكتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأئمة، لكانوا أو منكر له.

قال: ولا ريب أن من قال هذا القول عن عمر ونقله عنه إنما أراد بذلك جنس أهل النار الذين هم أهلها، فأما قوم أصيبوا بذنوبهم فقد علم هؤلاء وغيرهم أنهم يخرجون منها، وأنهم لا يلبثون قدر رمل عالج ولا قريباً منه.

ولفظ أهل النار لا يختص بالموحدين بل يختص بمن عداهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولا يناقض هذا قوله تعالى: {خالدين فيها} وقوله: {وما هم بمخرجين} (الحجر:48).

بل ما أخبر الله به هو الحق والصدق الذي لا يقع خلافه، لكن إذا انقضى أجلها وفنيت تفنى الدنيا لم تبق ناراً ولم يبق فيها عذاب قال أرباب هذا القول:

وفي تفسير علي بن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس في قوله تعالى: {قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم} قال: لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه ولا ينزلهم جنة ولا ناراً.

قالوا: وهذا الوعيد في هذه الآية مختصاً بأهل القبلة فإنه سبحانه قال: {ويوم يحشرهم جميعاً يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم.وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون} (الأنعام:128،129).

وأولياء الجن من الإنس يدخل فيها الكفار قطعاً فإنهم أحق بموالاتهم من عصاة المسلمين، كما قال تعالى: {إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون}.

وقال تعالى: {إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون} (النحل:99،100).

وقال تعالى: {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون، وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون} (الأعراف:201).

وقال تعالى: {أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو} (الكهف:50).

وقال تعالى: {فقاتلوا أولياء الشيطان}.

وقال تعالى: {أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون} (المجادلة:19).

وقال تعالى: {وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} والاستثناء وقع في الآية التي أخبرت عن دخول أولياء الشياطين النار.

فمن ههنا قال ابن عباس: لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله قالوا: وقول من قال إن (ألا) بمعنى سوى أي ما شاء الله أن يزدهم من أنواع العذاب وزمنه لا تخفى منافرته للمستثنى والمستثنى منه، وإن الذي يفهمه المخاطب مخالفة ما بعد (إلا) لما قبلها.

قالوا: وقول من قال إنه لاخراج ما قبل دخولهم إليها من الزمان كزمان البرزخ والموقف ومدة الدنيا أيضاً، لا يساعد على وجه الكلام، فإنه استثناء من جملة خبرية مضمونها أنهم إذا دخلوا النار لبثوا فيها مدة دوام السماوات والأرض إلا ما شاء الله.

وليس المراد الاستثناء قبل الدخول هذا مالا يفهمه المخاطب ألا ترى سبحانه يخاطبهم بهذا في النار حين يقولون: {ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا} فيقول لهم حينئذ: {النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله}.

وفي قوله: {ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا} نوع اعتراف واستسلام وتحسر أي استمتع الجن بنا واستمتعنا بهم، فاشتركنا في الشرك ودواعيه وأسبابه، وآثرنا الاستمتاع على طاعتك وطاعة رسلك، وانقضت آجالنا وذهبت أعمارنا في ذلك ولم نكتسب فيها رضاك. وإنما كان غاية أمرنا في مدة آجالنا استمتاع بعضنا ببعض.

فتأمل ما في هذا من الاعتراف بحقيقة ما هم عليه وكيف بدت لهم تلك الحقيقة ذلك اليوم، وعلموا أن الذي كانوا فيه في مدة آجالهم هو حظهم من استمتاع بعضهم ببعض ولم يستمتعوا بعبادة ربهم ومعرفته وتوحيده ومحبته وإيثار مرضاته.

وهذا من نمط قولهم: {لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} وقوله: {فاعترفوا بذنبهم} وقوله: {فعلموا أن الحق لله} ونظائره والمقصود أن قوله: {إلا ما شاء الله} عائد إلى هؤلاء المذكورين مختصاً بهم أو شاملاً لهم ولعصاة الموحدين، وأما اختصاصه بعصاة المسلمين دون هؤلاء فلا وجه له.

ولما رأت طائفة ضعف هذا القول قالوا: الاستثناء يرجع إلى مدة البرزخ والموقف. وقد تبين ضعف هذا القول، ورأت طائفة أخرى أن الاستثناء يرجع إلى نوع آخر من العذاب غير النار.

قالوا: والمعنى أنكم في النار أبداً إلا ما شاء الله أن يعذبكم بغيرها وهو الزمهرير وقد قال تعالى: {إن جهنم كانت مرصاداً. للطاغين مآباً. لابثين فيها أحقاباً} (النبأ:21-23).

وقالوا: والأبد لا يقدر بالأحقاب.

وقد قال ابن مسعود في هذه الآية: ليأتين على جهنم زمان وليس فيها أحد وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقاباً، وعن أبي هريرة مثله حكاه البغوي عنهما. ثم قال: ومعناه عند أهل السنة إن ثبت أنه لا يبقى فيها أحد من أهل الإيمان.

قالوا: قد ثبت ذلك عن أبي هريرة وابن مسعود وعبدالله بن عمر وقد سأل حرب اسحق بن راهويه عن هذه الآية فقال: سألت إسحق قلت قول الله تعالى: {خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك} فقال: أتت هذه الآية على كل وعيد في القرآن.

حدثنا عبيدالله بن معاذ حدثنا معتمر بن سليمان قال: قال أبي حدثنا أبو نضرة عن جابر أو أبي سعيد أو بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال هذه الآية تأتي على القرآن كله: {إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد} (هود:106).

قال المعتمر: قال أتى على كل وعيد في القرآن، حدثنا عبيدالله بن معاذ حدثنا أبي عن شعبة عن أبي بلخ سمع عمرو بن ميمون يحدث عن عبدالله بن عمرو قال ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد، وذلك بعدما يلبثون فيها أحقاباً.

حدثنا عبيدالله حدثنا أبي حدثنا شعبة عن يحيى بن أيوب عن ابن زرعة عن أبي هريرة قال: ما أنا بالذي لا أقول إنه سيأتي على جهنم يوم لا يبقى فيها أحد، وقرأ قوله: {فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق} الآية (هود:107).

قال عبيدالله: كان أصحابنا يقولون يعني به الموحدين حدثنا أبو معن حدثنا وهب بن جرير حدثنا شعبة عن سليمان التميمي عن أبي نضرة عن جابر بن عبدالله أو بعض أصحابه في قوله: {خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك} (هود:107) قال هذه الآية تأتي على القرآن كله. وقد حكى ابن جرير هذا القول في تفسيره عن جماعة من السلف فقال: وقال آخرون عني بذلك أهل النار وكل من دخلها. ذكر من قال ذلك ثم ذكر الآثار التي نذكرها.

وقال عبدالرزاق أنبأنا ابن التيمي عن أبيه نضرة عن جابر أو أبي سعيد أو عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: {إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد} قال هذه الآية تأتي على القرآن كله يقول حيث كان في القرآن خالدين فيها تأتي عليه قال: وسمعت أبا مجلز يقول: جزاؤه فإن شاء الله تجاوز عن عذابه.

وقال ابن جرير حدثنا الحسن بن يحيى أنبأنا عبدالرزاق فذكره قال وحدثت عن المسيب عمن ذكره عن ابن عباس: {خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك} قال استثنى الله قال أمر الله النار أن تأكلهم. قال: وقال ابن مسعود: ليأتين على جهنم زمان تصفق أبوابها ليس فيها أحد بعد ما يلبثون فيها أحقاباً، حدثنا ابن حميد حدثنا جرير بيان عن الشعبي قال: جهنم أسرع الدارين عمرانا، وأسرعهما خراباً.

وحكى ابن جرير في ذلك قولاً آخر فقال: وقال آخرون أخبرنا الله عز وجل بمشيئته لأهل الجنة فعرفنا معنى ثناياه بقوله {عطاء غير مجذوذ} وأنها لفي الزيادة على مقدار مدة السموات والأرض قالوا: ولم يخبرنا بمشيئته في أهل النار، وجائز أن تكون مشيئته في الزيادة وجائز أن تكون في النقصان. حدثنا يونس أنبأنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله تعالى: {خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك} فقرأ حتى بلغ {عطاء غير مجذوذ} فقال أخبرنا بالذي يشاء لأهل الجنة فقال: {عطاء غير مجذوذ} ولم يخبرنا بالذي يشاء لأهل النار.

وقال ابن مردويه في تفسيره: حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا جبير بن عرفة حدثنا يزيد بن مروان الخلال حدثنا أبو خليد حدثنا سفيان يعني الثوري عن عمرو بن دينار عن جابر قال قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق. خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك} (هود:106و107) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [إن شاء الله أن يخرج أناساً من الذين شقوا من النار فيدخلهم الجنة فعل]. وهذا الحديث يدل على أن الاستثناء إنما هو للخروج من النار بعد دخولها خلافاً لمن زعم أنه لما قبل الدخول، ولكن إنما يدل على إخراج بعضهم من النار، وهذا حق بلا ريب وهو لا ينفي انقطاعها وفناء عذابها وأكلها لمن فيها وأنهم يعذبون فيها دائماً ما دامت كذلك وما هم منها بمخرجين، فالحديث دل على أمرين: أحدهما: أن بعض الأشقياء إن شاء الله أن يخرجهم من النار وهي نار فعل، وأن الاستثناء إنما هو فيما بعد دخولها لا فيما قبله وعلى هذا فيكون معنى الاستثناء إلا ما شاء ربك من الأشقياء فإنهم لا يخلدون فيها ويكون الأشقياء نوعين نوعا يخرجون منها ونوعاً يخلدون فيها فيكونون من الذين شقوا أولاً ثم يصيرون من الذين سعدوا فتجتمع لهم الشقاوة والسعادة في وقتين قالوا وقد قال تعالى: {إن جهنم كانت مرصاداً، للطاغين مآباً، لابثين فيها أحقاباً، لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً، إلا حميماً وغساقاً، جزاء وفاقاً، إنهم كانوا لا يرجون حساباً، وكذبوا بآياتنا كذاباً} (النبأ:21-28)، فهذا صريح في وعيد الكفار المكذبين بآياته ولا يقدر الأبد بهذه الأحقاب ولا غيرها كما لا يقدر به القديم. ولهذا قال عبدالله بن عمرو فيما رواه شعبة عن أبي بلخ سمع عمرو بن ميمون يحدث عنه "ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقاباً".

فصل

والذين قطعوا بدوام النار لهم ست طرق:

أحدها: اعتقاد الإجماع فكثير من الناس يعتقدون أن هذا مجمع عليه بين الصحابة والتابعين لا يختلفون فيه، وأن الاختلاف فيه حادث وهو من أقوال أهل البدع.

الطريق الثاني: أن القرآن دل على ذلك دلالة قطعية فإنه سبحانه أخبر أنه عذاب مقيم، وأنه لا يفتر عنهم وأنه لن يزيدهم إلا عذاباً وأنهم خالدين فيها أبداً وما هم بخارجين من النار، وما هم منها بمخرجين، وأن الله حرم الجنة على الكافرين وأنهم لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط، وأنهم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها وأن عذابها كان غراماً، أي مقيماً لازماً. قال وهذا يفيد القطع بدوامه واستمراره.

الطريق الثالث: أن السنة المستفيضة أخبرت بخروج من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان دون الكفار، وأحاديث الشفاعة من أولها إلى آخرها صريحة بخروج عصاة الموحدين من النار وأن هذا حكم مختص بهم فلو خرج الكفار منها لكانوا بمنزلتهم ولم يختص الخروج بأهل الإيمان.

الطريق الرابع: أن الرسول وقفنا على ذلك وعلمناه من دينه بالضرورة من غير حاجة بنا إلى نقل معين، كما علمنا من دينه دوام الجنة وعدم فنائها.

الطريق الخامس: أن عقائد السلف وأهل السنة مصرحة بأن الجنة والنار مخلوقتان وأنهما لا يفنيان بل هما دائمتان، وإنما يذكرون فناءهما عن أهل البدع.

الطريق السادس: أن العقل يقضي بخلود الكفار في النار، وهذا مبني على قاعدة وهي أن المعاد وثواب النفوس المطيعة وعقوبة النفوس الفاجرة هل هو مما يعلم بالعقل أو لا يعلم إلا بالسمع؟ فيه طريقتان لنظار المسلمين، وكثير منهم يذهب إلى أن ذلك يعلم بالعقل مع السمع، كما دل عليه القرآن في غير موضع، كإنكاره سبحانه على من زعم أنه يسوي بين الأبرار والفجار، في المحيا والممات وعلى من زعم أنه خلق خلقه عبثاً، وأنهم إليه لا يرجعون، وأنه يتركهم سدى أي لا يثيبهم ولا يعاقبهم، وذلك يقدح في حكمته وكماله، وأنه نسبه إلى مالا يليق به وربما قرروه بأن النفوس البشرية باقية واعتقاداتها وصفاتها لازمة لها لا تفارقها وإن ندمت عليها، لما رأت العذاب فلم تندم عليها لقبحها أو كراهة ربها لها، بل لو فارقها العذاب رجعت كما كانت أولا قال تعالى: {ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين، بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون} (الأنعام:27،28).

فهؤلاء قد ذاقوا العذاب وباشروه ولم يزل سببه ومقتضيه من نفوسهم بل خبثها وكفرها قائم بها لم يفارقها بحيث لو ردوا لعادوا كفاراً كما كانوا وهذا يدل على أن دوام تعذيبهم يقضي به العقل كما جاء السمع، قال أصحاب الفناء الكلام على هذه الطرق يبين الصواب في هذه المسألة.

رد دعوى الإجماع في المسألة:

فأما الطريق الأول فالإجماع الذي ادعيتموه غير معلوم، وإنما يظن الإجماع في هذه المسألة من لم يعرف النزاع، وقد عرف النزاع فيها قديماً وحديثاً بل لو كلف مدّعي الإجماع أن ينقل عن عشرة من الصحابة فما دونهم إلى الواحد أنه قال: إن النار لا تفني أبداً، لم يجد إلى ذلك سبيلاً.

ونحن قد نقلنا عنهم التصريح بخلاف ذلك فما وجدنا عن واحد منهم خلاف ذلك بل التابعون حكوا عنهم هذا وهذا، قالوا: والاجماع المعتد به نوعان، متفق عليهما، ونوع ثالث مختلف فيه، ولم يوجد واحد منها في هذه المسألة النوع الأول ما يكون معلوماً من ضرورة الدين كوجوب أركان الإسلام وتحريم المحرمات الظاهرة.

الثاني: ما ينقل عن أهل الاجتهاد التصريح بحكمه.

الثالث: أن يقول بعضهم القول وينشر في الأمة ولا ينكره أحد، فأين معكم واحد من هذه الأنواع، ولو أن قائلا ادعى الإجماع من هذه الطرق واحتج أن الصحابة صح عنهم ولم ينكر أحد منهم عليه لكان أسعد بالإجماع منكم.

قالوا: وأما الطريق الثاني وهو دلالة القرآن على بقاء النار وعدم فنائها، فأين في القرآن دليل واحد يدل على ذلك؟ نعم، الذي دل عليه القرآن إن الكفار خالدين في النار أبداً، وأنهم غير خارجين منها وأنه لا يفتر عنهم عذابها وأنهم لا يموتون فيها وأن عذابهم فيها مقيم، وأنه غرام لازم لهم هذا كله مما لا نزاع فيه بين الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين وليس هذا مورد النزاع وإنما النزاع في أمر آخر وهو أنه هل النار أبدية أو مما كتب عليه الفناء؟ وأما كون الكفار لا يخرجون منها ولا يفتر عنهم من عذابها ولا يقضى عليهم فيموتوا ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط فلم يختلف في ذلك الصحابة ولا التابعون ولا أهل السنة وإنما خالف في ذلك من قد حكينا أقوالهم من اليهود والاتحادية وبعض أهل البدع. وهذه النصوص وأمثالها تقتضي خلودهم في دار العذاب ما دامت باقية ولا يخرجون منها مع بقائها البتة كما يخرج أهل التوحيد منها مع بقائها فالفرق بين من يخرج من الحبس وهو حبس على حاله وبين من يبطل حبسه بخراب الحبس وانتقاضه.

قالوا: وأما الطريق الثالث: وهي مجيء السنة المستفيضة بخروج أهل الكبائر من النار دون أهل الشرك فهي حق لا شك فيه وهي إنما تدل على ما قلناه من خروج الموحدين منها وهي دار العذاب لم تفن ويبقى المشركون فيها ما دامت باقية والنصوص دلت على هذا وعلى هذا.

قالوا: وأما الطريق الرابع: وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقفنا على ذلك ضرورة فلا ريب أنه من المعلوم من دينه بالضرورة أن الكفر باقون فيها ما دامت باقية هذا معلوم من دينه بالضرورة، وأما كونها أبدية لا انتهاء لها ولا تفنى كالجنة، فأين في القرآن والسنة دليل واحد يدل على ذلك.

قالوا: وأما الطريق الخامس وهو أن عقائد أهل السنة أن الجنة والنار مخلوقتان لا يفنيان أبداً. فلا ريب أن القول بفنائهما قول أهل البدع من الجهمية والمعتزلة. وهذا القول لم يقله أحد من الصحابة ولا التابعين ولا أحد من أئمة المسلمين وأما فناء النار وحدها فقد أوجدنا لكم من قال به من الصحابة وتفريقهم بين الجنة والنار فكيف يكون القول به أقوال أهل البدع مع أنه لا يعرف عن أحد من أهل البدع التفريق بين الدارين، فقولكم إنه من أقوال أهل البدع كلام من لا خبرة له بمقالات بني آدم وآرائهم واختلافهم.

قالوا: والقول الذي بعد من أقوال أهل البدع ما خالف كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة، أما الصحابة أو من بعدهم، وأما قول يوافق الكتاب والسنة وأقوال الصحابة فلا يعد من أقوال أهل البدع وإن دانوا به واعتقدوا فالحق يجب قبوله ممن قاله. والباطل يجب رده على من قاله وكان معاذ بن جبل يقول: "الله حكم قسط هلك المرتابون إن من ورائكم فتناً يكثر فيها المال ويفتح فيها القرآن حتى يقرؤه المؤمن والمنافق والمرأة والصبي والأسود والأحمر فيوشك أحدهم أن يقول: قد قرأت القرآن فما أظن أن يتبعوني حتى أبتدع فإن كل بدعة ضلالة وإياكم وزيغة الحكيم؟ فإن الشيطان قد يتكلم على لسان الحكيم بكلمة الضلالة، وإن المنافق قد يقول كلمة الحق فتلقوا الحق عمن جاء به فإن على الحق نوراً، قالوا: وكيف زيغة الحكيم، قال: هي الكلمة تروعكم وتنكرونها وتقولون ما هذه؟ فاحذروا زيغته ولا تصدنكم عنه فإنه يوشك أن يفيءوأن يراجع الحق، وإن العلم والإيمان مكانهما إلى يوم القيامة".

والذي أخبر به أهل السنة في عقائدهم هو الذي دل عليه الكتاب والسنة وأجمع عليه السلف أن الجنة والنار مخلوقتان، وأن أهل النار لا يخرجون منها ولا يخفف عنهم من عذابها ولا يفتر عنهم وانهم خالدون فيها، ومن ذكر منهم أن النار لا تفنى أبداً فإنما قاله لظنه أن بعض أهل البدع قال بفنائها، ولم يبلغه تلك الآثار التي تقدم ذكرها قالوا: وأما حكم العقل بتخليد أهل النار فيها، فإخبار عن العقل بما ليس عنده، فإن المسألة من المسائل التي لا تعلم إلا بخبر الصادق.

وأما أصل الثواب والعقاب: فهل يعلم بالعقل مع السمع أو لا يعلم إلا بالسمع وحده؟ ففيه قولان لنظار المسلمين من أتبع الأئمة الأربعة وغيرهم، والصحيح أن العقل دل على المعاد والثواب والعقاب إجمالاً وأما تفصيله فلا يعلم إلا بالسمع ودوام الثواب والعقاب ما لا يدل عليه العقل بمجرده، وإنما علم بالسمع وقد دل السمع دلالة قاطعة على دوام ثواب المطيعين، وأما عقاب العصاة فقد دل السمع أيضاً دلالة قاطعة على انقطاعه في حق الموحدين، وأما دوامه وانقطاعه في حق الكفار فهذا معترك النزال فمن كان السمع من جانبه فهو أسعد بالصواب. وبالله التوفيق.

الفرق بين دوام الجنة والنار شرعاً وعقلاً:

ونحن نذكر الفرق بين دوام الجنة والنار شرعاً وعقلاً وذلك يظهر من وجوه:

أحدها: أن الله سبحانه وتعالى أخبر ببقاء نعيم أهل الجنة ودوامه وأنه لا نفاد له ولا انقطاع وأنه غير مجذوذ، وأما النار فلم يخبر عنها بأكثر من خلود أهلها فيها وعدم خروجهم منها وأنهم لا يموتون فيها ولا يحيون وأنها مؤصدة عليهم وأنهم كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وأن عذابها لازم لهم وأنه مقيم عليهم لا يفتر عنهم والفرق بين الخبرين ظاهر.

الوجه الثاني: أن النار قد أخبر سبحانه وتعالى في ثلاث آيات عنها بما يدل على عدم أبديتها. الأولى: قوله سبحانه وتعالى: {قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم} (الأنعام:128)، الثانية: قوله: {خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد} (هود:107).

الثالثة: قوله: {لابثين فيها أحقاباً} (النبأ:23)، ولولا الأدلة القطعية الدالة على أبدية الجنة ودوامها لكان حكم الاستثناءين في الموضعين واحداً كيف وفي الآيتين من السياق ما يفرق بين الاستثناءين فإنه قال في أهل النار: {إن ربك فعال لما يريد} (هود:107)، فعلمنا أنه سبحانه وتعالى يريد أن يفعل فعلاً لم يخبرنا به، وقال في أهل الجنة: {عطاء غير مجذوذ} (هود:108)، فعلمنا أن هذا العطاء والنعيم غير مقطوع عنهم أبداً. فالعذاب مؤقت معلق والنعيم ليس بمؤقت ولا معلق.

الوجه الثالث: أنه قد ثبت أن الجنة لم يدخلها من لم يعمل خيراً قط من المعذبين الذين يخرجهم الله من النار، وأما النار فلم يدخلها من لم يعمل سوءاً قط ولا يعذب إلا من عصاه.

الوجه الرابع: أنه قد ثبت أن الله سبحانه وتعالى ينشيء للجنة خلقاً آخر يوم القيامة يسكنهم إياها ولا يفعل ذلك بالنار، وأما الحديث الذي قد ورد في صحيح البخاري من قوله: [وأما النار فينشيء الله لها خلقاً آخرين] فغلط وقع من بعض الرواة انقلب عليه الحديث وإنما هو ما ساقه البخاري في الباب بنفسه: [وأما الجنة فينشيء الله لها خلقاً آخرين] ذكره البخاري رحمه الله مبيناً أن الحديث انقلب لفظه على من رواه بخلاف هذا وهذا، والمقصود أنه لا تقاس النار بالجنة في التأبيد مع هذه الفروق.

الوجه الخامس: أن الجنة من موجب رحمته ورضاه، والنار من غضبه وسخطه، ورحمته سبحانه تغلب غضبه وتسبقه، كما جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: [لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده موضوع على العرش أن رحمتي تغلب غضبي]. وإذا كان رضاه قد سبق غضبه وهو يغلبه كان التسوية بين ما هو من موجب رضاه وما هو من موجب غضبه ممتنعاً.

الوجه السادس: أن ما كان بالرحمة وللرحمة فهو مقصود لذاته قصد الغايات وما كان من موجب الغضب والسخط فهو مقصود لغيره قصد الوسائل فهو مسبوق مغلوب مراد لغيره وما كان للرحمة فغالب سابق مراد لنفسه.

الوجه السابع: وهو أنه سبحانه قال للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء وقال للنار: أنت عذابي أعذب بك من أشاء، وعذابه مفعول منفصل، وهو ناشيء عن غضبه، ورحمته ههنا هي الجنة وهي رحمة مخلوقة ناشئة عن الرحمة التي هي صفة الرحمن فههنا أربعة أمور رحمة هي صفته سبحانه، وثواب منفصل هو ناشيء عن رحمته، وغضب يقوم به سبحانه، وعقاب منفصل ينشأ عنه إذا غلبت صفة الرحمة صفة الغضب فلأن يغلب ما كان بالرحمة لما كان بالغضب أولى وأحرى، فلا تقاوم النار التي نشأت عن الغضب الجنة التي نشأت عن الرحمة.

الوجه الثامن: أن النار خلقت تخويفاً للمؤمنين وتطهيراً للخاطئين والمجرمين، فهي طهرة من الخبث الذي اكتسبته النفس في هذا العالم فإن تطهرت ههنا بالتوبة النصوح والحسنات الماحية والمصائب المكفرة لم يحتج إلى تطهير هناك وقيل لها مع جملة الطيبين سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين. وإن لم تتطهر في هذه الدار ووافت الدار الأخرى بدونها ونجاستها وخبثها أدخلت النار طهرة لها ويكون مكثها في النار بحسب زوال ذلك الدرن والخبث والنجاسة التي لا يغسلها الماء، فإذا تطهرت الطهر التام أخرجت من النار والله سبحانه خلق عباده حنفاء وهي فطرة الله التي فطر الناس عليها، فلو خلوا وفطرهم لما نشؤوا إلا على التوحيد ولكن عرض لأكثر الفطر ما غيرها، ولهذا كان نصيب النار أكثر من نصيب الجنة وكان هذا التغيير مراتب لا يحصيها إلا الله فأرسل الله رسوله، وأنزل كتبه يذكر عباده بفطرته التي فطرهم عليها، فعرف الموفقون الذين سبقت لهم من الله الحسنى صحة ما جاءت به الرسل ونزلت به الكتب بالفطرة الأولى فتوافق عندهم شرع الله ودينه الذي أرسل به رسله وفطرته التي فطرهم عليها فمنعتهم الشرعة المنزلة والفطرة المكملة، أن تكتسب نفوسهم خبثاً ونجاسة ودرناً يعلق بها ولا يفارقها، بل كلما ألم بهم شيء من ذلك ومسهم طائف من الشيطان أغاروا عليه بالشرعة والفطرة فأزالوا موجبه وأثره، وكمل لهم الرب تعالى ذلك بأقضية يقضيها لهم مم يحبون أو يكرهون، تمحص عنهم تلك الآثار التي شوشت الفطرة فجاء مقتضى الرحمة فصادف مكاناً قابلاً مستعداً لها ليس فيه شيء يدافعه فقال هنا أمرت وليس لله سبحانه غرض. في تعذيب عباده بغير موجب كما قال تعالى: {ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكراً عليماً} (النساء:147)، واستمر الأشقياء مع تغيير الفطرة ونقلها مما خلقت عليه إلى ضده حتى استحكم الفساد وتم التغيير، فاحتاجوا إلى إزالة ذلك إلى تغيير أخر وتطهير ينقلهم إلى الصحة حيث لم تنقلهم آيات الله المتلوة والمخلوقة وأقداره المحبوبة والمكروهة في هذه الدار، فأتاح لهم آيات أخر وأقضية، وعقوبات فوق التي كانت في الدنيا تستخرج ذلك الخبث والنجاسة التي لا تزول بغير النار، فإذا زال موجب العذاب وسببه زال العذاب وبقي مقتضى الرحمة لا معارض له، فإن قيل هذا حق ولكن سبب التعذيب لا يزول إلا إذا كان السبب عارضاً كمعاصي الموحدين، أما إذا كان لازماً كالكفر والشرك فإن أثره لا يزول كما يزول السبب، وقد أشار سبحانه إلى هذا المعنى بعينه في مواضع من كتابه منها: قوله تعالى: {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه} فهذا إخبار بأن نفوسهم وطبائعهم لا تقتضي غير الكفر والشرك، وأنها غير قابلة للإيمان أصلاً. ومنها قوله تعالى: {ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً} (الإسراء:72)، فأخبر سبحانه أن ضلالهم وعماهم عن الهدى دائم لا يزول حتى مع معاينة الحقائق التي أخبرت بها الرسل، وإذا كان العمى والضلال لا يفارقهم فإن موجبه وأثره ومقتضاه لا يفارقهم. ومنها: قوله تعالى: {ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم، ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون} (الأنفال:23)، وهذا يدل على أنه ليس فيهم خير يقتضي الرحمة ولو كان فيهم خير ما ضيع عليهم أثره، ويدل على أنهم لا خير فيهم هناك أيضاً قوله: [أخرجوا من النار من كان في قلبه أدنى مثقال ذرة من خير] ولو كان عند هؤلاء أدنى أدنى مثقال ذرة من خير لخرجوا منها مع الخارجين.

قيل: لعمر الله إن هذا لمن أقوى ما يتمسك به من المسألة، وإن الأمر لكما قلتم، وإن العذاب يدوم بدوام موجبه وسببه، ولا ريب أنهم في الآخرة في عمى وضلال كما كانوا في الدنيا بواطنهم خبيثة كما كانت في الدنيا، والعذاب مستمر عليهم دائم ما داموا كذلك: ولكن هل هذا الكفر والتكذيب والخبث أمر ذاتي لهم زواله مستحيل أم هو أمر عارض طارئ على الفطرة قابل للزوال؟ هذا حرف المسألة وليس بأيديكم ما يدل على استحالة زواله وأنه أمر ذاتي وقد أخبر سبحانه أنه فطر عباده على الحنيفية، وأن الشياطين اجتالتهم عنها فلم يفطرهم سبحانه على الكفر والتكذيب، كما فطر الحيوان البهيم على طبيعته وإنما فطرهم على الإقرار بخالقهم ومحبته وتوحيده.

فإن كان هذا الحق الذي قد فطروا عليه وخلقوا عليه قد أمكن زواله بالكفر والشرك الباطل فإمكان زوال الكفر والشرك والباطل بضده من الحق أولى وأحرى، ولا ريب أنهم لو ردوا على تلك الحال التي هم عليها لعادوا لما نهوا عنه ولكن من أين لكم أن تلك الحال لا تزول ولا تتبدل بنشأة أخرى ينشئهم فيها تبارك وتعالى إذا أخذت النار مأخذها منهم، وحصلت الحكمة المطلوبة من عذابهم، فإن العذاب لم يكن سدى وإنما كان لحكمة مطلوبة. فإذا حصلت تلك الحكمة لم يبق في التعذيب أمر يطلب ولا غرض يقصد والله سبحانه ليس يشتفي بعذاب عباده كما يشتفي المظلوم من ظالمه وهو لا يعذب عبده لهذا الغرض، وإنما يعذبه طهرة له ورحمة به فعذابه مصلحة له، وإن تألم به غاية الألم كما أن عذابه بالحدود الدنيا مصلحة لأربابها.

وقد سمى الله سبحانه الحد عذاباً وقد اقتضت حكمته سبحانه أن جعل لكل داء دواء يناسبه، ودواء الداء العضال يكون من أشق الأدوية، والطبيب الشفيق يكوي المريض بالنار كياً بعد كي ليخرج منه المادة الرديئة الطارئة على الطبيعة المستقيمة وإن رأى قطع العضو أصلح للعليل قطعه وأذاقه أشد الألم فهذا قضاء الرب وقدره في إزالة مادة غريبة طرأت على الطبيعة المستقيمة بغير اختيار العبد، فكيف إذا طرأ على الفطرة السليمة مواد فاسدة باختيار العبد وإرادته؟

وإذا تأمل اللبيب شرع الرب تعالى وقدره في الدنيا وثوابه وعقابه في الآخرة وجد ذلك في غاية التناسب والتوافق وارتباط ذلك بعضه ببعض فإن مصدر الجميع عن علم تام وحكمة بالغة ورحمة وهو سبحانه الملك الحق المبين وملكه ملك رحمة وإحسان وعدل.

الوجه التاسع: إن عقوبته بعد ليست لحاجته إلى عقوبته لا لمنفعة تعود إليه ولا لدفع مضرة وألم يزول عنه بالعقوبة. بل يتعالى عن ذلك ويتنزه كما يتعالى عن سائر العيوب والنقائص، ولا هي عبث محض خال عن الحكمة والغاية الحميدة فإنه أيضاً يتنزه عن ذلك ويتعالى عنه، فإما أن يكون من تمام أوليائه وأحبابه، وإما أن يكون من مصلحة الأشقياء ومداواتهم، أو لهذا ولهذا.

وعلى التقادير الثالث، فالتعذيب أمر مقصود لغيره قصد الوسائل لا قصد الغايات والمراد من الوسيلة إذا حصل على الوجه المطلوب زال حكمها، ونعيم أوليائه، ليس متوقفاً في أصله ولا في كماله على استمرار عذاب أعدائه، وهوامه ومصلحة الأشقياء ليست في الدوام والاستمرار، وإن كان في أصل التعذيب مصلحة لهم.

الوجه العاشر: إن رضا الرب تبارك وتعالى ورحمته صفتان ذاتيتان له، فلا منتهى لرضاه بل كما قال أعلم الخلق به: سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته. فإن كانت رحمته غلبت فإن رضا نفسه أعلى وأعظم، فإن رضوانه أكثر من الجنات ونعيمها وكل ما فيها وقد أخبر أهل الجنة أنه يحل عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم أبداً، وأما غضبه تبارك وتعالى وسخطه فليس من صفاته الذاتية التي يستحيل انفكاكه عنها بحيث لم يزل ولا يزال غضبان والناس لهم في صفة الغضب قولان:

أحدهما: أنه من صفاته الفعلية القائمة به كسائر أفعاله.

والثاني: أنه صفة فعل منفصل عنه غير قائم به. وعلى القولين فليس كالحياة والعلم والقدرة التي يستحيل مفارقتها له والعذاب إنما ينشأ من صفة غضبه وما سعرت النار إلا بغضبه، وقد جاء في أثر مرفوع: [إن الله خلق خلقاً من غضبه وأسكنهم بالمشرق وينتقم بهم ممن عصاه] فمخلوقاته سبحانه نوعان من نوع مخلوق من الرحمة وبالرحمة. ونوع مخلوق من الغضب وبالغضب.

فإنه سبحانه له الكمال المطلق من جميع الوجوه الذي يتنزه عن تقدير خلافه ومنه أنه يرضى ويغضب ويثيب ويعاقب ويعطي ويمنع ويعز ويذل وينتقم ويعفو. بل هذا موجب ملكه الحق وهو حقيقة الملك المقرون بالحكمة والرحمة والحمد. فإذا زال غضبه سبحانه وتبدل برضاه زالت عقوبته وتبدلت برحمته فانقلبت العقوبة رحمة بل لم تزل رحمة وإن تنوعت صفتها وصورتها كما كان عقوبة العصاة رحمة وإخراجه من النار رحمة، فتقلبوا في رحمته في الدنيا وتقلبوا فيها في الآخرة، لكن تلك رحمة يحبونها وتوافق طبائعهم وهذه رحمة يكرهونها وتشق عليهم كرحمة الطبيب الذي يبضع لحم المريض ويلقي عليه المكاوي ليستخرج منه المواد الرديئة الفاسدة.

فإن قيل: هذا اعتبار غير صحيح فإن الطبيب يفعل ذلك بالعليل وهو يحبه وهو راض عنه ولم ينشأ فعله به عن غضبه عليه ولهذا لا يسمى عقوبة، وأما عذاب هؤلاء فإنه إنما حصل بغضبه سبحانه عليهم وهو عقوبة محضة.

قيل: هذا حق ولكن لا ينافي كونه رحمة بهم، وإن كان عقوبة لهم وهذا كإقامة الحدود عليهم في الدنيا فإنها عقوبة ورحمة وتخفيف وطهرة، فالحدود طهرة لأهلها وعقوبة، وهم ما أغضبوا الرب تعالى وقابلوه لما لا يطيق أن يقابل به وعاملوه أقبح المعاملة وكذبوه وكذبوا رسله وجعلوا أقل خلقه وأخبثهم وأمقتهم له نداً له، وآلهة معه وآثروا رضاهم على رضاه وطاعتهم على طاعته، وهو ولي الإنعام عليهم وهو خالقهم ورازقهم ومولاهم، الحق الذي اشتد مقته لهم وغضبه عليهم وذلك يوجب كمال أسمائه وصفاته التي يستحيل عليه تقدير خلافاتها ويستحيل عليه تخلف آثارها ومقتضاها عنها بل ذلك تعطل لأحكامها، كما أن نفيها عنه تعطيل لحقائقها وكلا التعطيلين محال عليه سبحانه.

فالمعطلون نوعان أحدهما: عطل صفاته والثاني عطل أحكامها وموجباتها. وكان هذا العذاب عقوبة لهم من هذا الوجه ودواء لهم من جهة الرحمة السابقة للغضب فاجتمع فيه الأمران، فإذا زال الغضب بزوال سببه وزالت المادة الفاسدة بتغير الطبيعة المقتضية لها في الجحيم بمرور الأحقاب عليها، وحصلت الحكمة التي أوجبت العقوبة عملت الرحمة عملها وطلبت أثرها من غير معارض.

الوجه الحادي عشر: وهو أن العفو أحب إليه سبحانه من الانتقام، والرحمة أحب إليه من العقوبة والرضا أحب إليه من الغضب. والفضل أحب إليه من العدل. ولهذا ظهرت آثار المحبة في شرعه وقدره ويظهر كل الظهور لعباده في ثوابه وعقابه، وإذا كان ذلك أحب الأمرين إليه وله خلق الخلق وأنزل الكتب وشرع الشرائع وقدرته سبحانه صالحة لكل شيء لا قصور فيها بوجه ما، وتلك المواد الرديئة الفاسدة مرض من الأمراض وبيده سبحانه الشفاء التام والأدوية الموافقة لكل داء، وله القدرة التامة والرحمة البالغة والغنى المطلق، وبالعبد أعظم حاجة إلى من يداوي علته التي بلغت غاية الضرر والمشقة، وقد عرف العبد أنه عليل وأن دواءه بيد الغني الحميد، فتضرع إليه ودخل به عليه واستكان له وانكسر قلبه بين يديه وذل لعزته وعرف أن الحمد كله له، وأن الخلق كله وأنه هو الظلوم الجهول وأن ربه تبارك وتعالى عامله بكل عدله لا يبغض عدله، وأن له غاية الحمد فيما فعل به، وأن حمده هو الذي أمامه، في هذا المقام وأوصله إليه وأنه لا خير عنده من نفسه بوجه من الوجوه، بل ذلك محض فضل الله وصدقه عليه وأنه لا نجاة له مما هو فيه بمجرد العفو والتجاوز عن حقه فنفسه أولى بكل ذم وعيب ونقص، وربه تعالى أولى بكل حمد وكمال ومدح.

فلو أن أهل الجحيم شهدوا نعمته سبحانه ورحمته وكماله وحمده الذي أوجب لهم ذلك فطلبوا مرضاته ولو بدوامهم في تلك الحال. وقالوا إن كان ما نحن فيه رضاك فرضاك الذي نرى وما أوصلنا إلى هذه الحال إلا طلب ما لا يرضيك فأما إذا أرضاك، هذا منا فرضاك غاية ما نقصده (وما لجرح إذا أرضاك من ألم) وأنت أرحم بنا من أنفسنا وأعلم بمصالحنا لك الحمد كله، عاقبت أو عفوت، لانقلبت النار عليهم برداً وسلاماً.

وقد روى الإمام أحمد في مسنده من حديث الأسود بن سريع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [يأتي أربعة يوم القيامة رجل أصم لا يسمع شيئاً، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في فترة، فأما الأصم فيقول: رب لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئاً. وأما الأحمق فيقول: رب لقد جاء الإسلام والصبيان يحذفوني بالبعر. وأما الهرم فيقول: ربي لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئاً، وأما الذي مات في الفترة فيقول: رب ما أتاني لك من رسول، فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه فيرسل إليهم أن ادخلوا النار، قال فو الذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم برداً وسلاماً].

وفي المسند أيضاً: من حديث قتادة عن الحسن عن أبي رافع عن أبي هريرة مثله وقال: [فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً ومن لم يدخلها يسحب إليها] فهؤلاء لما رضوا بتعذيبهم وبادروا إليه لما علموا أن فيه رضي ربهم وموافقة أمره ومحبته انقلب في حقهم نعيماً.

ومثل هذا، وما رواه عبدالله بن المبارك حدثني رشدين قال حدثني ابن أنعم عن أبي عثمان أنه حدثه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [إن رجلين ممن دخلا النار يشتد صياحهما. فقال الرب جل جلاله: أخرجوهما فإذا أخرجا فقال لهما: لأي شيء اشتد صياحكما؟ قالا: فعلنا ذلك لترحمنا، قال: رحمتي لكما أن تنطلقا فتلقيا أنفسكما حيث كنتما من النار. قال فينطلقان فيلقي أحدهما نفسه فيجعلهما الله سبحانه عليه برداً وسلاماً، ويقوم الآخر فلا يلقي فيقول له الرب: ما منعك أن تلقي نفسك كما ألقى صاحبك؟ فيقول: رب إني أرجوك أن لا تعيدني فيها بعد ما أخرجتني منها، فيقول الرب تعالى لك رجاؤك، فيدخلان الجنة جميعاً برحمة الله].

وذكر الأوزاعي عن بلاد بن سعيد قال: "يؤمر بإخراج رجلين من النار فإذا أخرجا ووقفا قال الله لهما كيف وجدتما مقيلكما وسوء مصيركما؟ فيقولان: شر مقيل، وأسوء مصير، ثار إليه العباد، فيقول لهما: بما قدمت أيديكما وما أنا بظلام للعبيد، قال: فيؤمر بصرفهما إلى النار فأما أحدهما فيغدو في أغلاله وسلاسله حتى يقتحمها: وأما الآخر فيتلكأ فيؤمر بردهما فيقول للذي غدا في أغلاله وسلاسله حتى اقتحمها: ما حملك على ما صنعت وقد خرجت منها؟ فيقول إني خبرت من وبال معصيتك ما لم أكن أتعرض لسخطك ثانياً. ويقول الذي تلكأ: ما حملك على ما صنعت؟؟ فيقول: حسن ظني بك حين أخرجتني منها أن لا تردني إليها فيرحمهما جميعاً ويأمر بهما إلى الجنة".

الوجه الثاني عشر: أن النعيم والثواب من مقتضى رحمته ومغفرته وبره وكرمه ولذلك يضيف ذلك إلى نفسه. وأما العذاب والعقوبة فإنما هو من مخلوقاته، لذلك لا يسمى بالمعاقب والمعذب بل يفرق بينهما فيجعل ذلك من أوصافه وهذا من مفعولاته حتى في الآية الواحدة كقوله تعالى: {نبيء عبادي أني أنا الغفور الرحيم. وأن عذابي هو العذاب الأليم} (الحجر:49-50)، وقال تعالى: {اعلموا أن الله شديد العقاب، وأن الله غفور رحيم} (المائدة:98)، وقال تعالى: {إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم} (الأعراف:67)، ومثلها في آخر الأنعام، فما كان من مقتضى أسمائه وصفاته فإنه يدوم بدوامها ولا سيما إذا كان محبوباً له وهو غاية مطلوبة في نفسها وأما الشر الذي هو العذاب في أسمائه وصفاته، وإن دخل في مفعولاته لحكمه إذا حصلت زال وفني بخلاف الخير، فإنه سبحانه دائم المعروف لا ينقطع معروفه أبداً وهو قديم الإحسان أبدي الإحسان، فلم يزل ولا يزال محسناً على الدوام. وليس من موجب أسمائه وصفاته أنه لا يزال معاقباً على الدوام غضبان على الدوام منتقماً على الدوام، فتأمل هذا الوجه تأمل فقيه في باب أسماء الله وصفاته، يفتح لك باباً من أبواب معرفته ومحبته.

الوجه الثالث عشر: وهو قول أعلم خلقه به، وأعرفهم بأسمائه وصفاته [والشر ليس إليك] ولم يقف على المعنى المقصود من قال الشر لا يتقرب به إليك، بل الشر لا يضاف إليه سبحانه بوجه لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ولا أسمائه، فإن ذاته لها الكمال المطلق من جميع الوجوه، وصفاته كلها صفات كمال يحمد عليها ويثنى عليه بها، وأفعاله كلها خير ورحمة وعدل، وحكمة لا شر فيها بوجه ما، وأسماؤه كلها حسنى، فكيف يضاف الشر إليه بل الشر في مفعولاته ومخلوقاته وهو منفصل عنه، إذ فعله غير مفعوله ففعله خير كله، وأما المخلوق المفعول ففيه الخير والشر.

وإذا كان الشر مخلوقاً منفصلاً غير قائم بالرب سبحانه فهو لا يضاف إليه وهو صلى الله عليه وسلم لم يقل: أنت لا تخلق الشر حتى يطلب تأويل قوله، وإنما نفي إضافته إليه وصفة وفعلاً وأسماء، وإذا عرف هذا فالشر ليس إلا الذنوب وموجباتها.

وأما الخير فهو الإيمان والطاعات وموجباتها، والإيمان والطاعات متعلقة به سبحانه، ولأجلها خلق خلقه وأرسل رسله وأنزل كتبه، وهي ثناء على الرب وإجلاله وتعظيمه وعبوديته، وهذه لها آثار تطلبها وتقتضيها فتدوم آثارها بدوام متعلقها.

وأما الشرور فليست مقصودة لذاتها. ولا هي الغاية التي خلق لها الخلق فهي مفعولات قدرت لأمر محبوب وجعلت وسيلة إليه فإذا حصل ما قدرت له اضمحلت وتلاشت وعاد الأمر إلى الخير المحض.

الوجه الرابع عشر: أنه سبحانه قد أخبر أن رحمته وسعت كل شيء. فليس شيء من الأشياء إلا وفيه رحمته ولا ينافي هذا أن يرحم العبد بما يشق عليه ويؤلمه وتشتد كراهته له فإن ذلك من رحمته أيضاً كما تقدم.

وقد ذكرنا حديث أبي هريرة آنفاً وقوله تعالى لذينك الرجلين: رحمتي لكما أن تنطلقا فتلقيا أنفسكما حيث كنتما من النار. وقد جاء في بعض الآثار أن العبد إذا دعا لمبتلى قد اشتد بلاؤه وقال: اللهم ارحمه: يقول الرب تبارك وتعالى: كيف أرحمه من شيء به أرحمه. فالابتلاء رحمة منه لعباده (وفي أثر إلهي) يقول الله تعالى: "أهل ذكري أهل مجالستي. وأهل طاعتي أهل كرامتي، وأهل شكري أهل زيادتي، وأهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي إن تابوا فأنا حبيبهم وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم أبتليهم بالمصايب لأطهرهم من المعايب": فالبلاء والعقوبة أدوية قدرت لإزالة أدواء لا تزول إلا بها والنار هي الدواء الأكبر فمن تداوى في الدنيا أغناه ذلك عن الدواء في الآخرة، وإلا فلا بد له من الدواء بحسب دائه ومن عرف الرب تبارك وتعالى بصفات جلاله ونعوت كماله من حكمته ورحمته وبره وإحسانه وغناه وجوده وتحببه إلى عباده وإرادة الإنعام عليهم وسبق رحمته لهم لم يبادر إلى إنكار ذلك إن لم يبادر إلى قبوله.

الوجه الخامس عشر: أن أفعاله سبحانه لا تخرج عن الحكمة والرحمة والمصلحة والعدل، فلا يفعل عبثاً ولا جوراً ولا باطلاً بل هو المنزه عن ذلك كما ينزه عن سائر العيوب والنقائص. وإذا ثبت ذلك فتعذيبهم إن كان رحمة بهم حتى يزول ذلك الخبث وتكمل الطهارة فظاهر، وإن كان لحكمة فإذا حصلت تلك الحكمة المطلوبة زال العذاب وليس في الحكمة دوام العذاب أبد الآباد بحيث يكون دائماً بدوام الرب تبارك وتعالى وإن كان لمصلحة فإن كان يرجع إليهم، فليست مصلحتهم في بقائهم في العذاب كذلك، وإن كانت المصلحة تعود إلى أوليائه فإن ذلك أكمل في نعيمهم فهذا لا يقتضي تأبيد العذاب وليس نعيم أوليائه وكماله موقوفاً، على بقاء آبائهم وأبنائهم وأزواجهم في العذاب السرمد.

فإن قلتم: إن ذلك هو موجب الرحمة والحكمة والمصلحة قلتم ما لا يعقل، وإن قلتم إن ذلك عائد إلى محض المشيئة ولا تطلب له حكمة ولا غاية فجوابه من وجهين.

أحدهما: إن ذلك محال على أحكم الحاكمين وأعلم العالمين أن تكون أفعاله معطلة عن الحكم والمصالح والغايات المحمودة والقرآن والسنة وأدلة العقول والفطر والآيات المشهودة شاهدة ببطلان ذلك.

والثاني: أنه لو كان الأمر كذلك لكان إبقاؤهم في العذاب وانقطاعه عنهم بالنسبة إلى مشيئته سواء ولم يكن في انقضائه ما ينافي كماله وهو سبحانه لم يخبر بأبدية العذاب وأنه لا نهاية له. وغاية الأمر على هذا التقدير: أن يكون من الجائزات الممكنات الموقوف حكمها على خبر الصادق. فإن سلكت طريق التعليل بالحكمة والرحمة والمصلحة لم يقتض الدوام، وإن سلكت طريق المشيئة المحضة التي لا تعلل لم تقتضه أيضاً. وإن وقف الأمر على مجرد السمع فليس فيه ما يقتضيه.

السادس عشر: أن رحمته سبحانه سبقت غضبه في المعذبين فإنه أنشأهم في رحمته، ورباهم برحمته ورزقهم وعافاهم برحمته وأرسل إليهم الرسل برحمته وأسباب النقمة والعذاب متأخرة عن أسباب الرحمة طارئة عليهم فرحمته سبقت غضبه فيها وخلقهم على خلقه، تكون رحمته إليهم أقرب من غضبه وعقوبته. ولهذا ترى أطفال الكفار قد ألقى عليهم رحمته فمن رآهم رحمهم، ولهذا نهى عن قتلهم فرحمته سبقت غضبه فيهم، فكانت هي السابقة إليهم ففي كل حال هم في رحمته في حال معافاتهم وابتلائهم.

وإذا كانت الرحمة هي السابقة فيهم لم يبطل أثرها بالكلية وإن عارضهم أثر الغضب والسخط فذلك لسبب منهم، وما أثر الرحمة فسببه منه سبحانه فما منه يقتضي رحمته. وما منهم يقتضي عقوبتهم والذي منه سابق غالب، وإذا كانت رحمته تغلب غضبه فلأن يغلب أثر الرحمة أثر الغضب أولى وأحرى.

الوجه السابع عشر: أنه سبحانه يخبر عن العذاب أنه عذاب يوم عقيم وعذاب يوم عظيم، وعذاب يوم أليم، ولا يخبر عن النعيم أنه نعيم يوم ولا في موضع واحد.

وقد ثبت في الصحيح: تقدير يوم القيامة بخمسين ألف سنة والمعذبون متفاوتون في مدة لبثهم في العذاب بحسب جرائمهم، والله سبحانه جعل العذاب على ما كان من الدنيا وأسبابها، وما أريد به الدنيا ولم يرد به وجه الله فالعذاب على ذلك.

وأما ما كان للآخرة وأريد به وجه الله فلا عذاب عليه، والدنيا قد جعل لها أجل تنتهي إليه فما انتقل منها إلى تلك الدار مما ليس لله فهو المعذب به. وأما ما أريد به وجه الله والدار الآخرة فقد أريد به مالا يفني ولا يزول، فيدوم بدوام المراد به، فإن الغاية المطلوبة إذا كانت دائمة لا تزول لم يزل ما تعلق به بخلاف الغاية المضمحلة الفانية، فما أريد به غير الله يضمحل ويزول بزوال مراده ومطلوبه وما أريد به وجه الله يبقى ببقاء المطلوب المراد فإذا اضمحلت الدنيا وانقطعت أسبابها وانتقل ما كان فيها لغير الله من الأعمال والذوات وانقلب عذابا وآلاماً لم يكن له متعلق يدوم بدوامه بخلاف النعيم.

الوجه الثامن عشر: أنه ليس في حكمة أحكم الحاكمين أن يخلق خلقاً يعذبهم أبد الآباد عذاباً سرمداً لا نهاية له ولا انقطاع أبداً، وقد دلت الأدلة السمعية والعقلية والفطرية على أنه سبحانه حكيم وأنه أحكم الحاكمين فإذا عذب خلقه عذبهم بحكمه كما يوجب التعذيب والعقوبة في الدنيا وقدره، فإن فيه من الحكم والمصالح وتطهير العبد ومداواته وإخراج المواد الرديئة بتلك الآلام ما تشهده العقول الصحيحة وفي ذلك من تزكية النفوس وصلاحها وزجرها وردع نظائرها وتوقيفها على فقرها وضرورتها إلى ربها وغير ذلك من الحكم والغايات الحميدة مالا يعلمه إلا الله.

ولا ريب أن الجنة طيبة لا يدخلها إلا طيب ولهذا يحاسبون إذا قطعوا الصراط على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة.

ومعلوم أن النفوس الشريرة الخبيثة المظلمة التي لو ردت إلى الدنيا قبل العذاب لعادت لما نهيت عنه، لا يصلح أن تسكن دار السلام في جوار رب العالمين، فإذا عذبوا بالنار عذاباً تخلص نفوسهم من ذلك الخبث والوسخ والدرن، كان ذلك من حكمة أحكم الحاكمين ورحمته ولا ينافي الحكمة خلق نفوس فيها شر يزول بالبلاء الطويل والنار، كما يزول بها خبث الذهب والفضة والحديد فهذا معقول في الحكمة وهو من لوازم العالم المخلوق على هذه الصفة.

أما خلق نفوس لا يزول شرها أبداً وعذابها لا انتهاء له، فلا يظهر في الحكمة والرحمة، وفي وجود مثل هذا النوع نزاع بين العقلاء أعني ذواتاً، هي شر من كل وجه ليس فيها شيء من خير أصلاً.

وعلى تقدير دخوله في الوجود، فالرب تبارك وتعالى قادر على قلب الأعيان وإحالتها وإحالة صفاتها.

فإذا وجدت الحكمة المطلوبة من خلق هذه النفوس والحكمة المطلوبة من تعذيبها، فالله سبحانه قادر أن ينشئها نشأة أخرى غير تلك النشأة، ويرحمها في النشأة الثانية نوعاً آخر من الرحمة.

الوجه التاسع عشر: وهو أنه قد ثبت أن الله سبحانه ينشيء للجنة خلقاً آخر، يسكنهم إياها، ولم يعملوا خيراً تكون الجنة جزاء لهم عليه، فإذا أخذ العذاب من هذه النفوس مأخذه وبلغت العقوبة مبلغها فانكسرت تلك النفوس وخضعت وذلت واعترفت لربها وفاطرها بالحمد، وأنه عدل فيها كل العدل، وأنها في هذه الحال كانت في تخفيف منه ولو شاء أن يكون عذابهم أشد من ذلك لفعل.

وشاء كتب العقوبة طلباً لموافقة رضاه ومحبته وعلم أن العذاب أولى بها وأنه لا يليق بها سواه ولا تصلح إلا له فذابت منها تلك الخبائث كلها وتلاشت، وتبدلت بذل وانكسار وحمد وثناء على الرب تبارك وتعالى، ولم يكن في حكمته أن يستمر بها في العذاب بعد ذلك، إذ قد تبدل شرها بخيرها، وشركها بتوحيدها وكبرها بخضوعها وذلها.

ولا ينتقص هذا بقوله عز وجل {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه} فإن هذا قبل مباشرة العذاب الذي يزيل تلك الخبائث، وإنما هو عند المعاينة قبل الدخول فإنه سبحانه قال {ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين، بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون} (الأنعام:27-28).

فهذا إنما قالوه قبل أن يستخرج العذاب منهم تلك الخبائث، فأما إذا لبثوا في العذاب أحقاباً، والحقب كما رواه الطبراني في معجمه من حديث أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [الحقب خمسون ألف سنة] فإنه من الممتنع أن يبقى ذلك الكبر والشرك والخبث بعد هذه المدد المتطاولة في العذاب.

الوجه العشرون: أنه قد ثبت في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري في حديث الشفاعة [فيقول الله عز وجل شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوماًلم يعملوا خيراً قط قد عادوا حما فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة، يقال له نهر الحياة فيخرجون كما تخرج الحبة في حميلالسيل.

فيقول أهل الجنة: هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه].

فهؤلاء أحرقتهم النار جميعهم فلم يبق في بدن أحدهم موضع لم تمسه النار، بحيث صاروا حما، وهو الفحم المحترق بالنار. وظاهر السياق أنه لم يكن في قلوبهم مثقال ذرة من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقاً كثيراً ثم يقولون ربنا لم نذر فيها خيراً، فيقول الله عز وجل: شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض الله قبضة من النار فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط.

فهذا السياق يدل على أن هؤلاء لم يكن في قلوبهم مثقال ذرة من خير، ومع هذا أخرجتهم الرحمة ومن هذا رحمته سبحانه للذي أوصى أهله أن يحرقوه بالنار ويذروه في البر والبحر زعماً منه بأنه يفوت الله سبحانه، بهذا قد شك في المعاد والقدرة ولم يعمل خيراً قط.

ومع هذا فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ قال: خشيتك وأنت أعلم، فما تلافاه أن رحمه الله فلله سبحانه في خلقه حكم لا تبلغه عقول البشر.

وقد ثبت في حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [يقول الله عز وجل: أخرجوا من النار من ذكرني يوماً أو خافني في مقام] قالوا: ومن ذا الذي في مدة عمره كلها من أولها إلى آخرها لم يذكر ربه يوماً واحداً ولا خافه ساعة واحدة، ولا ريب أن رحمته سبحانه إذا أخرجت من النار من ذكره وقتاً أو خافه في مقام ما، فغير بدع أن تفنى النار ولكن هؤلاء خرجوا منها وهي نار.

الوجه الحادي والعشرون: إن اعتراف العبد بذنبه حقيقة الاعتراف المتضمن لنسبة السوء والظلم واللوم إليه من كل وجه ونسبة العدل والحمد والرحمة والكمال المطلق إلى ربه من كل وجه، ويستعطف ربه تبارك وتعالى عليه، ويستدعي رحمته له.

وإذا أراد أن يرحم عبده ألقى ذلك في قلبه والرحمة معه، ولا سيما إذا اقترن بذلك جزم العبد على ترك المعاودة لما يسخط ربه عليه، وعلم الله أن ذلك داخل قلبه وسويدائه، فإنه لا تتخلف عنه الرحمة مع ذلك.

وفي معجم الطبراني من حديث يزيد بن سنان الرهاوي عن سليمان بن عامر عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن آخر رجل يدخل الجنة رجل يتقلب على الصراط ظهراً لبطن، كالغلام يضربه أبوه وهو يفر منه، يعجز عنه عمله أن يسعى فيقول: يا رب بلغ بي الجنة ونجني من النار، فيوحي الله تبارك وتعالى إليه: عبدي إن أنا نجيتك من النار وأدخلتك الجنة أتعترف لي بذنوبك وخطاياك؟ فيقول العبد: نعم يا رب، وعزتك وجلالك إن نجيتني من النار لأعترفن لك بذنوبي وخطاياي فيجوز الجسر، ويقول العبد فيما بينه وبين نفسه: لئن اعترفت له بذنوبي وخطاياي ليردني إلى النار، فيوحي الله إليه: عبدي اعترف لي بذنوبك وخطاياك أغفرها لك وأدخلك الجنة فيقول العبد: لا وعزتك وجلالك، ما أذنبت ذنباً قط ولا أخطأت خطيئة قط فيوحي الله إليه: عبدي إن لي عليك بينة، فيلتفت العبد يميناً وشمالاً فلا يرى أحداً، فيقول: يا رب أرني بينتك فيستنطق الله تعالى جلده بالمحقرات، فإذا رأى ذلك العبد فيقول: يا رب عندي وعزتك العظائم فيوحي الله إليه عبدي أنا أعرف بها منك اعترف لي بها أغفرها لك وأدخلك الجنة فيعترف العبد بذنوبه فيدخل الجنة]، ثم ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه يقول: [هذا أدنى أهل الجنة منزلة فكيف بالذي فوقه؟].

فالرب تعالى يريد من عبده الاعتراف والانكسار بين يديه والخضوع والذلة له والعزم على مرضاته، فما دام أهل النار فاقدين لهذه الروح فهم فاقدون لروح الرحمة فإذا أراد عز وجل أن يرحمهم أو من يشاء منهم جعل في قلبه ذلك فتدركه الرحمة، وقدرة الرب تبارك وتعالى غير قاصرة على ذلك، وليس فيه ما يناقض موجب أسمائه وصفاته، وقد أخبر أنه فعال لما يريد.

الوجه الثاني والعشرون: أنه سبحانه قد أوجب الخلود على معاصي من الكبائر وقيده بالتأييد ولم يناف ذلك انقطاعه وانتهاءه: فمنها: قوله تعالى: {ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً} (النساء:93).

ومنها: قول النبي صلى الله عليه وسلم: [من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في نار جهنم خالداً فيها أبداً] وهو حديث صحيح.

وكذلك قوله في الحديث الآخر في قاتل نفسه: [فيقول الله تبارك وتعالى بادرني عبدي بنفسه حرمت عليه الجنة] وأبلغ من هذا قوله تعالى: {ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبداً} (الجن:23)، فهذا وعيد مقيد بالخلود والتأييد، مع انقطاعه قطعاً بسبب من العبد وهو التوحيد، فكذلك الوعيد العام لأهل النار لا يمتنع انقطاعه، بسبب ممن كتب على نفسه الرحمة وغلبت رحمته غضبه، فلو يعلم الكافر بكل ما عنده من الرحمة لما يئس من رحمته كما في صحيح البخاري عنه صلى الله عليه وسلم: [خلق الله الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، وقال في آخره فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة، ولو يعلم المسلم بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار].

الوجه الثالث والعشرون: أنه لو جاء الخبر منه سبحانه صريحاً بأن عذاب النار لا انتهاء له، وأنه أبدي لا انقطاع له، لكان ذلك وعيداً منه سبحانه والله تعالى لا يخلف وعده، وأما الوعيد فمذهب أهل السنة كلهم أن أخلاقه كرم وعفو وتجاوز يمدح الرب تبارك وتعالى به ويثني عليه به فإنه حق له إن شاء تركه، وإن شاء استوفاه، والكريم لا يستوفي حقه فكيف بأكرم الأكرمين؟!

وقد صرح سبحانه في كتابه في غير موضع بأنه لا يخلف وعده، ولم يقل في موضع واحد لا يخلف وعيده.

وقد روى أبو يعلى الموصلي ثنا هديه بن خالد ثنا سهيل بن أبي حزم ثنا ثابت البناني عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [من وعده الله على عمل ثواباً فهو منجزه، ومن أوعده على عمل عقاباً فهو فيه بالخيار].

وقال أبو الشيخ الأصبهاني حدثنا محمد بن حمزة حدثنا أحمد بن الخليل حدثنا الأصمعي قال: "جاء عمرو بن عبيد إلى أبي عمرو بن العلاء فقال: يا أبا عمرو يخلف الله ما وعده؟ قال: لا، قال: أفرأيت من أوعده الله على عمله عقاباً أيخلف الله وعده عليه؟ فقال أبو عمرو بن العلاء من العجمة أتيت يا أبا عثمان إن الوعد غير الوعيد إن العرب لا تعد عاراً ولا خلقاً أن تعد شراً، ثم لا تفعله ترى ذلك كرماً وفضلاً، وإنما الخلف أن تعد خيراً ثم لا تفعله، قال: فأوجدني هذا في كلام العرب، قال: نعم، أما سمعت إلى قول الأول:-

ولا يرهب ابن العم ما عشت سطوتي ولا أختشي من صولة المتهدد

وإني وإن أوعدتــه أو وعدتـــه لمخلف إيعادي ومنجز موعدي

قال أبو الشيخ وقال يحيى بن معاذ: الوعد والوعيد حق، فالوعد حق العباد على الله ضمن لهم إذا فعلوه كذا أن يعطيهم وكذا، ومن أولى بالوفاء من الله، والوعيد حقه على العباد قال: لا تفعلوا كذا فأعذبكم، ففعلوا فإن شاء عفا، وإن شاء أخذ لأنه حقه وأولاهما بربنا تبارك وتعالى، العفو والكرم إنه غفور رحيم، ومما يدل على ذلك ويؤيده خبر كعب بن زهير حين أوعده رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:

نبئت أن رسول الله أوعدني والعفو عند رسول الله مأمول

فإذا كان هذا في وعيد مطلق، فكيف بوعيد مقرون، استثناء معقب بقوله {إن ربك فعال لما يريد} وهذا إخبار منه أن يفعل ما يريد عقيب قوله إلا ما شاء ربك فهو عائد إليه ولا بد، ولا يجوز أن يرجع إلى المستثنى منه وحده، إما أن يختص بالمستثنى أو يعود إليهما وغير خاف أن تعلقه بقوله {إلا ما شاء ربك} أو من تعلقه بقوله {خالدين فيها} وذلك ظاهر للمتأمل وهو الذي فهمه الصحابة، فقالوا: أتت هذه الآية على كل وعيد في القرآن، ولم يريدوا بذلك الاستثناء وحده، فإن الاستثناء مذكور في الأنعام أيضاً، وإنما أرادوا عقب الاستثناء بقوله {إن ربك فعال لما يريد} وهذا التعقيب نظير قوله في الأنعام {خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم} (الأنعام:128) فأخبر أن عذابهم في جميع الأوقات ورفعه عنهم في وقت يشاؤه صادر عن كمال علمه وحكمته لا عن مشيئة مجردة عن الحكمة والمصلحة والرحمة والعدل، وإذا يستحيل تجرد مشيئته عن ذلك.

الوجه الرابع والعشرون: أن جانب الرحمة أغلب في هذه الدار الباطلة الفانية الزائلة عن قرب من جانب العقوبة والغضب ولولا ذلك لما عمرت ولا قام لها وجود، كما قال تعالى: {ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليهم من دابة} وقال {ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة} (النحل:61)، فلولا سعة رحمته ومغفرته وعفوه لما قام العالم، ومع هذا فالذي أظهره من الرحمة في هذه الدار، وأنزله بين الخلائق جزء من مائة جزء من الرحمة، فإذا كان جانب الرحمة قد غلب في هذه الدار ونالت البر والفاجر والمؤمن والكافر، مع قيام مقتضى العقوبة به ومباشرته له وتمكنه من إغضاب ربه والسعي في مساخطته، فكيف لا يغلب جانب الرحمة في دار تكون الرحمة فيها مضاعفة، على ما في هذه الدار تسعاً وتسعين ضعفاً، وقد أخذا العذاب من الكفار مأخذه، وانكسرت تلك النفوس وأنهكها العذاب، وأذاب منها خبثاً وشراً لم يكن يحول بينها وبين رحمته لها في الدنيا، بل كان يرحمها مع قيام مقتضى العقوبة والغضب بها فيكيف إذا زال مقتضى الغضب والعقوبة، وقوى جانب الرحمة أضعاف أضعاف الرحمة في هذه الدار واضمحل الشر والخبث الذي فيها فأذابته النار وأكلته.

وسر الأمر أن أسماء الرحمة والإحسان أغلب وأظهر، وأكثر من أسماء الانتقام، وفعل الرحمة أكثر من فعل الانتقام وظهور آثار الرحمة أعظم من ظهور آثار الانتقام، والرحمة أحب إليه من الانتقام، وبالرحمة خلق خلقه ولها خلقهم، وهي التي سبقت غضبه وغلبته وكتبها على نفسه، ووسعت كل شيء، وما خلق بها فمطلوب لذاته، وما خلق بالغضب فمراد لغيره، كما تقدم تقرير ذلك والعقوبة تأديب وتطهير. والرحمة إحسان وكرم وجود والعقوبة مداواة، والرحمة عطاء وبذل.

الوجه الخامس والعشرون: أنه سبحانه لا بد أن يظهر لخلقه جميعهم يوم القيامة صدقه وصدق رسله، وأن أعداءهكانواهم الكاذبين المفترين، ويظهر لهم حكمه الذي هو أعدل حكم في أعدائه وأنه حكم فيها حكماً يحمدونه هم عليه فضلاً عن أوليائه وملائكته ورسله بحيث ينطق الكون كله بالحمد لله رب العالمين ولذلك قال تعالى: {وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين} (الزمر:75)، فحذف فاعل القول لإرادة الإطلاق وأن ذلك جار على لسان كل ناطق وقلبه. قال الحسن لقد دخلوا النار، وأن قلوبهم لممتلئة من حمده ما وجدوا عليه سبيلاً. وهذا هو الذي حسن حذف الفاعل من قوله {قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها} (الزمر:72) حتى كان الكون جميعه قائل ذلك لهم إذ هو حكمه العدل فيهم ومقتضى حكمته وحمده.

وأما أهل الجنة فقال تعالى: {وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين} (الزمر:73) فهم لم يستحقوها بأعمالهم وإنما استحقوها بعفوه ورحمته وفضله، فإذا أشهد سبحانه ملائكته وخلقه كلهم حكمه العدل وحكمته الباهرة. ووضعه العقوبة حيث تشهد العقول والفطر والخليقة أنه أولى المواضع وأحقها بها، وأن ذلك من كمال حمده الذي هو مقتضى أسمائه وصفاته وأن هذه النفوس الخبيثة الظالمة الفاجرة، لا يليق بها غير ذلك ولا يحسن بها سواه بحيث تعترف هي من ذواتها بأنها أهل ذلك وأنها أولى به حصلت الحكمة التي لأجلها، وجد الشر وموجباته في هذه الدار وتلك الدار.

وليس في الحكمة الإلهية أن الشرور تبقى دائماً لا نهاية لها ولا انقطاع أبداً، فتكون هي والخيرات في ذلك على حد سواء، فهذا نهاية أقدام الفريقين في هذه المسألة، ولعلك لا تظفر به في غير هذا الكتاب.

فإن قيل: فإلى أين أنتهى قدمكم في هذه المسألة العظيمة الشأن، التي هي أكبر من الدنيا بأضعاف مضاعفة؟

قيل: إلى قوله تبارك وتعالى: {إن ربك فعال لما يريد} (هود:107)، إلى هذا انتهى قدم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فيها حيث ذكر دخول أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، وما يلقاه هؤلاء وهؤلاء، وقال: ثم يفعل الله بعد ذلك ما يشاء.

بل وإلى ههنا انتهت أقدام الخلائق وما ذكرنا في هذه المسألة بل في الكتاب كله من صواب فمن الله سبحانه، وهو المعان به وما كان من خطأ فمني، ومن الشيطان والله ورسوله برئ منه، وهو عند لسان كل قائل وقلبه وقصده والله أعلم.

خاتمـــة

هذا ما استطعت جمعه من فضائل شيخنا وإمامنا وقدوتنا شيخ الإسلام، أحمد بن الحليم ابن تيمية رحمه الله -جمعناها رداً على الذي زعم بجهله أو بحقده- إن هذا الإمام قد كفره العلماء قبل موته، بل تطاول وقال وإنه لو قدر له أن يقوم من قبره لنفذ فيه حكم الردة ليعلم كل من تعصب لهذا الرجل ونصره رغم باطله أنه قد عمل في هدم الدين، وأساء أعظم إساءة إلى إمام عظيم من أئمة المسلمين لا زال فضله بعد الله على أهل الإسلام منذ عصره وإلى يومنا هذا، ولا زال علمه وكتبه مرجع الباحثين، وقبله طلاب العلم الشرعي الحقيقي أجمعين.

ولا شك أن كثرة التعرض لعرض شيخ الإسلام ابن تيمية إنما هو دليل فضله كما قالت السيدة عائشة رضي الله عنها عندما سمعت أن أناساً يسبون أبا بكر ويتهمونه قالت: أبا الله أن ينقطع عمله.. فمن سب مؤمناً كان له بهذا الأجر عند الله، وأما الظالم الشاتم فله الخزي والعار في الدنيا والآخرة {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً} (الأحزاب:58) والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على رسوله محمد وآله وصحبه أجمعين.

ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم.

***************

*******

***